عقيل سعيد محفوض
يمثل انصرافُ الناس عن الشأن العام ظاهرة مُلغِزَة، صحيح أنها ظاهرة عالمية تقريباً، فضلاً عن كونها ظاهرة تاريخية وتطورية وليست طارئة، إلا أنها مع ذلك غير مفهومة بالتمام أو تتطلب المزيد من التدقيق والتقصي.
انظر مثلاً الى تراجع الاهتمام بالأيام الوطنية والأحداث التأسيسية مثل أعياد الاستقلال والثورات وغيرها التي تحولت إلى مجرد اجتماعات خطابية ومعارض صور أو أعطال رسمية. وانظر الى تدنّي نسب المشاركة في الانتخابات، حتى في البلدان التي تجري فيها عمليات انتخاب جدية.
وثمة تراجع في الاهتمام بـ”السياسات الكبرى”، أي الوطن والدولة والعلاقات الخارجية والأمن القومي والحياة الحزبية الخ لصالح “السياسات الصغرى”، متمثلة بأولويات الأفراد حول العمل وتدبير العيش، والاستهلاك، والتسلية وغيرها. وضعف أو تراجع الانتماء للوطن أو المكان في ظل التدفقات وسيولة التحولات وانتقال الأفكار والأشخاص والبضائع والصور والمعلومات. وبروز قيم الترحال والانتقال والهجرة على حساب قيم الحِلّ والاستقرار والتَوَطّن في المكان.
ثمة عزوف عن السياسة بما هي تدبير للحياة وصراع على الموارد المادية والمعنوية في أفق مجتمع ودولة، إلى انخراط فيها بما هي تدبير للحياة والعيش في أفق الملة أو الطائفة أو الجماعة أو العصبة أو العائلة وحتى الفرد.
لا يغير من ذلك، ظواهر الاحتجاج –وهي كثيرة- حول العالم، وخاصة تلك التي حدثت في عدد من دول المنطقة العربية وإيران وتركيا وغيرها، التي أثارت تقديرات بـ”عودة” الشعوب إلى السياسة أو عودة السياسة إليها، وانتهت –نتيجة عوامل عديدة- بحروب وكوارث مهولة، كما هو الحال في ليبيا وسورية واليمن.
في الاستعارات والمعاني
عنوان هذا النص هو استعارة معكوسة ومعدلة لنص شهير لأبي حامد الغزالي بعنوان “إلجام العوام عن علم الكلام”، لتصبح “انهمام العوام بالشأن العام” أو بالأحرى دفع أو حث الناس أو المواطنين على الانهمام بالشأن العام.
وبقدر حماس أو إصرار الغزالي على “إلجام العوام عن علم الكلام”، وهذا الموضوع ليس محض ديني أو فقهي، وإنما هو اجتماعي-سياسي أيضاً؛ فإن هذا النص يدعو بحماس وإصرار أيضاً لـ”انهمام” العوام في الشأن العام وتدبير السياسة والحكم، في أفق حقوق الإنسان، وأفق المجتمعات والدول، وأفق العالم اليوم، بكل منجزه الحضاري والإنساني.
وكانت كتب الآداب السلطانية ومرايا الملوك وتدبير السياسات الشرعية وأحكام الراعي والرعية، دعت لـ”إلجام العوام” عن أمور السياسة والحكم، بكل الحمولات السلبية والازدرائية حيال “العوام” أو “العامة” التي ترد فيها، والتي عادة ما تصفهم أو تسمهم بـ”الغوغاء” و”الدهماء”، محذرة من “تسييسهم” و”انفلاتهم” و”خروجهم” على ولي الأمر.
لكن العالم تغير كثيراً عما كان عليه، ولم يعد بالإمكان حصر تدبير الشأن العام بالخاصة دون العامة، وتَغَيَّرَ “براديغم السياسة”، وتكاد أفكار حقوق الإنسان والمواطنة والإرادة العامة والمشاركة السياسية والديمقراطية، أن تكون من المسلمات في العالم اليوم. لو أن الحال مختلف في المنطقة العربية والشرق الأوسط، التي تعاني الحياةُ السياسية فيها من اختناقات وانحباسات وعقد وإكراهات كثيرة، وهي بعيدة عن الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الإنسان.
بين الإشباع والاختناق!
وهكذا، فإن المجتمعات الحداثية والديمقراطية، وخاصة في أوربا والعوالم المتقدمة، ربما “عزفت” عن السياسة والشأن العام، لكن بعدما شبعت أو أُشبعت منهما، إن أمكن التعبير. وأما المجتمعات غير الحداثية وغير الديمقراطية، وخاصة في المنطقة العربية والشرق الأوسط، فـ”تعزف” عن السياسة والشأن العام كرهاً، وإحباطاً، ونفوراً من أمور لا حيله لها حيالها، واغتراباً وتخلياً وهروباً إلى أمور أكثر أولوية أو أكثر نجاعة وقابلية، من منظور فردي وربما “جماعي”، إن أمكن التعبير.
السياسة في المشرق
ينظر في الثقافة ونظم القيم المشرقية إلى السياسة بوصفها مفسدة، ومصدر الالام والشرور، ومن ذلك قول الشيخ محمد عبده: “أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة،
ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة…”، والسياسة فتنة ومقتلة، لكثرة ما جرى من دماء وحدث من دمار نتيجة الصراع على الحكم في تاريخ المنطقة. وان نظرة على مقدمة ابن خلدون أو أي من كتب التواريخ والسِّيَر المعروفة يُظهر ذلك وأكثر.
المفارقة أن الجذر اللغوي لكلمة “سياسة” في العربية، يحيل إلى “ساس، يسوس”، أي “ترويض الخيل”، فهل قدر المنطقة أن تحافظ السياسة فيها على سمات تعود لدلالاتها اللغوية والمعجمية الأولى، الإسطبل وسوس الخيل! فيما تعود جذروها لدى الإغريق إلى “المدينة” وفضاء التعدد والتدبير، على ما يرد في كتب السياسات لأفلاطون وارسطو الاستاذان والمرجعان المبجلان في تاريخ الفكر البشري؟
وهكذا، تحول كثير من السلطات ونظم الحكم إلى قوى مفروضة على المجتمع، من الخارج أو من أعلى، شيء يشبه “الاحتلال الداخلي”. وتحولت المنطقة، وعلى مدى قرون، إلى تشكلات وبنى دولتية وسلطانية “في حالة صراع دائم” في الداخل والخارج. وبعد مضي أكثر من قرن على ولادة أو تأسيس الدولة الحديثة في المنطقة العربية وتركيا وإيران، فإنها لا تزال جهازاً للسلطة أكثر منه دولة، بالمعنى المعروف في العلوم السياسية وفي العالم اليوم، ويحتدم الصراع عليها هي وليس على السياسة والسلطة تحت مظلتها أو في أفقها، صراع عليها بوصفها “الجائزة الكبرى” في السياسة، و”ماكينة” لتوزيع الموارد المادية والمعنوية.
خارج السياسة، خارج التاريخ
كانت لدى المجتمعات في هذا المشرق الجميل قابلية نشطة للانخراط في الشأن العمومي. وحدث نوع من “التسييس الفائق” للمجال، وسمي الناس بـ”الشعب” و”الجماهير”، وارتفع سقف الرهانات والتوقعات، وبالتالي الصراع في أفق إيديولوجيات وسياسات متصارعة ومتنافسة على كسب التأييد واعداء تمثيل الشعب أو الأمة، لكن النتائج كانت ضعيفة نسبياً، وأحياناً ما كان الواقع عكس الخطاب، فلم تتحقق التنمية أو الوحدة أو الحرية أو أي من الأهداف والمقولات الكبرى التي كانت سائدة في فضاء أو حيز السياسة والتفكير آنذاك، وما تحقق فعلياً هو المزيد من الانقسام الاجتماعي، والاستبداد، والفساد، وتبديد الثروات؛ وانفض الناس أو العامة عن الإيديولوجيات الكبرى السائدة أو الحاكمة، وارتدوا إلى إيديولوجيات دينية أو طائفية أو جهوية أو قبلية الخ ومنهم من “طلَّقَ” السياسة نهائياً.
وجد الشعب نفسه خارج السياسة، صحيح أنه موضوعها، لكن السمة الأبرز هي في كونه “ضحيتها”. فيما أَصَرَّ الساسةُ “وأولو الأمر” على أنهم قادة الأمة أو الشعب، وأنبياؤه المسلحون بالقوة والموارد، وبالولاء للخارج، والاتباع والزبانية في الداخل، وهم ضعفاء أمام الخارج بقدر تسلطهم في الداخل. وفي النهاية وجد الجميع أنفسهم “خارج التاريخ”.
التخلِّي
العزوف عن السياسة أو الشأن العام هو “سياسة أخرى” أو “استمرار للسياسة إنما بوسائل أخرى”، وأنماط أخرى، عادة ما تتجاوز أفق مجتمع ودولة إلى التمركز حول “الأنا”، أنا الجماعة أو الملة أو القبيلة أو الطائفة أو الشبكة والعصبة أو الطبقة أو الحزب أو الفرد نفسه؛ تمركزات متداخلة، ولكن الأبواب بينها مفتوحة، هذا نوع الإحلال، أي إحلال سياسة محل أخرى.
لكن النتيجة الأهم هي التخلي، أي ترك كل هذا وذاك، وترك “الجمل بما حمل”، من أجل الخلاص الفردي أو العائلي، إن أمكن التعبير، وهو خلاص يطلب بوسائل ومداخل شتى، لعل أهمها البحث عن الفرصة أنى وُجدت، داخل البلاد أو خارجها، والخارج هو المرجح أو المفضل، حتى أصبحت الهجرات السورية والمشرقية، ظاهرة عالمية موجعة.
في الانهمام المطلوب
المشكلة ان “سوق المعنى” و”فضاء التفكير” في هذا المشرق، ليس فيه مقولات أو مشروعات تتناسب مع الأسئلة والتحديات التي تواجه مجتمعاته وشعوبه أو بالأحرى “عَوَامَّه”، ولا مقولات أو مشروعات متناسبة مع الُمنجز الحضاري والإنساني في العالم اليوم. وان معظم المطروح فيه، هو “بضاعة منتهية الصلاحية”، وهي إما بضاعة (قُل: مقولات وأفكار ومشروعات) عائدة أو مستعادة من الماضي أو مستوردة من حاضر الاخر (الغرب)، ولكنها لا تعمل في أفق مجتمع ودولة.
إن استعادة العامة يتطلب تحرير “سوق المعنى” و”الفضاء العمومي” من إكراهات الواقع والتاريخ، وإكراهات السياسة، وكل “لجام” أو “إلجام” مَنَعَهُم عن التفكير فيما هم فيه، وفي تدبير حياتهم ومستقبلهم، وليس من اليسر معرفة كيف يمكن أن يحدث ذلك، في ظل غياب أي مؤشرات جدية يمكن التعويل عليها.
المطلوب هو “ضبط” سوق المعنى، بتحريره من المدارك النمطية والسياسات والأدلجات التي أخفقت و”انتهت صلاحيتها”، ومن ثم فإن التمسك بها لن يفضيَ إلا إلى مزيد من الكوارث، وبالطبع مزيد من التخلي، والتوترات والنزاعات، والانتقال والترحال بين الأفكار والأزمنة والأمكنة والجبهات.
وتحرير “سوق المعنى” يعني أيضاً، رفده بـ”أفكار” و”مقولات” أقل ما يقال فيها أنها “قابلة للتداول” و”التلقي”، و”ذات جاذبية”، وذلك بالتوازي مع تحرير “العوام” و”فضاء التفكير” من: أسر القيم الطارئة حول المعنى والهوية والمصلحة الناتجة عن الحرب أو التوتر والصراع، ومن نزعات “اللا دولة”، وتحريرهم من التمركز حول الملة والطائفة والجماعة الخ لصالح التمركز حول الأمة أو الجماعة الوطنية، ومن منطق الغزو والغنيمة، ومنطق “ربي أسألك نفسي”!
يحتاج دفع أو حثّ العوام للانهمام بالشأن العام، نوعاً من الانخراط الحر، الفردي والجماعي، والحيوي في التفكير والمداولة والحوار، والأخذ والرد، والانتظام في الجمعيات والمنتديات والأحزاب والمنابر والشبكات الخ في أفق مجتمع ودولة وأفق إنسي أو إنساني يعد التعدد والتنوع الاجتماعي والثقافي واللغوي والديني الخ “بداهة مؤسسة” ومصدر غنى، لا مصدر تهديد، للجماعة الوطنية.
أما التأكيد على فكرة أو بداهة التعدد والاختلاف، فليس لأن المجتمع متعدد بطبيعته وتاريخه، أو من أجل أولوية التعدد على الوحدة، وإنما لتجاوز أحد مصادر التهديد والانقسام والاختراق التاريخية بتحويلها إلى فرصة ومصدر غنى وتماسك اجتماعي ووطني.
ثمة فرق كبير بين أن تكون التكوينات الاجتماعية “متكيفة” مع المشروعات الوطنية (التي عادة ما تقودها الجماعات الكبيرة)، أو حتى “غير معارضة” لها؛ وبين أن تكون “جزء منها”. ويحيل الأمر إلى ما يسميه هابرماس بـ “الهوية الجماعية”، وهي ليست معطى تلقائياً أو متوفراً على الدوام، فضلاً عن أنه يمكن أن يتأثر بعوامل وفواعل كثيرة، وقابل للنكوص.
أختم،
بفكرة كنت اقترحتها في كتابي “الوعي والتجاوز”، الذي صدر قبل عدة أشهر، واستعرتها من نيتشه تقول الفكرة: ان الإغريق افتقروا للهمة والحماس حيال الشأن العام وحيال العالم، بل وحيال أنفسهم. وان تراجعهم يعود لافتقارهم “أربع ربات” كانت السر في تفوقهم، وهي: “الأوان” و”الفطنة” و”الإقدام” و”خلو البال”.
وهكذا، يحتاج المشرقيون، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين وغيرها، لتوافر ثلاثة على الأقل من “ربات الإغريق” هي: “الأوان”، أي إدراك اللحظة ومعرفة أحوالهم وأحوال العالم من حولهم؛ و”الفطنة”، أي التحلي بالنباهة والذكاء في تدبير ما هم فيه، وتدبير خروجهم منه؛ و”الإقدام”، أي التحلي بالقوة والإرادة على الفعل. وأما الربة الرابعة فهي “خلو البال” إلا من هدف رئيس وهو التحلي بالهمة اللازمة لمباشرة أهداف واجبة التحقيق،
وما أبعد الشقة!