
سامي كليب:
أن يستهلَّ البطريرك الماروني بشارة الراعي جولته أمس بزيارة رئيس مجلس النوّاب نبيه بري في عين التينة ولا يلتقي حزب الله، فهو يسلكُ طريقا سلكها قبله مئات الشخصيات الدولية والعربية واللبنانية الى مقرّ الرجل الذي أتقن كل شروط ودهاليز اللعبة السياسية اللبنانية، وهي لعبة لا أحد غير الله يعرف أين تبدأ وكيف تنتهي دائما بالحروب أو بتبويس اللحى.
تعاقبت أجيال على المجلس النيابي. توالت أحداث وحروب على المحيط العربي. تفاهم العالم وتناقض. انتهت الحرب الباردة ثم عادت. أما في المجلس النيابي، فلا يزال أبو مصطفى سيد اللعبة بلا منازع، يتخاصم الجميع في الداخل، ثم يعودون اليه للوساطة. يقارع حليفُه حزب الله السعودية وأميركا، فيفتح نبيه بري أبواب منزله للموفدين الاميركيين والسعوديين باحثا معهم عن حلول وعن تهدئة بؤر التوتر التي قد يكون هو نفسه في بعض المرّات قد غذّاها كي يلجأ الجميع اليه لاحقا. يشتبك الحزب مع وليد جنبلاط” فترى سيد المختارة مساء يتسامر مع صديقه وحليفه الأبدي ليلا في عين التينة. ويرفض الحزب عودة سعد الحريري ( سابقا) الى رئاسة الحكومة، فيُربّت بري على كتف صديقه السُنّي ويعده بتسوية الأمور رغم خذلناه منه اكثر من مرة وفق ما يروي.
في كتاب ” الثقب الأسود” يروي الرئيس نبيه بري للزميل نبيل هيثم الكثير من الأسرار التي تختلف تماما عما كان يُقال في العلن منذ العام 2005 حتى أحداث 7 أيار 2008، فرئيس المجلس لم يقطع ولا في أي لحظة علاقاته القوية بالخليج والدول العربية حتى في أوج صدام حليفه حزب الله معها. واليه لجأ الجميع من فؤاد السنيورة الى جنبلاط لرأب الصدع في ذروة التصدّع عام 2008.
كثيرة في الواقع هي الأماكن التي احتلها دور السعودية في الكتاب كدور توفيقي وفق ما يروي بري، فهو يقول مثلا :”قال لي السفير السعودي عبد العزيز خوجة ( بعد سلسلة تحركات في بيروت ومناطق عديدة لقوى 14 آذار آنذاك ) ان المملكة العربية السعودية متوجّسة جدا مما يجري وهي حريصة على تهدئة الأمور وبصراحة اننا نعول على دور تلعبه أنت ، يا دولة الرئيس، لمعاودة الحوار بين الأطراف “، وكان خوجة يؤكد له أن السعودية ليست مع طرف ضد آخر بين 14 و8 آذار وانما تسعى للتوفيق بين الجميع. هكذا ينقل بري.
يتقن ابن الجنوب الذي حمل رشاشه وركض صوب خلدة حين قيل له في العام 1982 إن العدو صار هناك وحين كان يخطّط في منزله في بربور تحت القذائف لهزيمة الرئيس أمين الجميّل واتفاق 17 أيار الإسرائيلي اللبناني، فن إدارة المجلس واللعبة السياسية كمن يُدير شركته الخاصة. فغداة اغتيال بيار الجميل، كان الشيخ أمين عند بري يبحث المستقبل الثاني لسامي الجميل.
يتسامح سيد المجلس النيابي حين يشاء، يمازح حين يريد، ويقمع حين يشعر بأن الأمور قد تخرج عن سيطرته. وفي كل الأحوال يبقى هو الحكم بلا منازع. لا بأس أن يبدي إعجاباً بخطيب جديد تحت قبّة مجلس الشعب. فهو يحبّ مغازلة اللغة العربية. وهي طيّعة بين بيده في التعليق والخطابة والشِعر أيضا. باكورة كتاباته كانت مجموعة قصصية من 22 قصة. احترقت مع كتاب آخر كان معدّاً للنشر حين كانت الحرب الأهلية أو الاجتياحات الإسرائيلية تحرق كل شيء. ولا بأس ان يتلقى مغازلة السيدة ستريدا جعجع لدوره المحوري فيما القوات في عز الاشتباك سابقا مع حزب الله.
الآن وقد التهب لُبنان مُجدّدا بأحداث كُبرى وخطيرة، من انتفاضة 17 تشرين 2019 التي رفع جزء منها لهجة الشجب والشتيمة ضد نبيه بري وعقيلته السيدة رندة، الى تفجير مرفأ بيروت الذي يُدرك ضمنيا أن قصة التلحيم فيه مزحة سمجة، الى الانهيارات المالية والاقتصادية التي لحقته ” طراطيشها وقذائفها” لأن وزير المالية من عنده ولأنه هو نفسه جزء من السُلطة المُدانة، وصولا الى جريمة الطيّونة التي قتلت شبابا من حركته (أمل)، عرف نبيه برّي كيف يستعيد الإمساك بالخيوط. راح يتصرف كأن لا انتفاضة حصلت، صار يساهم في معركة عزل القاضي بيطار، ويستمر في تهميش التيار الوطني برئاسة جبران باسيل، ويواصل تطويق رئاسة الجمهورية التي لم يهضم يوما وصول ميشال عون اليها، ويبحث عن وأد فتنة الطيّونة مستعيداً عبرها دوره المحوري تمهيدا للمرحلة المُقبلة، فلم يتردد في تشجيع نوابه على مصافحة نواب القوات غداة الجريمة تحت قبلة المجلس، وفتح أبوابه للبطريرك الراعي الذي جاء باحثا عن حصانة لسمير جعجع كونه ” قائدا مسيحيا”.
يدرك نبيه بري حساسية المرحلة المنخورة نخراً بالفتن المذهبية. يتدخّل حين ينحرف الخطاب صوب شبح الفتنة. يدوّر الزوايا حتى لو تناقضت ضمنيا مع مشاريع حليفه حزب الله، فهذا بالأصل تحالف فرضته مصالح الطرفين وليس حبّا عميقا بينهما، ذلك أن طموحات وايديولوجيات الطرفين تختلف تماما، لا بل وقد تتناقض خصوصا في المراحل الانتخابية وفي كيفية التعامل مع النظام السياسي، وخصوصا أكثر في حاضر ومستقبل الزعامة الشيعية. ينزعج الحزب عميقا في بعض المرّات، لكنه يُدرك أن أي خصام مع حركة أمل ورئيسها يعني فخّا كبيرا وخطيرا وانتحارا، لذلك فهو ترك لبري السياسة الداخلية وذهب يقاتل في الإقليم.
كان من المُفترض وفق حسابات حزب الله، أن يوظّف الحزب نتائج معاركه العسكرية ضد إسرائيل وفي الإقليم من سورية الى اليمن فالعراق وفلسطين، لتعزيز محورية دوره على الساحة اللبنانية، لكنه سُرعان ما غرق أو أُغرق في حوادث ومشاكل داخلية. اللافت أنه في كل هذه الحوادث (من خلدة الى شويا الى الطيونة)، يُصبح الحزب طرفا، بينما يتحوّل نبيه بري الى وسيط يُحسن تدوير الزوايا.
وحين سعت رئاسة الجمهورية لأخذ ملف ترسيم الحدود صوبها، عرف نبيه برّي كيف يجذب المفاوض الأميركي وملفه الى عين التينة، ففرض نفسه لاعبا محوريا في هذا الملف خصوصا ان الجنوب هو المعني أكثر من غيره بملف الترسيم البحري وربما البري أيضا. وهذا يعيد رئيس المجلس الى مكان الصدارة بالنسبة للمفاوض الأميركي. فعلاقة بري بواشنطن كانت دائما جيدة رغم كل الضغوط، بينما فرنسا اقتربت أكثر من حزب الله.
يبرع نبيه بري في تدوير الزوايا، فهو لو ابتعد عن الملف السوري طيلة فترة الحرب التي انخرط حزب الله كليّا فيها، الا أنه ترك قناة ” NBN” تدعم القيادة السورية في تغطيتها للحرب، وأرسل بعض وزرائه وقيادات الحركة أكثر من مرة الى دمشق، وساعد ضمنيا عبر وزير الصحة السابق علي حسن الخليل في المجالات الطبية كما رفع الصوت مدافعا عن سوريا عبر وزير الخارجية د. عدنان منصور أو مباشرة حين التقى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وما ان بدأت الحرب السورية تخرج من مراحلها الخطيرة وتوحي بتثبيت أقدام الرئيس بشار الأسد بقبول عربي وقبول ضمني دولي ودعم روسي صيني إيراني، حتى جاهر برّي بالموقف المؤيد للقيادة السورية التي يقال إنها كانت عاتبة شخصيا عليه.
ليس جديدا على سيد مجلس النوّاب التقارب والتنافر مع هذا الطرف أو ذاك، فهو ومنذ تخلّيه عن البزة العسكرية أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أدرك أن السياسة لا تكون بالمجابهة لأجل المجابهة، وتربّع مع كل التناقضات من حوله على أحد أبرز عروش السلطة. وهو اذ أطلق في شبابه حملة شرسة ضد الاقطاع ومن سمّاهم ب ” شيوخ الدبس”، الا أنه عاد يدور الزوايا مع غلاة الاقطاع في لبنان (غير الشيعة طبعا)، ويتحالف مع الشيوخ أكانوا دبسا أو عسلا أو علقما.
لم يتردّد في التناقض تاريخيا حتى مع السيد موسى الصدر، أي مع ذاك القائد الجميل الطلّة النقي الروح والتفكير قبل أن يصبح رفيق دربه. اعتقد بري قبيل وصول السيد الى لبنان أنه جاء يناهض الزعيم جمال عبد الناصر والحركة الوطنية والعروبة. سرعان ما اكتشف العكس، فصار الأقرب والأحرص وحمل بعد تغييب الإمام في ليبيا مشعل استمرار النهج.
يستمع سيد المجلس الى ديناصورات الخطابة أو الى تلامذتها الجدد. قد يبتسم.أو قد يجتاحه الملل. أو يصوّب ويصحّح، لكنه في قرارة نفسه، يضحك على الجميع، ليقينه بأن ما يقال تحت قبة البرلمان، ليس أكثر من كلام في الهواء لا يغيّر في واقع الأحوال شيئا. وليقينه أيضا انه حين يأتي زمن الصفقات الإقليمية والدولية يتبدل ويتغير كل شيء، وقد يكون ما في التبديل ما يخدم مصلحته على حساب حلفائه وخصومه.
في منزله قاعة باسم المناضل العربي الكبير أدهم خنجر. في ذاكرته صور مضيئة لدحر العدو من خلدة الى الجنوب. في قلبه شعر لبلال فحص ورفاقه.
لكن بري اعتاد على القساوة. يقال إن والده لم يقبِّله طيلة حياته أكثر من أربع مرات. سيراليون علّمت الوالد شظف العيش قبل أن يصبح ثرياً. ولبنان علّم بري شظف الطريق ودهاليز السياسة وكواليس الصفقات.
يريد الرجل أن ينهي حياته السياسة بإنجاز كبير بعد ان عاش منذ تشرين 2019 مرارة ما يقوله الناس ضده وضد كل الطبقة السياسية حين وصل البلد الى قعر الإفلاس والفقر وقمة الفساد. ويريد أن يضمن استمرارية حركة أمل، ويعرف أن المنافسة الضمنية مع حزب الله كبيرة، لذلك يبرع حاليا في تدوير الزوايا داخليا وخارجيا ويُمسك جيدا بتلابيب ترسيم الحدود، ويربح من الجميع، أكانوا حلفاء أو خصوما، بانتظار ترتيب التسويات كي تأتي الانتخابات كما يريد، لا كما يطالب المجتمع المدني.
قال نبيه برّي في كتاب الثقب الأسود: ” بلغنا جميعا لحظة الاختيار بين أن يبقى لبنان ويستمر وطنا كريما عزيزا جامعا لشمل كل اللبنانيين، وبين أن يذوب ويندثر ويذهب معه الماضي والحاضر والمستقبل”.
نجح حتى اليوم في جمع شمل كثيرين، وفي التوسط بين كل التناقضات الداخلية والخارجية وفي تجنيب البلد ويلات حروب متنقّلة، لكن هل نجح فعلا مع الجماعة السياسية في بناء وطن كما يجب أن تكون الأوطان؟ الجواب برسم التاريخ لو كتبه غير المنتصرين. لكن ماذا عن مستقبل العلاقة مع حزب الله؟ هذا هو السؤال الكبير، الذي ستحدّده معطيات وتطورات كثيرة في الإقليم والعالم، وتضبطه مصالح الطرفين لان في خصامها حاليا انتحارا. وأما مع ميشال عون وجبران باسيل، فالجرة التي كُسرت ما عادت قابلة للترميم ولعلها ستشهد كسورا أكثر قبل الانتخابات.