ثقافة ومنوعات

وفي النباتِ أيضا سرُّ الحبّ والحياة

سامي كليب:

علّمتني الغُربةُ كالكثيرِ غيري، أن أتفنّن في إعداد الطعام حين أجد بعضَ وقتٍ لذاتي لا لعملي. فليس أجمل من العودة الى المنزل بعد رحلات إعلامية متعدّدة، ثم الذهاب للتسوّق وشراء ما خفّ وزنُه وطابَ طعمُه. وكنت منذ صغري وما زلت، أفضّلُ الخضارَ والفواكه على ما عداها، ولم أجد لحوماً وتمراً أكثر لذةً من تلك التي أكلتها في جنوب الجزائر والمغرب أو في موريتانيا. فطريقة الشواء عندهم مُغرية، تماما كما كان يُغريني السمك في المطاعم الشعبية بصنعاء، والحمام المحشي في القاهرة (أو المحشو كي لا يعتب سيبويه) وأطباق الكُسكُسي والطاجن في معظم دول المغرب.

             وعلّمتني بيروت على الخمول المطبخي، ذلك أن إغراء الغداء مع الأصدقاء في الخارج، أو حنان الأخوات (منذ وفاة أمي)، أو الأطباق الجاهزة الشهية، أو براعة مُدبّرة المنزل في إعداد أطباق متنوّعة، كلُّها أمورٌ تُبعدُ واحدَنا عن الاهتمام بما يأكل، وتجعل الأشياءَ التي يُفكّر بإعدادها، هزيلة، فقيرة، باردة، باهتة، أمام جمال المطبخ اللبناني المتنوّع والصحّي.

         قبل فترة قصيرة كنتُ أهمُّ بالسفر الى فرنسا، فأفرغتُ ثلاّجتي من كلّ ما فيها كي لا يتعفنّ أو يضيعَ هباءً. لكن بعض الرغباتِ، وربما أجملها، يأتينا على حين غرّة أو من حيث لا ننتظرُ انبعاثَها. هذا تماما ما حصلَ معي، حين شعرتُ ليلاً ببعض الجوع وأنا أُنهي آخر صفحةٍ من مُحاضرةٍ أكاديمية أسهرتني حتى قبيل الفجر.

       لا أدري لماذا نضع يدَنا فورنا فوق معدتِنا حين نشعرُ بشيء من الجوع، وكأننا نُطيّبُ خاطرَها كما يفعل الرجل المُحترم والمُحبّ مع زوجته أو حبيبته حين تعتب أو تغضب، أو نعدُها بما يخفّف عنها عناء الفراغ. فليس أسوأ من الفراغ في حياة أي مخلوق، ذلك أن الوقت يوحي بالتجمُّد والتسمّر ويصبحُ سَيرُه بطيئا الى درجةٍ غيرِ مُحتملة.

نهضتُ من على الكُرسي، فأنبأني بعضُ تشنُّجُ ظهري بأني جالسٌ هُنا منذ ستِ ساعاتٍ متواصلة. وكأنما حصل بين المَعِدة والظهر تآمرٌ واضحٌ لدفعي على تحريك مفاصلي وليس فقط أصابع يدي وعقلي. أدركتُ في هذه اللحظة بالضبط، كما أُدركُ كل يوم، بأن حياة الكاتب والإعلامي بحاجة الى مُحرّكات ومحفزّات خارجية كي ينهض من مكانه، والاّ فمصيرُه حتما تصلّبات لوحية عديدة في جسده، والابتعاد عمّن يُحبهُم ويحبّونه، ولحسن الحظ أني أمارس الرياضة وأحبّها… حتى إشعارٍ آخر.

توجّهت الى المطبخ الخاوي، كباحثٍ عن إبرةٍ في كومةِ قش. لم أجد سوى بصلتين، وفوقهما رأسين من “اللِفت” (يُسمّى أيضا الشغلم أو الشلغم). وبما أني كما أسلفتُ أفضل الخضار والفواكه على غيرها، فقد وجدتُ في اللفتِ ضالتي، فهو قد يبدو خُضاراً أو فواكه، وفق الناظرِ اليه، تماما كلوحة الموناليزا في متحف اللوفر. وأيقنتُ أن معدتي في هذا الوقت المتأخر من الليل، وبسبب الخواء الذي تُعانية، سوف تتقبل رأس لفتٍ بطيبِ خاطر، وربما بسعادة عامرة، فليس أجمل من الحصول على شيء بعد حرمان. رغم ان الحرمان قد يدفع الناس في بعض المرات الى سوء الاختيار أو التسرّع ثم الندم.

تمتّعت بتقشير أولَ رأسِ لفتٍ وأكلتُه بشيء من الحماسة الزائدة عن اللزوم، لكنه ما كان كافيا لسدِّ الجوع المفاجئ، ثم تناولتُ الآخر بيدي الُيسرى، وهممتُ بغرس السكين فيه بيدي اليُمنى، لكن يدي الحاملة السكين، تجمّدت وتراجعت فجأة على نحوٍ لا إرادي، لأن اليُمنى شعرت بطراوةِ رأس اللفت الثاني، بينما عيناي تسمّرتا على وريقاتٍ صغيرة خضراء نبتت فيه.

وبدلاً من أكلِه، جلستُ الى طاولة المطبخ أتأمله، ثم بحثتُ عن وعاء فارغ ملأته بالماء ووضعته فيه. لا بُدّ أن في هذا المخلوق حياةً رغم اقتلاعه من الأرض، ولا شكّ أن هذه الوريقات الخضراء الصغيرة، تُبشّر بولادة جديدة، فكيف يُمكن ليدي اليُمنى أن تتقدّم صوبه وتجرحه وتقضي على حياة في طور الولادة؟

كل العلوم الحديثة، تُثبتُ ان للنبات والأشجار والخضار والفواكه أحاسيس متعددة، وقد قرأت كتاباً قبل فترة بعنوان ” النبتة والأحاسيس” لمؤلفه دانيال شاموفيتس، يؤكد كما العديدة من الكتب والدراسات غيره، ان للنبات 12 حاسة إضافية عن حواس البشر. فالنبات ليس له عيون لكنه يستدير صوب الشمس والضوء، والأشجار والنباتات والورود وغيرها تُنذرُ جيرانها عبر الريح او الجذور بأن ثمة خطراً داهِما فتبث سموماً كي لا تلتهمها الحيوانات أو تؤذيها الحشرات، وكشفت بعضُ الدراسات في أميركا الجنوبية كيف أن أنواعاً من العرائش (الدوالي) البريّة تُكيّف شكلها ولونها وأوراقها مع الأشجار التي تتسلق عليها بغية التماثل معها وحماية نفسها.

ونحن نكتشف كلّ يوم مع شتولِ الورد في بيوتنا وعلى شرفاتنا، بأن ملامستها واسماعها الموسيقى والاهتمام بها وربما محادثتها كما كانت تفعل جدّاتنا، أمورٌ تُبقيها خضراء فرحة تُفرحُ من حولها وتنثرُ أريجها في أرجاء المكان، وأما اهمالُها فيتسبّب حتما بذبولها وموتها.

ملأتُ الوعاء بالماء ووضعتُ رأسَ اللفتِ فيه، وتركتُ نورَ شبّاك المطبخ يتسّلل اليه ويدفئ جسده ووريقاته الخضراء، وسافرتُ أسبوعاً، وحين عُدتُ وجدته قد أصبح نبتة كبيرةً، وشعرتُ بفرحنا المُتبادل هو وأنا بتجدّد اللقاء، وأيقنتُ أن كل شيء في هذه الحياة فيه حياة ويفرح ويحزن ويخاف ويطمئن، وأن على الانسان أن يُبادلَ كلّ ما حوله بالحبّ وأن ينتبه الى أدق التفاصيل في الآخر، ذلك أن كلمة واحدة أو حركة واحدة قد تجرح، وكلمة واحدة أو حركة واحدة قد تبعث الحياة وتجدّد الروح وتنثر الفرح وأريج المحبة.

لا أدري الى متى سيعيش رأسُ اللفتِ في مطبخي، فبعضُ وريقاته يميل الى الاصفرار، لكني سأعاملُه كانسان من لحم ودم حتى آخر لحظة من حياته، وأتركه يختارُ وقتَ رحيله بنفسه… وقد أحزن عليه. وهو حتما يشعرُ بذلك.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button