آخر خبرافتتاحيةمقال اليوم

لبنان ومصر: مسافة السكّة أقرب..ولكن.  

سامي كليب:

                 كلّ خمس سنوات تُنجبُ مصر عدد سكان لبنان، فالزيادة الديمغرافية فيها تقارب المليون نسمة كل عام. ومساحتها تتخطى مليون متر مُربّع، بينما مساحة بلدنا بالكاد تناضل لتصل الى 11 ألف كيلومتر مربع، مع ذلك لم يحدث أي نمو اقتصادي في لبنان منذ سنوات طويلة، ولعلّ آخر مشروع إعمار فعلي هو الذي قام به الرئيس الشهيد رفيق الحريري رغم انقسام التيارات السياسية بشأن مشروعه، ذلك أن الذين انتقدوه وشككوا بنواياه، ما قاموا بشيء يُشكّل بديلا إعمارايا جاذبا بعد انتهاء الحرب الضروس. أما في مصرَ التي زارها اليوم رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري ليوْدِعَها آخرَ أسراره اللبنانية وربما مأساته مع السعودية، فهي تشهدُ منذ 7 سنوات نهضة اقتصادية وعمرانية وتنموية لافتة.

ولكي لا يُفسّرُ هذا الكلام عن النهضة الاقتصادية من باب المديح والتزلّف، يُمكن ان نستند الى رأيين دوليين، أولهما عبّرت عنه رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي الى مصر السيدة سيلين الآر حيث توقّعت أن يحقق الاقتصاد المصري نمواً ونهوضا قد يصلان في العام المالي المقبل الى نسبة تقارب 5،2%، وثانيهما من مُنسّقة الأمم المتحدة في مصر، التي قالت :” ان مصر هي من 10 دول في العالم نجحت في تقديم تقرير مُجتمعي وأن مبادرة حياة كريمة التي أطلقها الرئيس السيسي نجحت في التركيز على القرى الأكثر فقرا وتقدّم لهم البنية التحتية وتمكين المرأة اقتصاديا”.

تحولات اقتصادية كبرى

ووفق الاحصائيات المصرية الرسمية التي نشرتها ” الأهرام” فان جائحة كورونا التي شلّت معظم الاقتصاد العالمي، لم تمنع مصر من تحقيق نمو كبير وجذب استثمارات هائلة فتراجع معدل التضخم مُسجّلا 4،9 % في شهر أيار/ مايو مقابل 5 % في الشهر نفسه من العام الماضي، وارتفع الناتج المحلّي الإجمالي الى مستوى 6،4 تريليون جنيه ، ووصل النمو الى 5،5 % والعجز تراجع الى 7،7 ، وانخفضت معدّلات البطالة الى أقل من 8 % وعجز الموازنة الى 7،9 %، بينما حجم التدفقات الأجنبية تخطى 3،4 مليار دولار وبلغت تحويلات المصريين من الخارج 15،5 مليار دولار في النصف الأول من العام الحالي، وارتفع صافي الاحتياطات الأجنبية ليصل الى 40،3 مليار دولار في نيسان/ ابريل الماضي، كذلك ارتفع مؤشر الإنتاج ليبلغ 103،48% في شباط/ فبراير الماضي. يضاف الى ذلك جذب نحو مليون ونصف سائح منذ بداية العام بعد الخروج قليلا من جائحة كورونا.

هذه الأرقام الاقتصادية الكبيرة ارتبطت طبعا بالتحولات الاقتصادية الملحوظة والانفتاح الكبير على الدول الخليجية وتنويع التعاون الدولي وموازنته بين أميركا والصين وروسيا، في أعقاب اطاحة الجيش بالإخوان المسلمين والاستمرار بتطويق حركتهم وصولا الى حرمانهم من مناصب الدولة والإدارات، وهذا ما قرّب أكثر الأيديولوجيا المصرية الجديدة من دول الخليج (باستثناء قطر).

مسافة السكة عربيا

في القمة الأخيرة التي عُقدت بين مصر والأردن والعراق، كانت هذه المجالات الاقتصادية والتنموية هي الأساس، فبغداد تُريد خبراتٍ مصرية تُعيد ترتيب أولوياتها الاقتصادية وتُدرك أن الخطوط البرية والبحرية وسكك الحديد والمعابر التي يُمكن أن تقوم بين هذه الدول وغيرها، من شأنها احداث نهضة عربية حقيقية في المنطقة بعيدا من المشاريع الأخرى من إيران الى تركيا الى إسرائيل وغيرها.

الرهان المصري على 3 أمور، أي النهضة الاقتصادية، وتقليص كل نفوذ الإخوان، وتنويع الدعم والاتفاقيات الخارجية شرقا وغربا، نجح حتى الآن في إنعاش آمالاً كثيرة في الداخل المصري، وحسّن سعرُ الجنيه، وضاعف ثقة المصريين المقيمين في الخارج ببلادهم ( التحويلات الآنفة الذكر دليل ساطع على ذلك ) لا بل ونجح أيضا في تغيير  بعض ملامح القاهرة وامتداداتها العمرانية ونظافة شوارعها وأناقة بنيانها الحديث .

منذ حملته الانتخابية ووصوله الى السُلطة رفع الرئيس السيسي شعاراً عروبيا جاذبا :” مسافة السكة” مؤكدا أن أمن الدول العربية هو من أمن مصر، لكنه مارس دبلوماسية عالية وحذرة لعدم الانخراط الجدي في حرب اليمن الى جانب السعودية، ووصل الى حد الحرب مع تركيا في ليبيا، وتراوحت علاقاتُه مع دول المغرب بين مدّ وجذر خصوصا ان الاخوان المسلمين او حلفاءهم تولّوا حكومات المملكة المغربية وتونس وكان لهم دورٌ أمني وسياسي كبير في ليبيا وتأثيراتٌ غير مُباشرة في الجزائر وموريتانيا وغيرهما، وهم يناهضون اطاحة السيسي بالإخوان.

كذلك كان الرئيس المصري يُلمّح دائما الى ضرورة قيام دور عربي واستنهاض المشروع السياسي والاقتصادي والأمني العربي في مواجهة مشاريع أخرى وتحديدا من قبل إيران وتركية. وكانت عينُه طبعا على مناطق الأمن القومي المصري خصوصا لجهة أثيوبيا والسودان والبحر الأحمر.

أين لبنان من سكة مصر ؟

في هذه الاستراتيجية المصرية، يُمكن للبنان أن يكون ساحة جيدة لمصر رغم صغر حجمه وندرة امكانياته الاقتصادية وانحسار دوره الأمني في المحيط العربي، فعلى أرضه قلقٌ مصري من تيارات متطرفة أو اخوانية، وقلقٌ آخر من تمدّد تركيا في العمق السُني خصوصا الشمالي، وعلى أرضه أيضا دور إيراني يكبُر عبر حزب الله الذي بالمناسبة لم تنقطع علاقات الدبلوماسية المصرية معه في كل المراحل.

 

لم تبخل مصر في أن تكون سبّاقة في تقديم العون للبنان خصوصا منذ تفجير المرفأ، فأقامت جسورا جوية للمساعدات الطبية والغذائية، رغم ان شعبها يحتاجها، وأنشأت مستشفى ميدانيا، وكثّفت اللقاءات الدبلوماسية على أعلى المستويات، وقال الرئيس السيسي مرارا، وبينها ما قاله للرئيس الحريري نفسه في زيارة سابقة في شباط/ فبراير الماضي  من أن  على :” القادة اللبنانيين إعلاء المصلحة الوطنية، وتسوية الخلافات، وتسريع جهود تشكيل حكومة مستقلة قادرة على التعامل مع التحديات الراهنة وصون مقدرات الشعب اللبناني الشقيق ووحدة نسيجه الوطني.” مضيفا:” ان مصر مستعدّة دائما  لتقديم كافة أوجه الدعم والمساعدات لتجاوز الأزمات التي يواجهها لبنان، لاسيما التداعيات التي خلّفها كل من حادث انفجار مرفأ بيروت وجائحة فيروس كورونا”

الواقع أن قسما كبيرا من اللبنانيين يُحبُّ  عميقا مصرَ ( وبينهم كاتب هذه السطور) ، وهي وجهة دائمة للسياح اللبنانيين منذ سنوات، وغالبا ما يسمع الدبلوماسيون المصريون في بيروت كلاما عن رغبتهم ” بدور مصري أكثر حضورا وانخراطا في حل الأزمات”. وقد كبُر هذا التمني في ظل تراجع الاهتمام السعودي، وفي ظل رفع الرياض شعار تطويق المحور الإيراني في لبنان، وكبُر أيضا بعد تراجع الدعم العربي كثيرا لبيروت لجهة الاستثمارات والمساعدات وتحويلات ودائع مالية.

كانت القاهرة وما تزال قادرة على الإقدام على خطوة أكبر، كمثل أن تستضيف مؤتمرا لُبنانيا على أرضها تجمع فيه الأطراف حتى لو كان حضور ممثل عن حزب الله سيُحرجها خليجيا وربما دوليا، وكان يُمكنها ان تُعلن جهارا عن التنسيق المُباشر مع فرنسا لإنجاح المبادرة الفرنسية ( ذات الخلفية الفرنسية المصرية في الواقع)، وكان يُمكنها أن تُشكّلَ حاضنة للبيئة السُنيّة في غياب الاهتمام السعودي لتعزيز دورها في القرار ، لا بل ويمكنها كذلك لعب دور مفصلي في مسائل الحدود اللبنانية الإسرائيلية من خلال التنسيق مع أميركا وروسيا عبر لجنة مُشتركة تساهم في تخفيض التوتر وإيجاد فرصة حقيقة للانتهاء من هذا الملف المُعقّد والذي يُمكن لحلّه ان يفتح الأبواب على ثروات نفطية وغازية هائلة تحوّل لبنان من بلد الديون الى بلد الثروة والاستثمارات والنهوض الاقتصادي.

مسافة الطائرة بين بيروت والقاهرة هي أكثر بقليل من ساعة واحدة، ومسافة السكة قصيرة جداً، وغالبا ما يأتي دبلوماسيون مصريون الى لبنان من ذوي الخبرة الكبيرة في الشرق الأوسط والمجتمع الدولي، ومنهم حاليا السفير الموسوعي الثقافي والواسع الاطلاع والمتمتع بشبكة علاقات عربية ودولية كبيرة ياسر علوي والقناصل المميزين على غرار محمد مصلح ( الذي للأسف يغادرنا قريبا بعد ان ترك الكثير من روحه ومن الصداقات الحقيقية في لبنان)  ومحمد حنفي وغيرهما.

تستطيع مصر، ان تقدّم خبراتها الاقتصادية والتنموية وفي مجالات البُنى التحتية والمياه والكهرباء والطرقات والزراعة وغيرها، وتستطيع خصوصا أن تلعبَ دوراً سياسياً عربياً محورياً طالما أن معظم العرب خصوصا في الخليج يعيبون على لبنان ابتعاده عن العمق العربي بذريعة أن جزءا منه يسير في المشروع الإيراني. وإذا كانت السعودية تكاد تحصر تحالفاتها في لبنان اليوم برئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، فلا شك أن إمكانيات مصر ودبلوماسيتها النشطة وشبكة علاقاتها وخبراتها، تسمح  ( وبانتظار عودة الخليج ) بأن يشعر كلّ لبناني بأن الدور العربي الكبير الذي يُمكن أن تلعبه، سيبقى للتاريخ ذكرى مهمة يحملها اللبنانيون في قلوبهم  في حال نجح الدور المصري أو ساهم في انقاذ وطنهم من كبواته الكثيرة.

ربما لبنان أكثر من أي دولة عربية أخرى بحاجة اليوم الى ” مسافة السكة” على كل الصعد.

 

 

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button