آخر خبرافتتاحية

السعودية ولبنان وبوابة دمشق… بلا أوهام

سامي كليب:

تغيّرت المملكة العربية السعودية، بينما لبنان لم يتغيّر، وفي هذا بالضبط يكمُن عدم الفهم اللبناني لإحجام السعودية عن الانخراط في الأوضاع اللبنانية والمساهمة بانتشال من تسبّبوا بها، وقد يكون من بالغ سوء التقدير اللبناني، القول بأن السعودية وبسبب غضبها من آل الحريري بشكل عام، ومن سيطرة حزب الله على القرارات الكُبرى في لبنان ما عادت مهتمّة بالشأن اللبناني، فإذا كانت بعض هذه الاسباب صحيحة الا أن السبب الأكبر هو في أولويات الرياض حاليا.

الواقع أن أولويات السعودية مع الرجل القوي فيها حاليا، الأمير محمد بن سلمان، ما عادت في لبنان، فوليُّ العهد السعودي يُعطي الأولوية للداخل عنده، على أساس أن تقوية الداخل وجذب جيل الشباب الكبير العدد، سيفرضُ على الخارج خيارات أخرى، ولذلك قام منذ وصوله الى أبواب العرش، بخططٍ إصلاحية متعددة المجالات من الاقتصاد وتوسيع حقوق المرأة الى التربية والتعليم وتطويق المتشددين الدينيين وصولا الى بحث البدائل عن النفط وإقامة مدن تكنولوجية عصرية، إضافة الى التوسع في التحالفات الخارجية صوب الصين وروسيا.

بالمقابل ما زال معظم الساسة اللبنانيين، خصوصا الذين أفادوا كثيرا من المال السعودي سابقا، ينظرون الى السعودية من منطلق نظرتهم السابقة، أي أنها خزانة المال التي تُغدق دون حساب، وكأنما لبنان الذي كان مقصدا سياحياً أو قطاعاً مصرفياً أو مركزاً إعلامياً مؤثراً أو جامعات متقدّمة، ما زال قادرا على إغراء السعودية بكل ذلك، بينما الحقيقة أن المملكة، صارت تفوق لبنان بأشواط كثيرة في معظم هذه المجالات.

 السعودية وفق مراكز تصنيف عالمية ومنها مثلا    (Nature Index) احتلت منذ العام  2019 المركز الأول عربيا، والتاسع والعشرين عالميا في مجال البحث العلمي، وما زالت حتى الآن في هذه المرتبة  حيث تُعدّ مع  الإمارات العربية الدولتين العربيتين اللتين دخلتا قائمة الـ 50 العالمية الاكثر انتاجا في البحث العلمي  وهي ثاني أكبر مساهم بين دول الشرق الأوسط وأفريقيا.

ولنا أن نتخيّل أكبر الشركات العالمية، لو وُضعت بين خياري المجيء الى لبنان أو العمل في السعودية، الى أين تذهب؟ الى بلد ثري أم الى آخر مُفلس؟ كما أن كبريات المؤسسات الإعلامية اللبنانية مستعدة اليوم كما كان شأنها دائما أن تخصص معظم نشراتها وأخبارها وبرامجها لما يُرضي السعودية، الاّ ما ندر، وبعض هذه المؤسسات يطرق الأبواب مرارا للحصول على ملايين الدولارات التي يقول أنه يستحقها منذ سنوات، بينما المؤسسات الإعلامية السعودية صارت الأولى عربيا منذ سنوات.  وأما المجال الطبّي، فلا داعي للحديث أكثر عن هروب الأطباء من لبنان وانهيار المستشفيات، بينما نُلاحظ أن السعودية مع الأمير محمد بدأت تضخ في القطاع الصحي ميزانيات ضخمة وتستجلب التقنيات التكنولوجية، فمثلا في العام 2019 أي قبل جائحة كورونا خصصت 15،6 % من ميزانيتها السنوية للقطاع الطبي، وهذه ثالث أكبر نسبة من النفقات في الميزانية العامة.

ثمة من يقول إن تخلّي السعودية عن لبنان يُفقدها دورها عند أهل السُنّة، ربما في هذا القول بعضُ الصحة، لكن فيه على الأرجح ما يثير الابتسام عند السعوديين، ذلك ان للملكة صلات عضوية مع مئات ملايين السُنة عبر العالم، من أندونيسيا وماليزيا الى باكستان، فمثلا هي تُعتبر ثاني أكبر شريك تجاري لماليزيا في الشرق الأوسط، وفي العام  2017 وقّعت شركة «أرامكو السعودية» صفقة مع شركة «بتروناس» الماليزية بقيمة 7 مليارات دولار للحصول على حصة 50 في المائة في مشروع ضخم لتكرير النفط الماليزي في جوهور. فما هو عدد سكان لبنان أمام أكثر من 300 مليون فقط في أندونيسيا وماليزيا ؟(ربما المنافسة الوحيدة هناك هي حاليا من الامارات).

وفي مختصر القول، يُمكن التأكيد أن السعودية تعتبر وفق ما يرشح عن  بعض مسؤوليها أن كل المساعدات الهائلة التي قدّمتها الى لبنان ذهبت هباء ( باستثناء ربما ما تقدمه حاليا للقوات اللبنانية في سياق رفعها الصوت ضد حزب الله وإيران)، وتعتبر أيضا أن الوضع اللبناني ما عاد يهمّها لأن أي  خطوة منها لمساعدة الدولة اللبنانية تعني إضافة ورقة رابحة لخصومها في المحور الذي تقوده إيران.

ماذا عن دمشق؟

نقل كثيرون عن الأمير محمد بن سلمان -وبين من نقلوا الوزير السابق عبد الرحيم مراد- حين التقاه قبل سنوات، إنه ليس هو من اتخذ قرار الحرب في سورية، خلافا لما كان عليه الشأن في اليمن، وأنه ليس معاديا للرئيس بشّار الأسد، وأنه مستعد لطي الصفحة واستئناف العلاقات بمجرد إعلان الأسد تخفيف الحضور الإيراني ووجود قوات حزب الله على الأراضي السورية، ويُحكى عن أنه قال كلاما مماثلا للمسؤولين الروس الذين تمنوا عليه أكثر من مرة إعادة العلاقات، ومن الطبيعي أن دولة كالبحرين ما كانت لتعيد تلك العلاقات مع دمشق بلا ضوء أخضر سعودي. ومن الطبيعي أن تكون سورية في الذهن السعودي دولة يُمكن الاعتماد عليها لاحقا في مواجهة الاخوان المسلمين وتركيا.

الآن وبعد المفاوضات بين إيران والسعودية في العراق، والتي ستُستكمل قريبا، يعود الحديث عن رغبة الرياض بإنهاء حرب اليمن وأن تلعب طهران دورا في الضغط على أنصار الله الحوثيين، وهو ما رفضته القيادة الإيرانية حتى الآن، وثمة من أسرّ بأن الإيرانيين نصحوا السعوديين بالتوجه صوب حزب الله للمساهمة في ذلك نظرا لتأثير أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله على الحوثيين، لكن مصادر موثوقة قالت إن الحزب وعلى العكس تماما يؤيد مساعي الحوثيين لتغيير قواعد الاشتباك العسكري ذلك أن السيطرة على مأرب سُتنهي الحرب لصالحهم لو نجحوا فيها، وأنهم غيّروا الكثير من قواعد الحرب بعد قصفهم لمناطق سعودية.

لو استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإن الخيار السعودي سيكون حتماً باتجاه دمشق التي لعبت تاريخيا أدوار كبيرة في الوساطة بين إيران ودول الخليج، وفق ما نفهم من كتاب الوثائق المهمة  الذي نشره نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم خدّام بعنوان ” التحالف السوري الإيراني والمنطقة”.

لو عادت المياه الى مجاريها بين الرياض ودمشق، فإن القيادة السعودية لن تُعارض دورا أكبر لسوريا في لبنان لاحقا، في حال شعرت بأن ذلك يستطيع تعديل موازين القوى مع حزب الله وإيران، لكن هذا الأمر يبدو، على الأقل حتى الآن، صعبا ذلك أن التحالف بين سوريا وإيران والحزب صار مفصلياً وربما لسنوات طويلة بعد، وإن تعاطي الرئيس بشار الأسد مع الحزب يختلف تماما عن تعامل الرئيس الراحل حافظ الأسد.

في انتظار مآلات كل ذلك، لا شك أن الاعتقاد اللبناني بأن أبواب السعودية سُتفتح بمجرد حديث رئيس الحكومة عن تصحيح الخلل وعن العودة الى ” الحضن العربي” هو مجرّد وهم (خصوصا ان الرياض تنظر الى الرئيس نجيب ميقاتي على أنه هو أيضا نتاج اتفاق مع حزب الله وفق ما يرشح من بعض الكتّاب السعوديين).

 إن أولويات السعودية حاليا هي في مكان آخر تماما، ولو لم تكن كذلك لما أقدم الأمير محمد على القول علانية في مقابلة متلفزة انه لن يقبل الضغط من أي كان على بلاده، وكان يعني خصوصا الولايات المتحدة الأميركية. فهل الذي رفع الصوت ضد واشنطن وذكّرها بأنه لو أعطيت عقود النفط السعودية الى بريطانيا لما كانت أميركا على حالها الراهن، سيقبل ضغوطا فرنسية من رئيس فرنسي تتضاءل شعبيته يوما بعد آخر في بلاده؟

خلاصة القول إنه: ما لم يقتنع اللبنانيون بأن السعودية مع الأمير محمد الذي تنافر مع الرئيس سعد الحريري لأسباب سياسية وشخصية ومالية والذي له أولوياته داخل بلاده، لم تعد السعودية السابقة-خزنة المال المجّاني، فهو سيستمر في التحليل الخاطئ وسيواصل ارتكاب الحماقات في الطَرْقِ بذُلٍ على أبواب  الرياض. لعلّ أحمد الحريري أمين عام تيّار المستقبل على حق حين يقول :” المشكلة السعودية ليست مع سعد الحريري وإنما مع لبنان”. ولو قرّر الأمير محمد العودة الى لبنان، فليس أسهل من أختراع شخصية وازنة قبل الانتخابات، في بلد ترك أبوابه مفتوحة لمن شاء الدخول.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button