آخر خبرمقال اليوم

وما زال اللاجيء يشمّ عطر الليمون والياسمين

وما زال اللاجيء يشمّ عطر الليمون والياسمين

مرح إبراهيم

على خلفيّة مشهدٍ عالميٍّ جديدٍ، يتجلّى يومًا بعد يوم في ظلّ التغيّرات الكبرى في العلاقات الدولية والعربية، وانقلاب التحالفاتِ التي كانت تبدو وثيقةً حدّ الأبدية، تطفو القضايا الإنسانيّة على السطح لتُصبح بدورها قضايا سياسيّةً، تُجرَّد من مسبّباتها ودوافعها التي دائمًا ما تدور في حلقة السياسة المفرَغة : من الذّرائع السياسيّةِ تنشأ وإليها تؤول.

شهدت الأسابيعُ الماضيةُ زياراتٍ دوليّة واجتماعاتٍ تشاوريّة على الصعيدينِ العربيّ والدوليّ،  لم تدّخر فرصةً لتناول “أزمة اللاجئين السوريين” وإدارة عودتهم، بعدما بدأت الخطواتُ تتقدم واحدةً تلو الأخرى لإعادة الحضورِ السوريّ، بعد تغييبٍ دامَ 12 عامًا، لا بل أصبحت مسألةُ اللاجئين السوريين أولى الشؤون الداخلية وأهمّها في بعض الدول العربية المجاورة، نظرًا للوضع الاقتصاديّ الحرج، فضلًا عن تعميم الصور المنمّطة التي غالبًا ما تسهمُ في زيادة التشنج بين الشّعوب، لاسيّما العربيّة منها.  كما يتجسَّدُ التسييس في انقسام الآراء بين “النظام” و”المعارضة”، وربط قضية اللاجئين بكلٍّ منهما.

تُطرح هذه “الأزمة” (بين إشكالية عدد اللاجئين السوريين، توطينهم وإدارة عودتهم) على نحوٍ جماعيّ، كقضية رأيٍ عام تُغذّي الجدلَ والسّجالاتِ بين المحاور وأصحاب الآراء المتباينة، بغضّ النظر عن خصوصية كلّ حالة بين هؤلاء البشر المقيّدين ضمنَ خانة “لاجئ”، أينما حلّوا. لعلّ مسألة عودة لاجئٍ إلى وطنه الأمّ بعد 12 عامًا من الحرب أبعدُ المسائل عن التأطير الجماعيّ. وهيَ كقضية إنسانيّة بحتة، تصبّ في خصوصية النفس البشرية والتَشكُّل الهويّاتي لدى كلّ فرد.

في تعريف الهويّة، يقول أحد المستشارين السياسيّين لدى الأمم المتحدة، “إنّ الهوية محمّلةٌ بالتاريخ والتجربة وعلى كلّ فرد أن يدير الرصيد هذا وفقَ ما يريد إسقاطه من ذاته على المجتمع”، وربما ما يريد إسقاطه على المستقبل المرتبط ارتباطًا حتميًّا بتجربة الماضي وواقع الحاضر.

فيما كانت العناوينُ تدفّق يوميًّا حول حربٍ طاحنةٍ بينَ الآلهة والشياطين، كانَ كلّ سوريٍّ يحيكُ قصّته المتفرّدة على حدة، سواءً أكانَ لاجئًا إلى الله في بيته ورافضًا تخطّي عتبة الحدود،  أم لاجئًا إلى الخارج، خوفًا، قسرًا أم طوعًا. أفرادٌ وعائلات ومسنّون، منهم من خانَه السّبيلُ وسط المحيط ومنهم من رسي على برّ الحُلم الغربيّ الذي أُشبع به منذ نعومة أظفاره، فاختارهُ وطنًا بديلا قبل الوصول.

في الغرب، يَمشي بعضهم محاولًا ربط الجأش، وهو المثقلُ بقيد “اللاجئ”، حتى يصبح اللجوء حالةً اجتماعيّةً تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من هويّته، يؤطَّر به في عمليّة اندماجه وتأقلمه، إلى حين يَحصل على الجواز الخمريّ المنشود، فيتحرّر وهمًا من ذاكَ القيد، مثابرًا في البحثِ عن توازنه بينَ أمسه وحاضره، بينَ جوازه الأزرق وجوازه الخمريّ المكتسب. يمضي وهوَ لا يزال يسعى وراءَ رائحة الشاورما المماثلة لـ”شاورما البلد”، ولا يزال يسافرُ حتى يجدَ الطَّعم الأقرب إلى حلاوة الجبن الحمصيّة بالقشدة الحمويّة. بقي يبحثُ عن نكهات الذاكرة، حتى لحق به أغلب صُناع الشاورما والحلويات واجتمعوا باسم الاندماج الممزوج بالنوستالجيا حولَ شعاراتٍ كـ “برلين عاصمة سوريا”.

المرأة المسنّة التي خرجت في إطار برنامج لمّ الشمل، لا تزال تشتمُّ عطر زهر الليمون كلّما خرجت في طبيعة الغرب الأنيقة، كما تقول، لكن دونما عبق. هي لا تزال تتساءل عما حلّ بأشجارِ الأرضِ في قريتها وتشتاق إلى عطر الهواء المختلف عن هنا. والشابّ الألمانيّ ذو الأصل السوريّ الذي ينفي أي ارتباطٍ بسورية، يتكلم اللُّغة الأجنبية بإتقانٍ لكنه كلّما تعثّر بذاكرته، خرجت منهُ الكلماتُ بالعربيّة. يُعرِّفُ الوطنَ بالمكان الذي يُشعرُهُ بذاته. أمّا تلك الفتاةُ العشرينية التي رأت الموتَ بعينها، وقُنصت صديقتها بعد يومٍ واحدٍ من زفافها، ففرّت إنقاذًا لما تبّقى لها من سنوات العشرين إلى مكانٍ بعيد عن الموت، لكن الاغترابَ سكنَ روحها حيثُ فرزتها معاملاتُ اللجوء إلى قرى نائية في صقيع الشمالِ الغربيّ. ما زالت تطاردُ شبحَ الخوف بالانفصالِ عن الماضي.

أمّا الجيل الذي لم يرَ سوريّةَ بعافيتها وازدهارها (إمّا خرج بعمرٍ لم تعد تدركه الذاكرة أو أنّه أبصرَ النورَ في بلدان اللجوء)، فلم يعرف عن وطنه الأصل سوى ما قصّته عليه الصّحف وما ورثه من ذاكرة والديه وأجداده، فانحصرت تجربته الحياتيّة حيث ترعرع. قد يعيش أزمة الجيل الثاني من الهجرة، متعطشًا لمعرفة الأكثر عن جذوره، رغم انتمائه لبلده الثاني، أو قد يختار قطع الصلة مع تاريخٍ حزين ويمضي حرًّا من أعباء الذاكرة الموروثة.

كلُّ سوريٍّ أعاد تكوينَ هويّته خلال سنواتٍ عجافٍ، مضت في معركةٍ مع الحياة والذات، ضمن ذاكرةٍ جمعيّة ستطغى طويلًا على الحاضر. منهم من تشبَّث بالمكان والذاكرة ومنهم من يتمنّى النسيان كلّ يوم، ومنهم من يرجو العودة في الزمن إلى الوراء كي يرى سوريّتهُ من جديد. نعم، إنها ذاكرةٌ جمعيّة، لكنّها تحملُ في مخزونها روايةً باسمِ كلّ سوريّ، كَتبها بحبرٍ أحمر على جبينِ الإنسانيّة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button