آخر خبرافتتاحية

إسرائيل تستفيد من الفضائح الجنسية للكنيسة

سامي كليب :

لا بد من الإقرار أولا بأن ما كشفته، مشكورة، اللجنة الفرنسية للتحقيق في الاعتداءات الجنسية داخل الكنيسة الكاثوليكية، مُرعبٌ ومقزّز، ذلك أن عمليات التحرّش والاعتداء طالت نحو 330 ألف شخصٍ معظمهم من الأطفال والشبّان المراهقين. فهذه جريمة لا بُد من أن يُلاقي أصحابُها العقاب القاسي بعد أن تواصل إجرامُهم طيلة الفترة الممتدة من 1950 الى  2020. لكن ثمة جانباً آخر يجب عدمُ إغفالِه وسط هذه الكارثة الكنسية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، يتعلق بقدرة إسرائيل الكبيرة على الإفادة مما حصل، كيف؟

لا شك أن هذا التشوية الذي تسبّب به بعض الشاذين من الرهبان والعاملين في الكنائس العريقة التي كانت موضع التحقيق، تضاعف مرّات عديدة من خلال الإعلام والكتب والدراسات التي تغزو منذ سنوات المكتبات الفرنسية والغربية حول التحرّش الجنسي في الكنيسة. تسليطُ الضوء هذا ساهم وسيُساهم حتماً في خلقِ رأي عام متوجّس من الكنيسة بشكل عام وربما شاجب لها، حتى ولو أن الاعتداءات لا تُشكّل أكثر من 4%  من مجمع الاعتداءات الجنسية التي يتعرّض لها الأطفال والمراهقون في فرنسا.

صحيح أن الإعلام هنا يقوم بدوره الطبيعي أمام حدث جَلَلٍ كهذا، وكذلك دور النشر ومراكز الدراسات، لكن كُرة الثلج التي بدأت في فرنسا ستمتد حتماً الى الكنائس الأخرى عبر العالم ومنها في الشرق، حيث الكلام عن التحرّش، لو وُجد، يبقى من المحرّمات. وهنا قد يُصبح دورُ بعض الإعلام سياسيا ودعائيا لأهداف أخرى.

نحن إذا أمام حالة من تشويه “الكل” بسبب إجرام “الجزء”، أي أن الكنيسة كلّها صارت في عين المجهر ويكاد العالم ينسى كل الخير الذي قامت به عبر تاريخها الطويل، وهذا تماما ما حصل مع الإسلام، رغم أن الإرهابيين الذين فجّروا وقتلوا وذبحوا باسمه هم جزء بالكاد يُرى أمام أكثر من مليار و800 مليون مُسلم.  اليوم كلُّ مُسلم مُدان حتى يُثبت العكس، وغدا قد يُصبح كل راهب مُدان حتى يُثبت العكس.

ولو أضفنا الى تشويه صورة الكنيسة الكاثوليكية، وصورة الإسلام، ما تعرّضت له الكنيسة الارثوذوكسية الروسية من انشقاق، وما تحدّثت بشأنه موسكو عن مؤامرات غربية ضد هذه الكنيسة، نُصبح أمام عملية تشويه طالت الكنيستين الاساسيتين عند المسيحيين ، كما طالت الإسلام.

هنا بالضبط تبدأ القصة، فأمام هذا التشويه الكبير الذي طال المسيحية والإسلام وأصحاب الديانتين العريقتين، يبرز نموذجٌ دينيٌ جديد في العالم منذ عقود، وبدأ يأخذُ مساحات أكبر أهمية في السياسات والخطط ورسم الخرائط منذ الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الى الرئيس دونالد ترامب.

فالعالم يشهد تناميا كبيرة لنظرية اللقاء بين ” الانجيليين الجدد” واليهود المتشددين المؤيدين لإسرائيل، حتى ذهب البعضُ الى وصف هؤلاء الانجيليين ” بالصهاينة المسيحيين”، وصار عددهم يربو على 100 مليون شخص بين أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وافريقيا ودول كثيرة أخرى بينها في الشرق الأوسط نفسه والمغرب ومصر والسودان والخليج.

 أصحاب هذا النموذج يعتقدون بأن عودة السيد المسيح لن تتم دون قيام الهيكل، وأن الهيكل لا يمكن أن يقوم إلا في القدس، وأن القدس لا يمكن أن تكون إلا يهودية.  هذا يعني انه مقابل ضرب الإسلام، وتشويه الكنيسة الكاثوليكية، وشق الكنيسة الارثوذوكسية، تُصبح النظرية الانجيلية الأصولية المتحالفة مع الأصولية اليهودية، جاهزة لاحتلال المشهد واسكات كل من يعترض على اكمال إسرائيل قضم فلسطين وتهويد الأرض والحجر والتاريخ والجغرافيا، تماما كما كان لهؤلاء الانجيليين الدور الأبرز في دعم احتلال العراق وغزو لبنان واجتياح غزة ونقل السفارات الأميركية والبرازيلية وغيرها من تل أبيب الى القدس وصولا الى صفقة القرن والضغط للتطبيع العربي الإسرائيلي. ومن يعترض على ذلك ستكون التهمة جاهزة ” انت مُتحرّش جنسيا”، تماما كما كانت قبلها :” انت معاد للسامية”.

 في خطابه أمام “الاتحاد المسيحي من اجل إسرائيل”، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو:”ليس لدينا أصدقاء أفضل من المناصرين المسيحيين لإسرائيل، وأنتم انضممتم الينا لأننا نُمثّل هذا الإرث المشترك للحرية الذي يعود الى آلاف السنين”.

ليس الانجيليون الجدد جديدين فعلا، فمن يقرأ كتبا ودراسات كثيرة حولهم وبينها الكتاب الذي وضعه السفير الفرنسي السابق ميشال ريمبو بعنوان ” حروب سوريا” أو كتاب اللبناني جو معكرون، وغيرهما، يُدرك أن الإنجيليين الجدد (الذين يختلفون جذريا عن الكنيسة الانجيلية التقليدية العريقة والتي ناهض أبرز أربابها هذه البدع الجديدة) رافقوا عهودا أميركية عديدة.

فلو عدنا الى بعض التاريخ الحديث نرى أنه  منذ  إعلان وعد بلفور، رأى الإنجيليون المحافظون في الأمر انتصاراً شخصياً يسرّع رزنامة النبوّة للوصول إلى إعلان عودة السيد المسيح ونهاية العالم. وقد ظهرت فعالية الحركة الإنجيلية خلال حرب السويس (1956)، حين وجهت انتقادات للرئيس ايزنهاور بعد مطالبته بتراجع الإسرائيليين من سيناء، معتبرة أن طلب ايزنهاور يعارض ما يرسمه الله.

كذلك نرى أن مجموعات الضغط الانجيلية الأصولية التي أقامت أكبر سفارة لها في القدس،  وقفت خلف جورج دبليو بوش ودعمت اجتياح العراق “حتى ينتصر الخير” على حد تعبير قادتها. فهؤلاء يعتبرون ان “العالم منقسم بين أخيار وأشرار”، ولا بد للخير (الذي يمثلونه طبعا) أن ينتصر ويهزم اعداءه في محور الشر.

 قبل جورج دبليو بوش بسنوات، كان الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان يقول :”أتمنى أن يكرّمني الله بأن أضغط على الزر النووي حتى تقع معركة هرمجدون وأساعد في العودة الثانية للمسيح”. كذلك كان الرئيس جيمي كارتر جزءا من هذه الحركة لكنه واجه غضبها حين نحا صوب السلام.

خلاصةُ القول، إن على الكنيسة المسيحية العريقة التي انطلقت من هذا الشرق المتألم، شرق الحروب والويلات والدماء والدموع، شرق السيد المسيح والنبي محمد صوب العالم، أن تقرأ جيدا ما يحصل، وأن تكون مقدامة في إعادة انتاج صورتها ومعاقبة من أساءوا لها  كما دعا الحبر الأعظم من قلب الفاتيكان، قبل ان تجد نفسها مع الكنيسة الارثوذوكسية والإسلام في مواجهة أيديولوجيا دينية-سياسية جديدة، لا ترى خيرا في هذا العالم الا ما تفعله إسرائيل ومن يدعمها. فلعل كل هذا التشوية ليس بريئا رغم هول كارثة الاعتداءات الجنسية المقزّزة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button