آخر خبرصورة تحكيمقال اليوم

أعدموا ذاكرتنا

 ميسون الشاهين

لم يبق في ذاكرتي من الرواية الفلسطينية سوى السطر الذي قرأت فيه اسمك، تلك الرواية التي كلما خطّ فيها  الفلسطينيون من حبر معاناتهم أتت يد الاحتلال محاولةً محيها قبل أن يصرخ صدى صوتك بهم كاشفاً عن الزيف والإجرام الذي لا يتقنون سواه.

خمسة وعشرون عاماً تحملين الوجع الفلسطيني على أكتافك تتنقلين به من شرق البلاد إلى غربها، لا مكان لك أو حدود لأن مثلك منذورة للحياة وعليها أن تبقى شامخة صارخة وسط الظلام، حتى أصبحتِ أنت هوية ذلك الوجع الذي ما انفك يخفض صوت أنينه تدريجياً كلما انجرحت مدينة تلو أخرى في هذا الشرق المكلوم، فلم يجف الحزن على جرح القدس حتى بدأ نزيف بغداد الدامي ومن بعدها دمشق ثم صنعاء حتى بتنا نحار على أي جرح سنذرف الدموع، فمهما اختلفت القصص لكن حبكاتها تشابهت واتفقت على سمة العجز والقهر، ثم بين هذا وذاك يحضر صوتك الجميل من قلب الخراب يذكرنا من جديد بالأرض التي عرفنا تفاصيلها منك كأنك الذاكرة البديلة، وتحضر معه جرأتك التي أكاد أجزم أنها خلقت حلماً ورغبة سرية عند الكثيرات بأن يصبحن مثلك يوماً ما مناضلات قويات شجاعات يملكن الحقيقة ولا يأبهن الرصاص.

بين عقدين ومخيمين تعوّد الفلسطينيون على كل أنواع الفقد وباتوا لا يحسبون أعداد الشهداء أمام الأصفار الكثيرة لعداد الموت، فمنذ استشهاد الطفل محمد الدرة في انتفاضة الأقصى عندما كان برفقة والده في مخيم البريج برصاص غادر على الهواء مباشرة ووالده يصرخ  “مات الولد مات الولد”، بعد عشرين عام تتكرر المشهدية ذاتها اليوم وعلى الهواء نفسه إنما هذه المرة في مخيم جنين والصرخة تقول “ماتت شيرين”، اغتيلت برصاصة بالرأس أصابتها في مقتل وهي تركض باتجاه زميلها الصحفي علي السمودي الذي أصيب في ظهره علّها تنقذه، ولا غرابة في ذلك فكما قال الراحل محمود درويش “إن سألوك عن فلسطين قل لهم بها شهيد، يصوره شهيد، يودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد”.

وما بين عقدين ومخيمين، الإدانات ذاتها تتكرر والتصريحات نفسها نسمع وعلى التنديدات عينها نشهد ولا شيء يتغير، اغتيال تلو الآخر وجريمة تلو الأخرى وحقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق الدولية وحماية الصحفيين العزّل حبر على ورق الضمير العالمي، تراشق في الاتهامات وتبريرات، كأنما وضعت هذه المواثيق لِتُخرَق عن سابق إصرار وتصميم على اغتيال الكلمة والصوت واعتبارهما خطر ناسف وجب التخلص منه، فمن جهة تسعى منظمة العفو الدولية إلى إلغاء عقوبة الإعدام للمجرمين أو للمذنبين لأنها مؤمنة بقدسية حق الحياة فيما يواصل الاحتلال الإسرائيلي الإعدام للأبرياء والصحفيين في وضح النهار أمام عين قرص الشمس، ليظهر ألف سؤال وسؤال حول حق الدم المسفوح على التراب وأول الأسئلة ماذا تراها فاعلة منظمة العفو وكل البروتوكولات الملحقة باتفاقيات حقوق الإنسان أمام من أعدم ذاكرتنا ميدانياً؟!.

وما بعد عقدين ومخيمين وقّعت شيرين الفصل الأخير في روايتها ولم تكن النهاية كما نرغب أو كما نحلم دوماً  بانتصار الخير على الشر؛ بل رحلت البطلة حارسة الرواية وهي تقول: “كنت أريد أن أكون قريبة من الإنسان، ليس سهلاً أن أغير الواقع، لكنني على الأقل، كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة”.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button