Uncategorizedافتتاحية

إعلام المطايا والخطايا

سامي كليب 

صارت النُكتة المؤلمة تقول :” إن أردت أن تعرف ما في الوطن العربي، فلا تشاهد شاشاته ولا تقرأ صحفه”، ذلك أن معظم ( وليس كل) الإعلام العربي سقط في مستنقع الفتن، وصار مطيّة للمحاور.   تمترست  وسائل الإعلام خلف دول ومشاريع ورؤوس أموال تقاتل بعضها بعضاً. انعدمت فيها الثقافة والمعرفة. استسهل الكثير من الزملاء الاطلالة على الشاشات او عبر الاذاعات والصحافة المكتوبة ووسائل التواصل الاجتماعي بكلام سطحي أو دعائي  أو ساذج أو فتنوي. فقدنا المصداقية والصدق والموضوعية، بينما العالم أعدّ لوطننا العربي الجريح خرائط تُرسم بدماء أهلنا.

بين الحياد والموضوعية فرق كبير. ليس مطلوباً من الصحافي أن يكون محايداً. إنما أن يكون موضوعياً. لا حياد في قضايا الشعوب المُحتلّة والمقهورة والجائعة، لكن المُعالجة يجب أن تُبنى على المعرفة والعلم والمعلومات والتحليل الدقيق، لا على الأهواء والإنتماءات السياسية والقبلية والعشائرية والعائلية والمذهبية والطائفية والعنصرية وغيرها.
ليس دورنا، نحن الصحافيين، ان نحتل الشاشة لنشتم هذا ونمدح ذاك. فكيف اذا كان المادح والشتَّام قد غيّر جلده مراراً، فصار اليوم يشتم من كان يمدحه بالأمس او يمدح من كان يشتمه بالامس؟. وليس دورنا ان نقرأ كالببغاء ما تكتبه الصحافة الاجنبية لنؤكد مقولة او ننفي اخرى، خصوصا حين يتعلق الأمر بوطننا العربي، حيث من المُفترض أن نكون نحن مصدر المعلومة للإعلام الغربي وليس العكس.  ولا دورنا ان نعتمد كتابي «صراع الحضارات» و»نهاية التاريخ» لصمويل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما ونضعهما في مصاف التقديس، بينما يزخر  الوطن العربي بخيرة الكتّاب والمفكّرين (المهدي المنجرة مثلا الذي اعتمد عليه هنتغتون وفوكوياما، او ادوارد سعيد، او جورج قرم ، او مالك بن نبي  أو سمير أمين أو جلال أمين أو محمد أركون أو   عابد الجابري وغيرهم ).
بات الجهل سمة ملازمة للكثير من الإعلاميين العرب. نرى نسبة كبيرة  من عارضي وعارضات الازياء والمفاتن على الشاشات (اي مذيعو العصر الحديث) يسترسلون بكلام فارغ وأخطاء لغوية فادحة. إن لم يكن كل شيء مكتوبا أمامهم على الشاشة الصغيرة تاهوا بين اللغة والمضمون . معظمهم يفتقر للمعرفة أو لقراءة كتاب واحد على الأقل في السنة، فتراهم  يتلون الأخبار ببغائيا، ويحاورون الضيوف  ببغائيا من خلال أسئلة مكتوبة سلفا من قبل رؤوساء تحرير أو منتجين مظلومين لكونهم يبقون خلف الشاشة أو في غرف التحرير جنودا مجهولين.

لو خرج المذيعون ( أو لنقل معظمهم)  عمّا هو مكتوب فإنهم غالبا ما يرتكبون الهفوة تلو الكارثة . كم إعلامي يعرف اليوم الفرق بين قبائل حاشد وبكيل في اليمن التي كان لها أثر وتأثير كبيران في التاريخ والحاضر؟ كم إعلامي يعرف الفرق بين جبال الاطلسي الرائعة في المملكة المغربية وحلف شمال الاطلسي؟ كم جهبذ على الشاشات يُدرك أين تقع موريتانيا وما هو دورها في التاريخ العربي والاسلامي منذ الاندلس حتى جرف السفارة الاسرائيلية بعد خطيئة ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس التي اعتبرها بوقاحته المعهودة عاصمة أبدية لاسرائيل ؟  الجهل يقتلنا فيساهم كثير من الإعلاميين في قتل واقعنا، وتجهيل من يشاهد ويقرأ
هل ثمة قيادي او رئيس او أمير او ملك او مؤيد او معارض واحد منزَّه عن الخطأ؟ فلماذا هذا الانبطاح الإعلامي أمام كل مسؤول في السلطة. هذا يمدحه طمعا بمكرمة وذاك يقدحه خدمة لمكرمة من مسؤول آخر.

لا توجد موضوعية مطلقة في الاعلام، لا الغربي ولا العربي، ولا أي اعلام آخر، لكن ثمة موضوعية نسبية لا بد من احترامها.
ليس مطلوباً من الصحافي الاّ يحبّ ويكره. هذا حقه. هو انسان كغيره، لكن الشاشة والاذاعة والصحيفة مسؤولية امام المهنة والتاريخ والحاضر والمستقبل. لن يغفر لنا أحد لو ساهمنا في سفك دم، او عمّقنا هوة الفتنة المذهبية، او صرنا متراساً لسياسات قاصرة ومشاريع متضاربة وسط بحر من الخرائط والدماء والدموع. حين يذبح الارهابي يجب ان نشرح، وحين نسمع عن براميل متفجرة يجب ان نحقّق. المعلومة هي الأساس، بغض النظر عمّن سيُهلل لها أو يشجبها.  المشاهد هو الذي يحكم.
في كل الصحف كتّاب محترمون وآخرون شتّامون. أجمل المقالات هي تلك التي يكتبها خصمك فينتقد باحترام ويُسند انتقاده بالمعلومات. هذا يفيدك أكثر من كاتب او مذيع قريب يمدحك فيضلّلك.
لماذا حوّلنا الفضائيات العربية والاذاعات والصحف الى ساحات «دواعش» اعلامية تذبح العقل والفكر والمنطق؟ لماذا انزلقنا الى هذا الدرك من انعدام الاخلاق المهنية والانحطاط الفكري والارتخاء النفسي امام المال؟ أين اصبحت شرعة الاعلام وحقوق الانسان ومبادئ المهنة ؟ لماذا هجرنا قضايانا العربية وغرقنا في وحول التقاتل. لماذا نرسم فخاخاً بعضنا لبعض، بينما أعداء هذه الأمة يفرحون لقتالنا، وينصبون لنا الفخاخ، ويسخرون من غبائنا، ويتفننون في رسم خرائط مستقبلنا.
نحتاج الى ربيع اعلامي حقيقي. ربيع تزهر فيه مجدداً اخلاق المهنة وموضوعيتها. ربيع تصحو معه الضمائر، فنعمل على رأب الصدع، وعلى التقريب بين القلوب، وعلى رفع مستوى الوعي، وعلى إقامة جسور المعرفة والحوار والتواصل أولا بين أهلنا في الوطن العربي، ثم مع باقي دول العالم شرقا وغربا، فهذا وحده كفيل بتجنيب أوطاننا مآسٍ ودماء ودموعاً اضافية .
من يقرأ مجلدات ووثائق الخارجيات البريطانية والاميركية والروسية والفرنسية والالمانية، المفرج عنها في السنوات الاخيرة، يدرك اننا جميعاً نكرّر خطأ التاريخ. هكذا كان حالنا حين تقاتلنا بينما خرائط سايكس بيكو كان تُرسم بدماء العرب وجهلهم، وهكذا كان حالنا حين احتُلت فلسطين بغفلة من الزمن وغباء ممن ظنّ أن ما يصيبها عابر، وهكذا كان حالُنا حين اختلف العرب بشأن إحتلال العراق فمنهم من دعم ومنهم من شجب وكان الربحُ من نصيب آل بوش وحاشيتهم، وهكذا أيضا حين قُسّم السودان بلعبة الأمم، وحين احتُلت بيروت، وغرقت الجزائر بعشريتها الحمراء، وناء اليمن تحت الحرب والفقر، ومُزقت ليبيا، ودُمرت سورية، وغار الجرح في فلسطين. في كل مرة  يكرّر السياسيون العرب الخطأ نفسه والتآمر نفسه على بعضهم البعض، هكذا استهزأ بهم من أقنعهم عبر التاريخ بأن الوقوف مع الحلفاء ضد ألمانيا في الحرب العالمية سيعطيهم استقلالهم وسيادتهم ويعيد اليهم كرامة ضاعت، فكانت النتيجة انهم استبدلوا النير العثماني بنير فرنسي ــــ بريطاني، ثم اميركي.

من يُراجع إعلام ذاك الزمان سيجد، تماما كما إعلام اليوم، صحافيين مطايا هلّلوا وامتدحوا وقدحوا، وقد يجد صحافة عربية مُرحّبة ومن قلب القدس بالحركة الصهيونية على أساس أنها علمانية يسارية، بينما الخرائط كانت تمرّ تحت عيونهم المُقفلة على الحقيقة المرة. التاريخ يُكرّر نفسه، والعرب يكرّرون أخطاء التاريخ والجغرافيا، والإعلام يُغمض عينيه أو يُشارك في المؤامرة عمدا أو جهلا.

لا بُدّ من ربيع إعلامي ونهضة أخلاقية ومهنية تستند الى المعرفة ورفعة النفس والترفّع عن المغريات،وتستعيد مباديء وشرعة وأخلاق الإعلام الصادق النزيه،  كي نستحق لقب الإعلامي لا البوق.

#إعلاميون_لا_أبواق.

Related Articles

2 Comments

  1. بمنتهى الشفافية، ومنتهى الصدق، ومنتهى الحرقة، ولكن اسمح لي بمزيد من الأسى أن أعلق؛
    لقد أسمعت لو ناديت حياً…..
    كل الاحترام

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button