آخر خبرمقال اليوم

أن تعيش سورياً في أيامنا!

عقيل سعيد محفوض

علاقة السوريين بالسياسة غريبة، لم يعد لديهم كبير اهتمام بها، حتى ما يتصل بحياتهم ووجودهم ، أمر غريب وملغز حقاً. ولا يهتمون كثيراً بما يقوله الإعلام عنهم، ولا ما يقوله لهم. وسيان عندهم تقريباً بين أن يحاول أهل السياسة والحكومة رفع سقف التوقعات، أو أن يحاول خصوم الحكومة خفضها.

ثقة الناس بأهل السياسة والدولة غير موجودة بالأساس، لا يتوقف الأمر على حالة سورية الآن أو نتيجة الحرب؛ هذه مسألة تاريخية ونفسية ومعرفية كما هو معروف، فضلا عن أن الثقة بين المجتمعات ودولها، أو العكس، تشهد أزمات وخضات كبيرة على مستوى العالم، أي أنها ظاهرة عالمية، والسوريون خير مثال عليها!

لجأ فواعل السياسة والفكر تاريخياً وعملياً إلى “خلق” أو “تدبير” أنماط وسبل وطرائق لـ”موازنة” الموضوع أو “التمويه” فيه أو “التحايل” عليه، من خلال: المؤسسات الوسيطة والمؤسسات الأهلية والمدنية، والأحزاب، وديناميات توزيع الموارد، وصناديق الاقتراع الخ ومعلوم البلدان التي اشتغلت فيها تلك الأنماط -بحد أدنى من الكفاءة- لم تشهد خضات أو أزمات داخلية كبيرة، بل ان أكثرها يشهد مؤشرات تنمية وحياة، أين منها أوضاع السوريين اليوم؟

يحتاج الأمر إلى مقاربات مختلفة أو مقاربات مركبة، من قبيل التفكير في: كيف يمكن وقف تدهور الأوضاع، وتدهور قيمة الإنسان ومؤشرات عيشه ووجوده البيولوجي، ما يسميه ج. أغامبين “الحياة العارية” أو “الإنسان المستباح”!

وهنا يمثل الحفاظ على الحياة أحد أهم الواجبات في السياسة، وأصل من أصول ظاهرة الدولة، إن أمكن التعبير. ثمة تنظير كثير في هذا الباب. منذ أرسطو إلى ابن خلدون واخوان الصفا والفارابي إلى توماس هوبز وجان جاك روسو، وصولاً ميشيل فوكو وجورجيو اغامبين وغيرهم كثير.

لكن الأمور لا تقف هنا، إذ ان مهام الدولة لا تقف عند “مؤسسة إغاثة”، والأصل هو الانتقال من “حالة الاستثناء” و”الحياة العارية” أو “المستباحة”، إلى تمكين الإنسان من العيش الحر، وتأمين متطلبات الحياة. والأهم هو كيف يمكن استئناف السياسة، وإعادة بناء العقد الاجتماعي، وإعادة بناء الإرادة العامة والمشاركة في الشأن العام، وإعادة بناء فكرة المجتمع وفكرة الدولة.

ثمة مؤشرات -لا حصر لها تقريباً- على إخفاق كبير في قراءة ما يجري. الدولة والمجتمع لم يعودا كما كنا نعرفهما، إذ ان الحرب جعلت الناس مثل حبات الرمال، تذروهم الرياح في كل جهة وكل حين، وقد أصبح السوري “كائناً مهاجراً”، و”ظاهرة مهاجرة”، قد تكون الأكبر في التاريخ الحديث.

وأصبح السوري، بلا فكرة مجتمع ولا فكرة دولة، ومتوقعاً لأي شيء، وقابلاً لكل شيء. السوري الذي كان يحلم بـأمة كبرى ودولة كبرى في الإقليم، أحلام إمبراطورية وتاريخ مجيد، أصبح مشغولاً بكفاف يومه فحسب، وكل يوم تزداد حاجته وهمومه، ويزيد ثقل العيش عليه.

آخر تقرير للإسكوا وجامعة سانت اندروز  بعنوان “سوريا: بعد ثماني سنوات من الحرب”، يغطي الفترة بين العامين 2011 و2019؛ يتحدث عن خسائر تفوق 442 مليار دولار. وثمة تقديرات أكبر من ذلك. يقول التقرير: ان أكثر من 80% من الناس تحت خط الفقر.

هذا واقع خطير  للغاية، لا يبدو أنه مُوعىً به كفاية. وحتى إذا كان ثمة وعي لدى فاعل هنا وجهة هناك، إلا أنه لا يوصل إلى شيء، وما قيمة الوعي بالظاهرة أو الوعي بالشيء، إن لم تتوفر  الإرادة والهمة الكافية للقيام بالفعل. ان ما يحتاجه هذا البلد المشرقي الجميل هو “الوعي المتجه للفعل”.

صحيح أن الإجهاد وغرق الناس في تفاصيل اليومي، يمكن -من منظور ماكيافيلي!- أن يحول دون ظهور أو تشكل خط قوى مناهضة أو قوة معارضة ذات شأن، وقد يجعل الناس أكثر ميلا لتقبل الوضع الراهن، وبلا همة تقريباً، لكنه يمكن أن يجعل الناس قابلين لأي تدخل خارجي أو أي رهانات وخطط مفروضة من الخارج.

لعل أهم ما يمكن القيام به، وهذا من باب الواجبات، هو أن تقوم ديناميات قراءة وتفكير “مطابقة للواقع”، بتعبير ياسين الحافظ، وديناميات “تراسل” و”موازنة” بين المجتمع والنظام السياسي والدولة. وتقصي شواغل وهواجس الناس، وتمكينهم من تأمين الاحتياجات الأساسية/الحد الأدنى للعيش، ليس من خلال ديناميات تدخُّل ظهر فساداها وإخفاقها، وإنما من خلال تمكينهم من العمل والإنتاج.

والأهم هو تمكين الناس من المشاركة أو على الأقل إظهار قدر من الجدية في التعاطي مع هواجسهم وشواغلهم. وبالطبع إقامة حكم القانون والعدالة، ما أمكن منهما، وجبر الخواطر، والإيقاف العاجل لتدهور قيمة الحياة. وما أبعد الشقة!

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button