هل الحبُّ فعلا في القلب؟

عبير شوربا-بيروت
من أين هذا الارتباط بين القلب والحب؟ وكيف نُدرك أصلا أن الحبَّ موجودٌ في القلب وليس في مكان آخر؟ ومع عمليات زرع القلب الحديثة، هل يبقى الحبُّ في القلب القديم أم يتسلل الى الجديد؟ وماذا لو كان الحبُّ في الدماغ مثلا كما يقول بعض أهل العلم الحديث؟
أسئلة كثيرة تدفعنا اليوم للبحث عن هذه الجوهرة الإنسانية التي احتلت كل شعر الغرام ورسائل العشق قديما وحديثا. فهل يُمكن اليوم مثلا إرسال رسالة الكترونية عبر الهاتف أو الكومبيوتر، بلا صورة صغيرة رمزية للقلب؟ من أين جاء كلُّ هذا؟
في الديانات السماوية
قبل نحو 1400 سنة نصحنا النبي محمد (صل الله عليه وسلم) قائلا: “استفتِ قلبك ولو أفتوك”، وعلّم السيد المسيح كلّ من تبعه قبل أكثر من ألفي أن:” أحبِب الرب إلهك من كلِّ قلبك”. كما اتفق معظم الحكماء القدماء مع نتائج الدراسات الحديثة على أهمية القلب. فأكدوا أن بوصلتنا التي تُرشدنا دائما الى الحقيقة، وانه أصدق من الدماغ أو الفكر.
في الطب
كشف طبيب القلب الألماني المعاصر “أرمين ديتز” أن صورة القلب تطورت من صور قديمة لأوراق التين واللبلاب التي عُثر عليها في الأعمال الفنية، وعلى الأعمدة اليونانية، وعلى شواهد القبور الرومانية، ويعود تاريخها إلى الالفية الثالثة قبل الميلاد.
ويقول الدكتور طه أبو حسين أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية في مصر في حديث لموقع: “مصراوي”: إن القلب يعتبر غدة دموية تقوم بضخ الدم بنسبة وكفاءة معينة، ومن خلال كمية الضخ يثبت ان كان الشخص في حالة حب أم لا.” وتبيّن له أن الشخص الذي يعيش حالة من الحب:” يعمل قلبُه بكفاءة ويتم ضخ الدم لجميع انحاء الجسم وتتحول جميع أعضاء الجسم الى حالة نشاط، وهو ما يعود على الشخص بالصحة الجيدة والطاقة الإيجابية والإقبال على الحياة”
يدفعنا ذلك الى السؤال عن ” صمود” القلب أمام كل المغريات الأخرى والبقاء على عرش أي وصف للحب، فهو تخطى برمزه شعر الحب الوثني، ولوحات العصور الوسطى، والدراما الشكسبيرية، ليبقى حتى يومنا هذا الرمز الوحيد للحب والعشق والغرام. نراه يتصدر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والمجوهرات، والملابس، وبطاقات المعايدة، وقوالب الحلوى، لكن من يعلم فعلا متى اكتُشف هذا الرمز للقلب رغم أن القلب الحقيقي قد يختلف عن الرمز؟ ولماذا ارتبط قلب الانسان وشكله بالعواطف وخاصةً الحب؟
الفراعنة والقلب
لعل أبرز الإجابات نجدها في كتاب” The Amorous Heart” او”القلب المُغرم -تاريخ غير تقليدي للحب” لمارلين يالوم. فهي تقول:” إن جذور الاعتقاد بان القلب هو منزل للشعور الغرامي تعود الى الحضارة الفرعونية والدليل على ذلك هو شعرُهُم، حيث يصور أحد الشعراء الفراعنة قلبه كعبد للمرأة التي أرادها”.
وتضيف أنه في البُعد الديني، أيقن المصريون القدامى ان “القلب هو مقر الروح الذي يجب امتحانه بميزان ريشة الحقيقة أثناء وفاة المرء، ليتقرر مصيره الأبدي. فإما يدخل حياة الآخرة بسلام ان كان قلبُه نقيّاً او تلتهمُه الوحوش إن ثقل َ ميزانه. وان هذا السيناريو من محاكمة القلب استبق the Christian Last Judgment او الحكم المسيحي الأخير”.
في الفلسفات والأساطير
توضحُ الكاتبة أن الاصول التاريخية “لشخصية القلب” المقترنة بالمشاعر الانسانية كانت موجودة ايضا عند الاغريق. فاتفق الفلاسفة ُاليونانيون على أن القلب مرتبط بأقوى وأعمق أحاسيسنا، بما في ذلك الحب. وقد جادل أفلاطون في الدور المهيمن للصدر في هذه العاطفة، كما المشاعر السلبية كالخوف، والغضب، والألم. أما أرسطو فقد منحه دور السيادة في جميع العمليات البشرية. ومثّل الشعر الغنائي آنذاك أكبر حجة على ذلك. فأنشدت الشاعرة سافو في هذا السياق قائلة: ” إن الحب هز قلبي، مثل الريح التي تزعج أشجار البلوط على الجبل “.
شددت المؤرخة النسوية على تسليم الرومان بالعلاقة بين القلب والحب. فهم آمنوا بأن إلهة الحب فينوس تشعل قلوب العشاق بمساعدة سهام ابنها كيوبيد الذي يختار قلب الإنسان دائمًا. وزعموا أن هناك وريدًا يمتد من الإصبع الرابع من اليد اليسرى مباشرة إلى القلب. وبالرغم من أن هذا الاعتقاد ناقضه علم التشريح البشري، الا انه استمر الى فترة القرون الوسطى. فاشتهرت عادة وضع خاتم الزواج، منذ ذاك الحين في الإصبع الرابع. كما أرجع العلماء اكتشاف أقدم صورة معروفة لشكل القلب الى العهد الروماني، اذ وُجِد نقشه على عملة معدنية تكريما لنبتة “السيلفيوم” (الشمر العملاق) المنقرضة، التي شاع استخدامها لتحديد النسل. هذا ما دفع الكثيرين للاعتقاد بوجود علاقة حتمية بين رمز القلب من جهة والحب والجنس والأعضاء التناسلية الانثوية من جهة أخرى، وفق كتاب “القلب المغروم”.
كذلك ربطت الاساطير الاسكندنافية شكل اجساد اليعسوب المتزاوج بشكل القلب، لاقتران هذه الحشرة بإلهتهم فريا (إلهة الحب والجنس والخصوبة).
بين الدين والعلمانية
من خلال أبحاثها الكثيرة، توصلت الكاتبة يالوم الى ان “ولادة الديانات السماوية بشّرت بالتنافس بين المطالبات العلمانية والدينية للقلب، وأن دور الحب العاطفي ازدهر في حياة الإنسان عقب وصوله الى الوعي الغربي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. آنذاك لم يحتل مكانته فقط كمفهوم أدبي، بل أيضًا كقيمة اجتماعية مهمة. فشاع ما يُعرف ب Finamore او ” ذروة الحب” في الشعر الغنائي، لكنه كان حكرا على طبقة النبلاء و الرجال الاثرياء الذين يستطيعون تحمل طقوسه المرتبطة بإجبارهم على تقديم الهدايا الثمينة، والزهور، والشعر للحبيبة .
كذلك انتشرت علامته في رسومات الفنانين، على جدارياتهم، وفي مخطوطاتهم ونصوصهم، حيث” ظهرت للمرة الأولى في مخطوطة بعنوان The Romance of Alexander، كتبها “لامبرت لو تور” باللهجة الفرنسية “لبيكاردي”. ويُرجَّح ان تكون رسومات القلب الفنية كما التشريحية (كرسم الطبيب الإيطالي جويدو دا فيجيفانو)، مبنية على أوصاف أرسطو المكتوبة والطبيب الاغريقي جالينوس.
الكاتبة تربط انتشار زخرفة القلب بطرق مبتكرة في جميع أنحاء أوروبا بالقرن الخامس عشر. فتقول بأنها “استُخدمت في شعارات النبالة، وعلى أوراق اللعب، والأمشاط، والصناديق الخشبية، ومقابض السيوف ،…وقد ساهم الفرنسي بيير سالا في تاريخ القلب العاطفي ، من خلال كتابه الشعري لحبيبته “شعارات الحب “.
عن العرب
العلاقة بين القلب والحب عند العرب واليابانيين تعود الى الفترة الممتدة ما بين العصور القديمة الكلاسيكية والعصور الوسطى. وتكفي نظرة سريعة على معظم الأدب والشعر والفنون العربية الكلاسيكية التي ظهرت قبل وبعد الإسلام حتى يومنا هذا، لنُدرك كم أن القلب كان عنوانا بارزا للتعبير عن الحب والعاطفة والعشق والهيام ولكن أيضا الألم والحزن.
يقول الياس أبو شبكة :
ما لي أَرى القَلبَ في عَينَيكِ يَلتَهِبُ/ أَلَيسَ لِلنّارِ يا أُختَ الشَقا سَبَبُ
بَعضُ القُلوبِ ثِمارٌ ما يَزالُ بِها/ عَرفُ الجنانِ وَلكِن بَعضُها حَطَبُ
والقلب كان عند قدامى العرب أيضا مكان الشجاعة والفروسية والنبل، فيقول عنترة بن شدّاد:
إنّي أنا ليثُ العرين وَمَن له … قلبُ الجبانِ مُحَيّرٌ مَدهوشُ
في عام 1977، انضوت معانٍ كثيرة تحت جناح أيقونة القلب فشملت المشاعر الوطنية والمدنية. فأبدع مصمم الجرافيك Milton Glaser بأشهر شعار “I ❤ NY” (أُحبُّ نيويورك) بغية رفع الروح المعنوية لمدينة نيويورك الأميركية وجذب السيّاح إليها، وذلك بعد تراكم القمامة في شوارعها، وارتفاع معدل الجريمة فيها.
لا شك انه على امتداد الزمن، حاول الرجال والنساء التعبير بالكلمات عن درجات الحب المختلفة التي مروا بها من الولع والعشق والهيام والغرام، لكن عندما تخيبنا الكلمات، فإننا حتما نعود إلى هذا الرمز الذي بات جسرا عالميا بين القلوب ووسيلة لقول ما لا يقال بالكلام.