مرح إبراهيم
يتساقط الثّلج بصمتٍ خلفَ نافذة الصّباح، ويغزو الجليدُ أرصفةَ الشوارع. تستغرقُ سكينةُ التأمّلِ وهلةً قبل أن تتواردَ الأفكارُ عشوائيًّا في خاطرك، أنتَ الشرقيّ البعيدُ عن أرضكَ، المسكونُ بجرحها العصيّ على الاندمال. قربَ النافذة، يعلو الجدارَ وجهُ فيروز، بشموخها المعهود.. يسطعُ من عمقِ لوحةٍ تصوُّرها نورًا ينبجِسُ من قلب الظّلام. بالقرب منها لوحة بيتٍ دمشقي يكلّله الياسمين. تستغرق سكينةُ التأمل وهلةً قبل أن يمزّقكَ صمتُ الصقيع وأنتَ تحاولُ، فقط تحاول، أن تشعرَ بمن يعتريه البردُ في مهبّ الحرب وظلمة الأفق هناك، في مشرقِ الشّمس. وإذا بصوتِ فيروز ينبعثُ من عمق المكان، مغلّفًا روحَكَ بدفءٍ من حرير، عائدًا بكَ من عتبة اليأسِ إلى معبرِ النور. هذه المعجزةُ التي لا عبارة تستغرقُها، لا طقوس تعرّفها ولا أوقات تحدّ من مداها. هي التي خاطبت الروح من سائرِ جنباتِها، وغمرت العشّاقَ بفيضِ المعنى، وصدحت بقضايا الأوطان، مجدًا وجراحًا، لكأنّها أُنزلت على بقعتنا الملتهبة، لتكونَ ديمتَها السّكوب.
يغلّفكَ حريرها برفقٍ وأنتَ ترتّب فوضى أحاسيسكَ على وقعِ نغمها. تغوصُ مرّةً أخرى في غياهب النفقِ هناك. انقسامٌ حولَ تفاصيل الوجود كلّها، حول الهويّة والقضية، حول العرقِ والعقيدة، حولَ الوطن والقوميّة، حولَ الصديق والعدوّ…حولَ الإنسانيّة في ذاتها. ولا حقيقة جليّة، سوى ارتقاء الأرواح وانهيارُ الحجر. تُعيدُكَ جارة القمر إلى حيث تُريدُكَ أن تكون، أن تكابدَ الألمَ، لكن على شرفةِ الأمل…تعيدُكَ إلى اليقين بأنّ الحقّ لم يتبدّد بعدُ وسطَ هذه الغوغاء، وأنّ الآخر، رغم الخلاف، جزءٌ لا يتجزأُ من تكوينكَ والوطن، لتتلاشى الأحكامُ في لحظةٍ وتعود السكينة قليلًا بعد.
في هذا الوطن الكبير، لفيروزَ مكانةٌ قد تبلغُ الإدمان، وفي حالات الإدمان هذه، عباراتٌ يوميّة ترافقُ غصّاتِ الروح، “صباح ومسا” : “ما كانَ أصعبَ الحياة لو لم توجدي، يا فيروز”. ارتبط صوتها بزُكاءِ الشمسِ الأوّل، بعبق الياسمينِ وقهوة الصباح. ومن لا يستيقظ باكرًا، يوقظه صوتُ فيروز من نافذة الجار هذا ذاك. أمّا بعضٌ ممن عاشَ حربَ لبنان، فتحرّكُ هيبة صوتها داخلهُ قلقَ الحرب المزمن، إذ كانت تختاره الإذاعات اللبنانية ملاذًا في أوقات الشدّة العصيبة.. لكنّه سرعانَ ما استبدلَ ذكرى الحرب، بوقعِ الأمان.
يتنافسون على حبّها، فيجتاحهم التملّك. هويّتها وأصلها؟ لعلّ في ثباتِ انتمائها وامتدادِ جذورها اختصارٌ لكلّ الحكاية. هذه الأحجية المتجسدة برقّةِ الرصانة وبسمة القوّة…يبدو وكأننا في منزلةٍ فوقَ البشر، لكنّنا نتحدّث عن الإنسانة الحقيقية، التي تُبعدُ المجد والضوء من أجلِ لحظةِ أمومةٍ سامية. أهدتنا الطمأنينة والحبّ والعبر، حتى في أوج ألمها. لن نلعبَ لعبةَ صياغة ما نودّ قوله في حبكةٍ من كلمات أغنياتها ومسرحياتها، وإن كنا نتقنها عن ظهر قلب، لكنّ أبياتًا صدحت بها يومًا من وحي الشّاعر بدويّ الجبل ومخيلته، ترسمُ صورتها الملائكية في الوجدان :
عندي كنوزُ حنانٍ لا نفاذ لها أنهبتها كل مظلومٍ ومقهورِ
أعطي بذلة محروم فوا لهفي لسائلٍ يغدقُ النعماءَ منهورٍ
جواهري في العبير السكب مغفية من الونى بعد تغليسٍ وتهجيرِ
تاهت عن العنقِ الهاني فأرشدها إلى سناهُ حنين النّورْ للنورِ
فكيفَ لا تلتمّ الهوّةُ على بعضها لتجمعَ الأضدادَ على هواها، من علوّ دارها في جوارِ البدر، سفيرةً إلى النجوم، حتى أصبحت بوصلةَ أمّةٍ اتسمت بالشروخ، أصبحت المرجعَ والرّمزَ حينما تنسدّ سبل السّياسة والحوار.
نعم، يسودُ الانقسامُ مجالسَ الشرقيين أينما حلّوا، شرقًا وغربًا، سياسةً وانتماءً ودينًا، حتى باتَ الوطنُ الواحدُ جملةً من المنافي. لكن الحريرَ دومًا على موعده، حينما تضيقُ كلّ السبل بيننا. يمرّ اسمُ فيروزَ في سياقِ الكلمات، وتظهرُ بقربِ النافذة لوحةُ وجهها المقترنِ بركنِ الصباح، ليقولَ لك الشرقيّ الآخر إنه يُعدّ لجارةِ القمرِ أيضًا لوحةً بتفاصيل دقيقةٍ ترسمُ ملامحها، ليعلّقها على جدارِ الذكريات. فجـأةً، تشعرُ بجسرِ الانتماء يمتدّ فوق الوادي، ليبدو كلّ ما تبقّى فانيًا أمامَ ثوابتِ الهويّة، فتهمسُ بسكينةٍ : لا بأسَ يا صاحبي إن أنتَ خالفتني الرأي، مادُمنا، أنتَ وأنا، فيروزيَّين، هويّةً وهوىً.