آخر خبرافتتاحية

لبنان: ماذا لو تفاهمت واشنطن مع الحزب؟

سامي كليب 

لكثرة ما كرّروا أن مشكلة الحكومة اللبنانية داخلية بين الرئيس المُكلّف سعد الحريري، ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومن خلفه رئيس التيار الوطني الحُرّ جبران باسيل، كاد اللبنانيون يصدّقون أن كلّ القضية تتوقف على تعيين وزيرين. الواقع هو غير ذلك تماما، هو في مكان آخر مختلف، تجري تفاصيلُه في الكواليس الإقليمية والدولية، لتحديدِ شكلِ النظام المُقبل في لبنان. لذلك يبدو أن تقاطعَ المصالح بين أطراف دولية وإقليمية ومحلية يفترض انهيارا شاملا، لإعادة البناء على أسس جديدة. وكل طرفٍ يُريدُها لصالحه.

للتوضيح أكثر، دعونا نطرح بعض الأسئلة؟

  • هل مشكلة الحريري مع رئيس الجمهورية أعمق فعليا من مشكلة “الوسيط “الرئيس نبيه بري ورئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط بالأصل مع الرئيس عون وباسيل؟ الأكيد لا، فالرجلان لم يهضما يوما وصوله الى السلطة، ولا هو هضمهما. بينما الحريري نجح في التفاهم معه أكثر من مرة.
  • هل كان يُمكن للحريري أن يمضي قُدُما في ما كان قد بدأه من تسوية غير مُعلنة، تقضي بأن يبقى هو رئيسا للحكومة، مقابل الوعد القاطع بأن يُصبح جُبران باسيل رئيسا للجمهورية، فتكون تسوية مستندة بالدرجة الأولى الى أساسٍ سُنّي ماروني؟ الأكيد لا، فالثنائي الشيعي ومعهم جنبلاط كانوا سيجهضونها حتما.
  • هل أن حزب الله كان قادرا فعلا على التمتع بحرية حركة سياسية تُشبه قدراته العسكرية، فيفرض تسوية في ظل تنازعه بين حليفه الجديد ميشال عون وحليفه الاستراتيجي نبيه برّي؟ أكيد لا. هو أراد أن يبقى حَكَماً بين الاثنين، وبيضةَ القبّان.
  • هل كان الحريري قادراً أو راغباً بخوض معارك مع حزب الله وإيران، كي يكسبَ رضى السعودية ودول عربية أخرى؟ الأكيد لا. فهذا كان بمثابة انتحارٍ مضمون له، أو كان سيجعل لُبنانَ مثل ليبيا او اليمن.
  • هل كانت انتفاضة 17 تشرين قادرة على تشكيل قوة ضغط كُبرى وتغيير النظام والتأسيس لنظامٍ بديلٍ بلا قاعدةِ شعبية شيعية؟ الأكيد لا، ولذلك فحين رَفعت شعاراتٍ مناهضةً للحزب وبرّي طُوِّقت وضُربت، تحت ذرائع مختلفة. إضافة الى عدم اتفاق أطرافها على برنامج موحّد وقيادة موثوقة وموحّدة.
  • هل كان الأميركيون يريدون فعلاً نجاحَ ثورةٍ شعبية للإطاحة بالنظام كله؟ الأكيد لا، فهم كانوا وما يزالون يفضّلون تغييرا من الداخل بعد اهتراء الوضع، وهذا ما سعوا وما يزالون يسعون اليه حتى اليوم. وآخر تصريح لوزير خارجيتهم أنتوني بلينكن كان واضحا في الاعتماد على الجماعة السياسية نفسها للشروع بالإصلاح.
  • هل حزب الله يفضّل النظام اللبناني الحالي، أم يسعى الى تعديله قياسا الى واقع لبنان؟ هو ضمنيا يفضل التعديل.

ماذا حصل إذا؟

أولا: نجح الثنائي الشيعي (أي حزب الله وحركة أمل)، في دفعِ الحصار الدولي عنهما، وجذبِ كلِّ الحركةِ السياسية صوبهما. فالرئيس بري صار الراعي الرسمي للحريري (أي للزعيم السُني الأكثر تمثيلا في البرلمان وعلى الأرض حاليا)، وحزب الله بات حامي العهد وكل ما حوله (أي أنه حامي أحد أبرز الزعامات المسيحية). ناهيك طبعا عن الاحتضان الدائم من قبل برّي لحليفه وصديقه الدائم وليد جنبلاط. أي أن ” الشيعية السياسية” (ثمة من لا يحب هذا الوصف)، صارت حجر الرحى في التركيبات السياسية، لذلك انفتح عليها الفرنسيون وغازلها الروس والصينيون وغيرهم.

ثانيا: دخلت أميركا على خط لُبنان من بوابة ترسيم الحدود. وحين لم تحصل على ما تُريد، حمّلت باسيل مسؤولية الخطأ الأول فسرّب بعضُ المسؤولين الاميركيين معلوماتٍ تُفيد بأنه وعد بأمور كثيرة في مسألة ربط ترسيم الحدود البحرية بالبرية ولكنه لم يفِ بذلك فكانت نهايته السياسية أميركيا ؟ ثم حمّلت واشنطن الرئيس بري مسؤوليةً مماثلةً لاحقاً قبل أن يتلقّف الأمر، وكانت النتيجة عقوبات على جبران باسيل وعلي حسن الخليل وبينهما على يوسف فنيانوس نظرا لدوره في الوساطات الكثيرة في لبنان وعلى خط لبنان سورية. وأوصلت واشنطن آنذاك رسائل تُنذر بعقوبات أكبر تطال مسؤولين كبار وعائلاتهم، فحصلت حلحلة في مسالة الترسيم التي ما تزال حتى اليوم غامضة.

ثالثا: رأت واشنطن، في عهد دونالد ترامب، أن لا مجال لإنقاذ لُبنان بوجود كل هذه القدرات لحزب الله والتي لا تُعزّز فقط دوره في مواجهة إسرائيل والسيطرة على القرار اللبناني، وإنما توسّع وتُرسّخ دور إيران في المنطقة، فاعتمدت نظام التطويق الاقتصادي والتفكيك السياسي، ليس بدافع الغاء الحزب وهي تعرف انه لن يُلغَ، وانما على أمل أضعاف بيئته وتشويه صورته في الداخل والخارج. ولعلها نجحت الى حدٍ ما في الجانبين السياسي والاجتماعي أكثر من نجاحها في تطويقه اقتصاديا.

رابعا: حين دخلت فرنسا على خط التسويات، وتوهّم رئيسها إيمانويل ماكرون أنه سيأتي بالعصا السحرية ويحل كل المشاكل دفعة واحدة، تعرّض لصدمتين، أولهما من المسؤولين اللبنانيين، وثانيهما من أميركا نفسها التي ساهمت بتفشيل مبادرته لان المبادرة انفتحت أكثر مما ينبغي على حزب الله.

ماذا الآن؟

  • لن يقبل الرئيس عون اليوم ما رفضه سابقا. فليس لديه بعد ما يخسره. ولذلك فهو سيزداد تمسُّكا بمطالبه مهما كلّف الأمر حتى لو استمرّ التعطيلُ حتى آخر عهده، وقد يتنازل في حالتين: إما رفع العقوبات الأميركية عن باسيل، أو وعد قاطع بأن يبقى صهرُه في صلب المشهد السياسي، وفي طريق الانتخابات الرئاسية.
  • لن يقبل الحريري أي تنازل، ذلك أن إعادة شد العصب السُنّي قبل الانتخابات المُقبلة ولإعادة التموضع على الساحة العربية، يحتاجان الى تشدد أكثر في المواقف وعدم التنازل، خصوصا أن رئاسة الحكومة أمرٌ انتحاري في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي. لذلك فهو سيتوجه أكثر في المرحلة المُقبلة الى إعادة تشديد تيار المستقبل وتقوية العصب السُنّي من حوله، لكي يُثبت للداخل والخارج (بما في ذلك للسعودية نفسها) أنه ما زال الرجل الأقوى في طائفته.
  • لن يقبل المسيحيون الذين يرفع صوتَهم عاليا البطريرك بشاره الراعي، أي تسويات تزيد من حصة المسلمين وتُضعف موقع الرئاسة ومواقع أخرى حساسة في الدولة، مهما كلّف الأمر. وليست صيغة الحياد ونزع سلاح حزب الله بعيدة عن ذلك.
  • لن يتغيّر الكثير في التركيبة السياسية اللبنانية طالما أن الشعب لم يتحرّك على نحو واسع لفرضِ خِياراتٍ بديلة. وجلُّ ما يُمكن انتظارُه لاحقا هو دخول مجموعة صغيرة من النوّاب المستقلين الى البرلمان، مع بقاء الأحزاب الكبرى تحت قبّته أيضا من خلال وجوه جديدة تسعى لإعدادها من الآن كي تكون مقبولة شعبياً.

الأهم لم يأت بعد

لكن كلّ ما تقدّم ليس ذا أهمية كبيرة في ما هو أعمق. وما هو أعمق تُرسم خطوطُه بدقة في كواليس الاتصالات الإقليمية والدولية. ولعل السؤال الأهم الذي يُمكن أن يُطرح حاليا: ماذا لو اتفّقت فعلا واشنطن مع طهران، وماذا لو اتفقت أيضا مع حزب الله؟

ثمة تقاطع مصالح كبير قد يحصُل في أي لحظة، بشأن إعادة تركيب النظام اللبناني وترسيم الحدود وضبط التوترات واستخراج الغاز. وربما هذا هو جوهر العُقد الكأداء في لبنان. فليس واضحا بعد، أي مسار سيسلكُه لبنان في المستقبل، أي في حال حصول الاتفاق الإيراني الأميركي، وانسحابه على تفاهمات سعودية إيرانية، وفيما لو بدأت سورية تخرج فعليا من حربها بتفاهمات دولية إقليمية وبمساع لإعادة إطلاق مفاوضات إسرائيلية سورية.

 لو كانت المسألة الشيعية تُعيق فعلا التفاهمات، لما كانت أميركا وبعد اجتياحها العراق، قلّمت أظافر السُنّة عبر تفكيك الجيش وحزب البعث، وتفاهمت مع الشيعة على الحُكم.

لعل مثل هذه الاحتمالات هي التي تؤخر التسويات الداخلية، ولعلّها تدفع جزءا من مسيحيي لُبنان لرفع الصوت قلقاً. فحين تفاهم الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، صار السُنّة في لبنان وليس المسيحيون هم بوابة ” الأم الحنون” صوب المتوسط، فماذا يمنع أميركا وربما فرنسا من التفاهم مع الشيعة في المرحلة المُقبلة على صيغة سياسية أمنية طالما أن الثنائي هو الطرف الأقوى داخليا؟ الم تعرض واشنطن سابقا على الحزب، قيادة لُبنان مقابل تسوية حدودية مع إسرائيل؟ أولم تعرض على إيران صفقة كُبرى في سورية مقابل مساعدتها على ضبط انتفاضة الدواليب المحروقة في فلسطين؟ أولم تتفاهم أميركا مع سورية أكثر من مرة قبل وبعد دخول جيشها الى لبنان منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي؟

احتمال التفاهم الأميركي مع الحزب صعبٌ لا شك، لكنه ليس مستحيلا خصوصا إذا حصل التفاهم الأكبر بين طهران وواشنطن؟ فمصلحة الطرفين إعادة النظر بالنظام اللبناني، لكن لكلٍّ منهما وجهةَ نظره … على الاقل حتى الآن.

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button