آخر خبرافتتاحيةمقال اليوم

الجزائر مع فلسطين فِعلاً لا قولا، فهل تُفلح القمّة؟

سامي كليب-الجزائر:

هذه المرّة الثانية التي أزور فيها الجزائر في أقلَّ من أسبوعين، قبل القمّة العربيّة المُنتظرة في 1 و2 تشرين الثاني/نوفمبر المُقبل. وفي كلّ مرة، منذ ربع قرن، آتي إلى هذه البلاد الشاسعة (نحو مليونين وثلاثة آلاف وأثنين وثمانين كيلومترا مُربّعًا، أي أكبر بثلاث مرّات من مساحة فرنسا) وذات الثروات الباطنية والزراعية والشبابيّة الضخمة، أجدُ أن مكانةَ فلسطين لم تتغيّر ولم تتزحزح قيدَ أنْمُلة في قلوب الجزائريين وقادتهم السياسييّن والعسكرييّن. فما زال الشعار الشهير ” مع فلسطين ظالمة أو مظلومة” حاضرا في كلّ مُناسبة، وبيت، وقلب، واحتفال.  لذلك فالمسؤولية الواقعة على كاهل الجزائر في القمّة هائلة وحسّاسة جدًّا في ظلّ انقسام الرؤى العربيّة جذريًّا، على مستوى الإيديولوجيا والفكر والتبادل، بشأن فلسطين والاحتلال. والمسؤوليّة الأكبر تقع على عاتق الفلسطينيّين للوحدة قبل القمّة.

تُجاهد الجزائر منذ فترة وتكثف المساعي واللقاءات لتوحيد الموقف الفلسطيني قبل القمّة. فهي تُدركُ بقيادة الرئيس عبد المجيد تبّون، أنّ سرطانُ الانقسام الذي ينهش الجسد الفلسطيني، ويساهم في الاختراقات الإسرائيلية وقضم ما بقي من أرض، هو عقبةٌ كأداء أمام النضال الفلسطيني، لذلك تسعى لاستئصاله قبل القمّة، كي لا يكون مُبرّرا (تمامًا كما كانت اتفاقيات أوسلو السيئة الذكر مُبررًا) لابتعاد بعض الأنظمة العربيّة، عن القضية المركزية، وتحميل الفلسطينييّن مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم وتشجيع التطبيع.

آخرُ لقاءات الحوار الفلسطينيّ-الفلسطينيّ سيُعقد يوميّ 11 و12 من الشهر الجاري، وستكون حركاتُ فتح وحماس والجهاد وبقيَّة ممثّلي فصائل منظمة التحرير حاضرين، لوضع اللمسات الأخيرة على الرؤية الجامعة التوافقيّة التي وضعتها الجزائر لمستقبل العمل الوطني الفلسطيني، وانهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنيّة.

هذا واجبُ فلسطينيّ وليس تَرفًا. وهذه فُرصةٌ كبيرة لن تُعوّض على أرض دولةٍ وقفت بالفعل لا بالقول مع فلسطين وأهلها وقضيتها منذ فجر التاريخ الفلسطيني. قدّمت لهم كلَّ ما أرادوا من دعمٍ عسكريّ وماديّ وتدريبٍ وموقفٍ صلب، من دون أن تطلبَ من أيّ فصيل أن يكون تابعًا لها، ومن دون أن توظّف فصيلاً ضدَّ آخر (كما كانت تفعل أنظمة عربية استخدمت الفصائل مطيّة لمشاريعها لا لفلسطين).

كلُّ ما أرادته الجزائر هو أن يسيرَ الفلسطينيون بصدق ووحدة على طريق التحرير، تمامًا كما فعلت هي نفسُها نفسُها، حين قدّمت وعلى مدى سبعين عامًا من النضال والكفاح، خمسة ملايين وست مئة وثلاثين ألف شهيد (5،630 مليون) لطرد استعمارٍ فرنسيٍ رَبَضَ على أرض الجزائر مئة ًوثلاثين عامًا. وهو الرقم الذي أكده الرئيس تبُون نفسُه في أحد آخر مقابلاته للصحافة الجزائرية قبل فترة قصيرة. 

وهذه قائمة قصيرة بنضال الجزائريين الحقيقيّ الى جانب إخوانهم الفلسطينيّين فعلًا لا قولا: 

  • كان الجزائريون كما أهل المغرب عامّة، يعتبرون أنَّ من يحجّ الى بيت الحرام في مكّة المُكرّمة ولا يُعرّج على المسجد الأقصى، لم يُتمَّ مناسكَ الحجّ، وقد أعلن الإمام الجزائري الشهير والعلاّمة الموسوعي عبد الحميد بن باديس” صراحةً: “أن حُرمة القدس مثل حُرمة مكة والمدينة وأن الدفاع عن القدس فرض على كل مسلم.” ولذلك نجد أن الكثير من الجزائريين والمغاربة أقاموا بجوار الحرم القدسي، وقاتلوا ببسالة نادرة مع القائد صلاح الدين الأيوبي، وشيّدوا ما عُرف ب ” حارة المغاربة” في قلب القدس (التي دمّرتها إسرائيل بعد حرب العام 1967). وما زالت يدُ الشيخ والعلاّمة الجزائري “سيدي أبو مدين الغوث” مدفونة في القدس حيث قاتل ببسالة استثنائيّة، في حين أنّ جسده  مدفونٌ في “تلمسان”، وصار مزارًا.
  • أقامت الحركة الوطنيّة الجزائريّة منذ ثلاثينيَّات القرن الماضي علاقةً وطيدة مع مناضلي فلسطين لدعمهم، وتضاعف الدعم عبر جمع المال وإرسال مجاهدين. أكان ذلك عبر ” جمعية العلماء المسلمين الجزائرييّن”، أو ” الهيئة الجزائريّة لمساعدة فلسطين”، التي أُسّست ابتداءً من العام 1936. وقد أقدمت بريطانيا على الانتقام من المهاجرين الجزائرييّن وإحراق بيوتهم بعدما اكتشفت دورَهم في العمليات ضدّها وضدّ الصهاينة، وفي نسفِ أنابيب النفط والقيام بعمليَّاتِ رصدٍ وتعقّبٍ لصالح الفلسطينيّين.
  • منذ نكبة فلسطين وتقسيمها في العام 1984، تمّ تشكيل ” الهيئة العُليا لإعانة فلسطين” التي أرسلت مئات المقاتلين للقتال، وارتقى عددٌ كثيرٌ منهم شُهداء على الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة.
  • ما إن استقلّت الجزائر العام 1962، حتّى سارعت الى فتح مكتبٍ رسميّ لحركة فتح، وبعد عامين على ذلك، أعلن الرئيس الأول للبلاد المُحرّرة أحمد بن بِلّة، حقّ الشعب الفلسطيني بإقامة دولةٍ مُستقلّة، وهو الذي اقترح تأسيس ” جبهة تحرير فلسطينيّة” على غرار جبهة التحرير الوطني الجزائريّة، وذلك في أول “قمةٍ عربيّة”. وفي العام 1964 نفسه، خرّجت الجزائر من “أكاديمية شرشال العسكرية” الشهيرة وبحضور وزير الدفاع آنذاك (والرئيس لاحقًا) هوّاري بومدين أوَل دُفعةٍ من الضُبَّاط الفلسطينيّين الذين تدرّبوا على فنون القتال التي كان المجاهدون والضبّاط الجزائريّون قد خَبِروها بدقّة في قتالِهم المرير ضد المُستَعمِر.
  • في الجزائر نفسها، وفي عهد بومدين، أصدرت القمّة العربية السادسة قرارَها الشهير في العام 1973 ،اعتبار ” منظّمة التحرير الفلسطينيّة” ممثّلاً شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطيني، في مُحاكاة لحركة التحرير الجزائريّة.
  • وإلى قتال الجيش الجزائري على الجبهات العربية في الحروب ضد العدو الإسرائيلي خصوصًا أثناء حربَيْ 1967 و1973، فإن الجزائر هي التي لعبت الدور الأبرز في إسماع صوت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من على مِنبَر الأمم المتحدة، حين ألقى خطابَه الشهير في العام 1974، والذي قال فيه جملته الحاسمة: “لقد جئت حاملاً غصنَ زيتونٍ وبندقيةَ الثائر، فلا تُسقطوا الغصنَ الأخضرَ من يدي”.
  • من الجزائر أيضا، أعلن الرئيس عرفات في العام 1988، قيامَ الدولة الفلسطينيّة، وكانت الجزائر أوَل من اعترف بها، وأقام معها علاقاتٍ دبلوماسيةً رسميّة كاملة فور الإعلان. وبفضل الطلب الرسمي الجزائريّ، انضمَّت دولةُ فلسطين الى منظمة اليونيسكو في العام 2011.
  • لعبت الجزائر منذ سبعينيّات القرن الماضي، وعبر الدبلوماسيّة النشطة التي قادها وزير الخارجية السابق عبد العزيز بوتفليقة في عهد الرئيس بومدين، دورًا بارزًا في الوساطات بين الفلسطينيين ودولٍ عربية وعالميّة، وفي حلّ قضايا خطف الطائرات، وإنهاء احتجاز وزراء نفط منظمة أوبك.
  • خصّصت الجزائر، وما زالت تُخصّصُ، آلاف المنح للطلاب الفلسطينيّين، وعقدت وما زالت تعقدُ اتفاقيات تعاونٍ لمساعدة الشعب الفلسطينيّ على تحمل وزرَ الاقتصاد ومواجهة الجَور الإسرائيلي، ولترميم أوقاف القدس وغيرها.
  • تزعّمت الجزائر ” جبهة رفض” عربيّة وافريقيّة لمنع منحِ إسرائيل عضوية مُراقب في الاتحاد الافريقي.

الرئيس تبّون وفرصةُ القمّة

أخيرًا، وقبل عامين من استضافتِه قمّة جامعة الدول العربيّة، أعلن الرئيس عبد المجيد تبّون وبصوتٍ عالٍ لمن يُريد أن يسمع أنَّ: “القضية الفلسطينيّة قضيّة مُقدَّسة بالنسبة للشعب الجزائريّ ” شاجبًا ما وصفها ب ” الهرولة” صوب التطبيع. وهو ما يُذكّر بقول بن بِلّه الشهير:” “إنَّ استقلال الجزائر سيبقى ناقصاً ما لم تتحرّر فلسطين” كما يُذكّر بالشعار الأشهر:” مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”.

لا شكّ في أن الجزائر ستفعل كُلَّ ما بوسعِها، لإعادة تصويب البوصلة العربيّة في القمّة صوب فلسطين، وهي ستستنجد بالقرارات الدوليّة ومقرّرات قمةِ بيروت العربيّة العام 2002، لكنّها على الأرجح ستُعاني وتعضّ على الجرح، لأنها ستجد أمامَها دولاُ ما عادت تعتبرُ إسرائيل عدوّة، وترى أن التبادل الواسع معها لا فكاك منه. لذلك فالمسؤوليّة شديدةُ الوطأة على الجزائر ومُعقّدة لكونها من جهة، تُريد أنجاح القمة، ومن جهة ثانية، تُجاهد لنصرة فلسطين واستنهاض مشروع عربيّ جديد وداعمٍ للنضال ويوقف مسارَ التطبيع.

لا شيء يُساعد الجزائر في مُهمّتها الشاقّة هذه، سوى الوحدة الفلسطينيّة، وما لم ينتهز الفلسطينيّون هذه الفُرصة، فإن الفصائل تتحمّل وعلى نحو كبير المسؤولية الكُبرى في إفشال الجهود الجزائريّة، خصوصًا أنَّ ثمّة دولاً عربيّةً لن تكون سعيدة بأن تنجح الجزائر في تحقيق ما أرادتُه هي. 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button