آخر خبرثقافة ومنوعات

الكذِب في تُراث الأخوين رحباني

ما زلنا نعيش كذبتهم بوطن جميل اسمه لبنان

هناء الصالح-لبنان 

شكل عاصي ومنصور الرحباني حالة استثنائية في العالم العربي وظاهرة ربما لن تتكرر. لم يقتصر دورهما على تطوير الموسيقى اللبنانية وانتشارها في العالم العربي وانما كان لهما دورا بارزا في التأثير في الوعي الجمعي ان من خلال الأغاني او المسرح أو حتى من خلال السهرات التلفزيونية.

إذا استعرضنا اعمالهما فسوف يتضح لنا ان هناك مواضيعا وأفكارا تكررت وشكلت محور هذه الاعمال. سوف نتطرق في هذا البحث لموضوع ” الكذب” في الموروث الرحباني.

الكذب آفة اجتماعية تكاد تكون في أحيان كثيرة ام المعاصي. أما عند عاصي ومنصور فللكذب صولات وجولات واثواب واقنعة متعددة يشكل محور العملية الفنية ويؤثر على سير العمل الدرامي وعلى تسلسل احداثه. وهو

الكذب الفضيلة

اول ما يتباد الي اذهاننا الاغنية التي أدتها فيروز” تعا ولا تجي وكذوب عليّ، الكذبة مش خطية، وعدني انو راح تجي، وتعا ولا تجي”.

يتجمل الكذب ويلبس لباس هرقل في مسرحية بياع الخواتم. حيث يلجأ المختار “نصري شمس الدين ” الى نسج اعمال بطولية وهمية يرويها في السهرات لأهل الضيعة. وهذه الكذبة تجعلهم يهابونه ويكبرفي عيونهم ويكون هو الوحيد القادر على حمايتهم من قاطع الطرق ” راجح”, تلك الشخصية التي تريد الشر لأهالي الضيعة.  ويبرر كذبه فيقول لريما ” فيروز” ابنة اخته: هيدي يا ريما مش كذبة، هيدي شغلة حد الكذبة، هي خبرية…, بتوعي فيهم بطولة، بتقطف من أشيا مجهولة” ثم يتابع القول ” دمات الكذاب خفاف ومن حكياتو ما بينخاف”. وتتلاقى الكذبة مع الحقيقة وكأنها أتت لتبشر بالواقع وذلك حين ظهور راجح كشخصية حقيقية في المسرحية. ويتضح بأنه ليس بمجرم وانما هو” بياع الفرح” وعندما طلب يد ريما لابنه قالت الأخيرة:

” يا خالي اخترعنا الكذبة، وجاية تتخادني الكذبة، ما بيسوا الا ما أقبل، حتى تضل الكذبة، كذبة”. نلاحظ بان المسرحية بدأت بكذبة وانتهت بكذبة تلامس الحقيقة والغريب في الامر ان الكل تقريبا كان راضيا بها وسعيدا ولم يعاقب او يحاسب من قام بها وأقلق راحة الأهالي وهناءة عيشهم.

الكذبة الامل

من رحم حقل البطاطا، خرجت الكذبة. وردة ” فيروز” جاءت من اللا مكان لتغير حياة اهل البلدة. تلك الحياة الرتيبة حيث يتنكر الملل بلباس القناعة والرضى. مسرحية المحطة، كانت جسرا عبرت فوقه الكذبة وتبلورت وارتقت وصارت رجاء وايمانا عندما اخبرتهم وردة بان هناك سكة تران في حقل البطاطا الذي يملكه “سعدو ” ويهتم بزراعة البطاطا مع زوجته. كانت هذه الكذبة كفيلة بتغيير حياة الأهالي رأسا على عقب. ألحرامي” أنطوان كرباج” الذي امتهن السرقة قرر استغلال الكذبة فأصبح قاطع تذاكر، يبيع الناس الحالمين بالسفر تذاكر كذب. اما أصحاب الأراضي فاستغلوا الامر لصالحهم فرفعوا سعر أراضيهم والكل استغل الامر لصالحه وعلى طريقته: فكثر الباعة في المحطة الوهمية وازدهرت المرافق السياحية وتطورت اعمال رئيس البلدية وصار للكل مصلحة مرتبطة بوهم وكذبة خرجت من فم امرأة يسكنها الحلم ” مهما تأخر جايي، ما بيضيع اللي جايي، عاغفلي بيوصل من خلف الضو، من خلف الغيمي”. أما الاقسى والأكثر ايلاما من كل ما حدث هو شوق الناس للسفر والحلم بالرحيل لعالم جديد. فصار انتظار التران وعدا بحياة أفضل.  وضياع المحطة هو انكسار الحلم وتبدد الامل ووجودها ضرورة حتمية. “الانتظار خلق المحطة وشوق السقر جاب التران.” وهذا ما حدث بالفعل، فالمحطة الكذبة تحولت الى حلم وتحول الحلم بدوره الى امل، الذي اخذ منحا تصاعديا فجاء التران في نهاية المسرحية.

في “المحطة” توهج الكذب فأصبح مرادفا للحلم والامل.  كالخيميائي الذي يحول التراب الى ذهب، استطاع عاصي ومنصور تحويل الكذب من رذيلة الى فضيلة.   

الكذب العشوائي

حيث الكل يكذب على الكل. ” لولو السويعاتية طلعت من الحبس!” سجنت لولو خمسة عشرة عاما لتخرج بعدها بريئة! والسجن كان نتيجة كذبة. وفور خروجها أعلنت نيتها بقتل أحد الأهالي قائلة “الي عندكم جريمة دافعة حقها سلف. ” وتوالى الكذب مرة أخرى للإيقاع بلولو.: الطبيب النفساني الذي ادعي انه الحلاق لإصدار تقرير يثبت بأنها مجنونة بإيعاز من زوجة القاضي، الحبيب السابق الذي عاد مجددا مدعيا بان حبه لها ما زال متوهجا وانه بانتظارها في حين انه تزوج وأنجب الأولاد.

أما “القبضايات” وبهدف مؤازرتها ادعى كل منهم لنفسه جريمة كبرى للتماهي مع جريمتها مع انهم في الحقيقية أصحاب سوابق بسيطة جدا.

لولو لم تقتل أحد! فهي ذهبت مع جدها للعيش معه في مكان أكثر صفاء “خدني لعندك يا جدي”.

 لولو كذبت على الجميع للانتقام منهم. كانت نتيجة الكذب ان جميعهم عاشوا مرحلة يسودها القلق والخوف. واما الوجه الإيجابي للكذب هو انه اظهر الناس على حقيقتهم: القاضي الذي يصدر قرارات تعسفية وزوجته المتحكمة بقراراته والجبناء الذين يدعون البطولة … كشفت كذبة لولو زيف الأخرين وكذبهم حتى على بعضهم البعض وانتهت المسرحية بتفرقهم. كانت الكذبة الخيط الذي اوصلها الى عمق نفسية الاخرين فماتت الأقنعة وظهر الشر على السطح؛ لا مكان للصادقين والطيبين في عالم يملؤه الزيف، لذا كان على لولو الرحيل. 

كان الكذب محورا مهما في العديد من الاعمال المسرحية لعاصي ومنصور والجدير بالذكر بأنهم هم أنفسهم كانا محاطين بشيوخ الكذب: فيليمون وهبي ونصري شمس الدين.

يبقى اننا لا زلنا نعيش كذبتهم بوطن جميل اسمه لبنان، لبنان الحلم. وبالرغم من كل المآسي التي نعيشها لا يسعنا الا القول:

” قرب الموعد والشوق اكتمل، نضج بأيامنا الصيف

صار المطر عالشبابيك، واللي ناطرينو راح يدق الباب”!

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button