لبنان بين باريس والشيخ الرفاعي ومعروف سعد، دولة الخراب
سامي كليب:
عُرف المُجرم الصغير الذي اغتال الشيخ أحمد الرفاعي، أمّا المُجرم الكبير، أي الساسةُ الذين وَرِثوا الخرابَ وطوّروه ويديرونه، فهم يتبارزون اليوم على نعي الشيخ الشماليّ وتعدادِ خصالِه الحميدة (وما أكثرها)، بينما تقول كل المعلومات أنّ ما تعرّض له الرجل من تهديدات واعتداءات منذ فترة غير قصيرة (راجع المقال في سفير الشمال) كان سيؤدي حتمًا الى هذه الفاجعة التي أبكت كثيرين على امتداد الوطن. فماذا فعلت الدولة سابقًا لتفادي الجريمة، وماذا فعلت كي تتباهى اليوم بالعثور على الضحيّة.
هو خراب الدولةِ على يد من يدّعون اليوم إعادة بنائها، مَنْ قتل الشيخ الجليل وقتل الكثيرَ من أبناء الوطن الجريح وسيقتل كثيرين، بينما جهابذة السياسة اليوم مختلفون على جنس الملائكة. فهذه الدولة التي انتقلت من مرحلة قتل المناضل الكبير الشهيد العروبيّ النبيل معروف سعد سابقًا وهو الذي دافع عن الفقراء والمحرومين والصيّادين في صيدا وعموم لبنان، تُمعن اليوم في قتلِ أبنائها وتدمير ما بقي من هذا الوطن المقطوع الرأس حاليًّا بسبب عدم انتخاب رئيس.
معلومات مؤتمر باريس
تكشف الأجواء الراشحة من مؤتمر باريس الخُماسيّ حول لبنان، مدى اليأس الدوليّ والعربيّ من الوضع الحاليّ، بحيثُ أنّ الأفقَ يبدو مرصودًا لخِيارين لا ثالث لهما، إمّا الاتفاق على رئيسٍ للجمهوريّة غيرِ منتمٍ لمحور، وحكومةٍ تَشرعُ بالإصلاحات الجذريّة المطلوبة والاتفاق مع صندوق النقد الدوليّ، أو إدارة الخراب لفترةٍ طويلة مع ما يحمله ذلك من اضطراباتٍ اجتماعيّة وهزّاتٍ أمنية وزلازلَ سياسيّة.
يُمكن تلخيص نتائج مؤتمر باريس الذي ضمّ ممثّلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر بالتالي:
- العمل على خيارٍ ثالث يُلغي ثنائية سليمان فرنجية-جوزف عون. صحيح أن المؤتمرين تجنّبوا الدخول في الأسماء لكن بعض اللقاءات الثنائية تناولتها وكان بينها جهاد أزعور وناجي البستاني.
- قال ممثّل مصر إنّه من المفضّل عدم الإيحاء بإملاءات خارجيّة على اللبنانيين، وضرورةِ عدمِ ذكر أيّ اسمٍ حاليًّا لرئاسة الجمهوريّة، فسارع ممثلُ السعوديّة إلى القول إنَّ المملكة بهذه الحالة تؤكد رفضها سليمان فرنجيّة لكونه خِيار فريقِ حزب الله.
- اقترح البعضُ سلّةً كاملةً للحلّ، تشمل رئيسًا للجمهوريّة مقبولاً من الجميع ورئيسَ حكومةٍ حقيقيّةٍ قادرةٍ على الشروع بالإصلاحات، لكن خيارَ فصل الرئاستين حاليًّا والاكتفاءِ بالتركيز على رئاسة الجمهوريّة حاز على غالبية الأصوات.
- في الحديث عن رئاسةِ الحكومة، بدا أيضًا أنّ السعوديّة سعت لتخفيف اندفاعةِ فرنسا المؤيدة لنجيب ميقاتي، وقال ممثلُ المملكة متوجّها إلى نظيره الفرنسي:” اذا كنتم تعتبرون ان ميقاتي يحفظ مصالح باريس الاقتصاديّة وغيرها في لُبنان، فإنّ أي رئيس حكومة غيره سيقوم بالعمل نفسه”.
- كان واضحًا أيضًا أنَّ قضية حاكم مصرف لُبنان رياض سلامة، قد ألقت بظلالها على مؤتمر باريس، وما عادت فرنسا تُخفي مُعارضتها الشديدة له وشملَه بالاتهامات التي تسوقها ضد كل الطبقة السياسيّة الحاليّة، فحين اقترح ممثلُ مصرَ التريّثَ في قضية سلامة مُعتبرًا انَّ شغورَ الحاكمية قد يوازي أو يفوق الشغورَ الرئاسيّ، كان الردُّ الفرنسيُّ قاسيًّا ضد الحاكم، لكن اللافت أكثر هو أيضًا الموقف الأميركي الرافض التمديد لسلامة، حتّى ولو أنّ واشنطن تُفضّل تجنيبَ الحاكم أيَّ ضغوطٍ قانونيّة قبل أن تنجلي الأوضاع.
- تولّت قطر مسؤوليّةَ التواصل مع الأطراف المختلفة المعنيّة بالوضع اللُبناني لكونها على علاقةٍ جيدة بالجميع وخصوصًا مع إيران التي رفعت باريس لهجتَها على نحوٍ لافت ضدّها منذ فترة، واقترحت باريس فرض عقوباتٍ على شخصياتٍ سياسيّة واقتصاديّة، لكن اقتراحَها هذا لم يلقَ قبولاً عند الجميع، فعمدت الى تأخير البيان الختامي تعبيرًا عن عدم رضاها على كلِّ ما فيه، وكانت ذريعةُ التأخير أنَّ وزيرةَ الخارجية الفرنسيّة كاترين كولونا بحاجةٍ للاطلاع عليه وهي خارج البلاد. هذا ما دفع المؤتمرين إلى اعتماد وسيلة تبليغ المسؤولين اللبنانيّين أجواءَ المؤتمر مُباشرةً، وكان من المُفترض أن تتولّى السفيرة الأميركية دوروثي شيا ذلك، لكن انضمّت اليها السفيرة الفرنسيّة في بيروت آن غريّو لانّ فرنسا هي البلد المُضيف.
كرّر رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي أمام السفيرتين ما كان يقولوه في العام 2008 للدبلوماسيّين الغربيّين ( قبيل احداث 7 أيار) ، ومفاده أن ” المشكلة ليست عندنا وإنّما عند الطرف الآخر، ولو اقنعتموه بما تريدون وبالانتخاب فنحن جاهزون لتسهيل المهمّة وحاضرون”.
صحيح أن حزب الله الذي لم يُعلن صراحةً بعد ترشيحَه لسليمان فرنجيّة، يبدو متمسّكًا به كخِيارٍ وحيد تمامًا كنبيه برّي، لكن لا أحد يستبعد احتمال الخيار الثالث شرط الاتفاق على الثمن المطلوب، في إطار صفقة تشمل عددًا من المطالب.
بالمقابل ثمّة من يعتقد بأنّ الأمور لم تنضج بعد، وانّه من الأفضل انتظار جولةَ تفاوضٍ سادسة بين السعوديّة وإيران تُساهم ( لو عُقدت ) في حلحلة الوضع اللُبناني كما ساهمت سابقا في إيجاد حلٍ للحكومة العراقيّة. ويتردّد في أوساطٍ دوليّة رافقت مؤتمر باريس أنّ الأميركيّين أنفسهم باتوا يقولون منذ ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل:” ما عدنا بحاجة الى وسطاء للتفاوض مع حزب الله، ونحن في أثناء الترسيم كُنا نعلم أنّنا نفاوضه مباشرة عبر اللواء عباس إبراهيم”.
الأكيد أنّ كلّ هذه التحرّكات الدبلوماسيّة الدوليّة والعربيّة تجري، وسط قلقٍ يتنامى من انزلاق الأمور في لُبنان عمّا بقيّ لها من ضوابط، فأهل السياسةِ هُنا ما زالوا يُحاربون طواحين الهواء، ويخترعون قضايا هامشية، مثل الصدام القضائي-السياسيّ الحالي حول تحرّكات القاضية غادة عون، أو قضية التمديد للواء عباس إبراهيم التي يُقال إنّ أمين عام حزب الله تدخّل شخصيًّا في الساعات الأخيرة لحسمها بالتمديد، أو تضاؤل عدد المسيحيّن في لُبنان الذي أثار جدلاً بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والبطريركية المارونيّة، أو الجلسات الحكوميّة والتشريعيّة وغيرها.
هي حالةُ اهتراء وتدمير لما بقي من مؤسسات الدولة، يعتبرُها البعض مقصودة في فترة إدارة الخراب، بغية الدفع نحو نظام جديد او الفدرالية، ويرى فيها البعض الآخر (وربما هو على حقٍّ أكثر) استمرارًا لقِصَرٍ نظرٍ سياسيّ، مقرونٍ بموروثات مأساوية تقتضي دائما التبعية وانتظار الحلول من الخارج، وينظر اليها البعضُ الثالث على أنها تقطيعٌ للوقت وإدارةٌ للخراب ريثما تنضج الصفقات.
كم أنَّ الكاتب الموسوعي والوزير السابق جورج قرم كان مُصيبًا حين قال في كتابه ” انفجار المشرق العربيّ” :” إنّ لُبنان فَقَد دورَه كهمزة وصلٍ بين الشرق والغرب وبين الإسلام والمسيحيّة، وستغدو إسرائيل هي التي تؤدي دور الهمزة هذه بين غربٍ يهوديّ-مسيحي هي قاعدته الأماميّة في الشرق من جهة ، والشرق الأوسط المسلم من جهة ثانية، فقد اختفت جدوى لبنان كوسيط ، لمصلحة ديناميات مختلفة كليًّا انتجتها نهاية الحرب الباردة ومرحلة ما بعد حرب الخليج”.
أما المُصيبة فتكمن في أنّ الساسةَ الذين أوصلوه الى هذا الدرك، هم المُعتمدون حاليًّا لإيجاد خلاصٍ له. كيفَ لجلاّدٍ أن يُنقذَ ضحيّةً بعد قتلٍها؟