ثقافة ومنوعات

هل تحتاج البشرية للعودة الى الأسطورة؟

 هادي صبرا-لبنان

يقول الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون: “من يهدم دين يهدم كل جماعة بشرية”. بيد أنّ الحضارة الإنسانيّة في عصورها التاريخية عمِلت على نسج الخيوط الأسطورية والدّينية حول نشأة الإنسان و العوالم و العناصر الطبيعية المحيطة بها، إذ يُمكن للباحث و القارئ أن يُلاحظ أنّ الأسطورة كانت الركيزة الأساسية و الحلقة المترابطة التي شكّلت هوية الشعوب القديمة. فمنذ أن وطأت قدمُ الإنسان الأرض تأثّر بالمحيط البيئي الذي وُجد فيه وأقلقته الخوارق التي لم يجد لها تفسيراً في بادئ الأمر.

في كتابه “مغامرة العقل الأولى” يُقدم الباحث وعالم الآثار السوري د. فراس السّوّاح على شرح الأسطورة بأنّها هي التفكير في القوى البدائية الفاعلة الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفيّة عملها و تأثيرها و ترابطها مع عالمنا و حياتنا. لهذا فإنّنا نرى بأنّ العناصر الأسطورية مستمدة من الواقع الجغرافي و الطبيعي الذي عاش فيه الإنسان القديم، و هذا ما نراه على سبيل المثال لا الحصر في الحضارة الرافدية من تماثيل ذات جسم حيواني و وجه آدمي، و ما تحفظه الرّقيّمات و الآثار من قصص أسطورية تحدّثت عن الطوفان و بداية الخليقة و غيرها… فكل رموزها مصوّرة من مشاهدات بيئية (شمس، قمر، نجوم، كواكب…) و أخرى من صُنع الإنسان كالأدوات الحجرية و المعدنية.

يرى البعض أنّ الأسطورة لا تعدو كونها خرافة، بل أنّها وفي بعض الأحيان مادة للتسلية. إنّ هذا التصوّر ليس بالضرورة خاطئاً، ولكن الخطأ هو الاعتقاد بأنّ الأسطورة قد وُجدت لهذا الغرض دون غيره، فدراسة الأساطير في الميدان الأثري يتطلّب التفكير بعقلية ذلك الإنسان القديم لفهم الطريقة التي أراد التعبير بها عن مفهوم الحياة والموت والسبب الكامن وراء الوجود.

أراد الإنسان القديم أن يظهر سبباً ميتافيزيقياً ساهم في نشأة الوجود وهو ما يُعرف بالإله أو الآلهة، الذي عمل جاهداً على استرضائها وعدم إثارة غضبها ظناً منه بتحسين ظروف الحياة اليومية أو الحصول على السعادة الأبدية، فعمل على تقديم الذبائح و المحرقات و النذور و عمل على نسج عدد من التراتيل و الأناشيد التي يكسب بها عطف تلك الآلهة، وهذا ما شكّل إشباعاً لفضوله الفكري و النفسي.

يشرح عالم النفس الشهير سيغموند فرويد في كتابه “تفسير الأحلام” التشابه بين الأحلام والأساطير، و ذلك لأنّها تتكون من رموز متشابهة لها علاقة بحياة الإنسان اليومية و البيئة الطبيعية المتواجد فيها، و أنّها نتاج العمليات النفسية اللاشعورية، و يكمن التشابه أيضاً بشخصيّة الفرد البطل الذي يقوم بأعمال خارقة خارج دائرة الزمان و المكان و بعيداً عن سيطرة العقل الواعي لدى الفرد.

في سياق آخر يطرح رائد الأنثروبولوجيا الحديثة السير جيمس فريزر بأن الأسطورة ليس بالضرورة أن تنشأ دائماً من فكرة نفسية، بل إنّها قد تكون مستمدة من الطقوس، و يشرح أنّه مع مرور زمن طويل و فقدان الاتصال مع الأجيال التي أسست طقسا معينا، يبدو و كأنه غير ذي معنى أو هدف، فتُعطي الأسطورة تفسيراً و تبريراً له، بحيث تقوم حضارة أو جماعة بشرية بنسج سرد أسطوري جديد غير السرد القديم الذي نشأ هذا الطقس من أجله.

تذكر المؤلفة البريطانية كارين ارمسترونغ في كتابها “تاريخ الأسطورة” على أنّ الأسطورة و بالرغم من عدم إمكانية حدوثها في التاريخ إلا أنها تكتب على أساس أنها حصلت في مكان و زمان معيّنين و هي تكون بدلالاتها لكل الأزمنة و العصور، و في نظرتها للأمور تعتبر أنّ الأسطورة محاولة أولى و مبكرة لدراسة علمية في النفس البشرية، و تُبرر ذلك على أنّ قصص الأبطال و المشاهدات الأسطورية هي نشاطات غامضة في عمق و باطن الإنسان.  

إنّ إعادة إحياء الأساطير على أنها نتاج أدبي وثقافي لحضارات معيّنة أمر ضروري لأنّه يُقدّم نظرة شاملة و فهم أوسع لحياتنا اليومية و لتصوّراتنا الفلسفية و الروحية حول الوجود البشري منذ الأزل، وهذا ما حصل في أوروبا في القرن التاسع عشر حينما جلبت إعادة إحياء الأسطورة ثورة فنية و جمالية تلاشت فيما بعد. ومهما يكن فإنّ الأساطير و القصص الدينية مازالت تقدّم إشباعاً و ملجأً روحياً و نفسياً للعديد من الشعوب في ظل ثورة تكنولوجيّة و علميّة تساعد على تفسير أفضل للظواهر الطبيعية و الفيزيائية. 

————————————————————————————————

الكاتب: هادي صبرا

باحث جامعي في  علم الآثار

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button