مدن الصين:نهضة هائلة لخدمة الناس والتصنيع لا التصنّع

مدن الصين: نهضة هائلة لخدمة الناس والتصنيع لا التصنّع
لجين سليمان
قد يملك من يتوجّه من مدينة “تشونشينغ” الواقعة في جنوب غربي الصين إلى مدينة “شنغهاي” الواقعة في شرقها فرصة مناسبة لتتبع الفلسفة الصينية الكامنة وراء تصميم المدن. هي فرصة لاقتفاء أثر التمدّن، بين مدينة “شنغهاي” التي أُشبعت تطورا فما عاد ينقصها إلا لمسات إضافية نوعية، تتناسب مع فكرة “التنمية عالية الجودة” التي أطلقتها الصين مؤخرا، ومدينة “تشونشينغ” التي هي قيد النهوض بحركة إعمار مكثّفة، فبين الحين والآخر وبوتيرة متسارعة تظهر بين جبال تشونشينغ علامات توسّع توحي بنقلة كبيرة لم تزل تحتاجها تلك المدينة بكل نواحيها ، هي نقلة تتطلب تكثيف العمل والبناء كما ونوعا بآن واحد.
من “تشونشينغ” إلى “شنغهاي”
“تشونشينغ” و “شنغهاي” هما مدينتان من المدن الصينية الأربعة الواقعة تحت إدارة الحكومة المركزية مباشرة، ومن الناحية الجغرافية فإنّ السمة الأساسية المميزة لمدينة “شنغهاي” هي موقعها على البحر، بينما تقع مقاطعة “تشونشينغ” في قلب تضاريس جبلية صعبة ومعقدة، وهي من أكبر مدن الصين، تسمى “عاصمة الجسور الصينية” لكثرة عدد الجسور فيها، إذ يعدّ ذا حظّ سعيد من لا يضيع في أحياء هذه المدينة، فحتى سكانها المحليون قد يضيعون في تقاطعاتها الطرقية المعقدة، وشبكة المرور فيها ما تزال في تطور دائم عن طريق تشييد المزيد من الطرقات، ومن يزور المدينة للمرة الأولى ويرى عدد الطرقات الجديدة المنبثقة من عقد مرورية واقعة في عدة مستويات قد يظن أن كلّ طريق مخصص لسيارة واحدة فقط.
تشهد مدينة “تشونشينغ” عمليات تحديث وتطوير مستمرة من حيث نظام النقل القائم فيها، فما تزال المدينة تشهد افتتاح محطات المترو وخطوط مترو جديدة، حيث يتم تشييد هذه المحطات في عمق الجبال، مما يجعل المرء يضطر إلى نزول أدراج كثيرة للوصول إلى خط المترو المطلوب، وهو ما يلفت النظر إلى حد ما إذ أنه وبالمقارنة مع شنغهاي فإنّ محطات المترو أبسط نسبيا، كون الأرض مستوية. وأما ما سيرد لاحقا لا يمثّل مقارنة مباشرة بين المدينتين، بقدر ما هو إظهار لفكرة الفارق بين التطور “الكمي” و “النوعي” وفقا لما تحتاجه كل مدينة.
تنمية تناسب كل مدينة
في الوقت الذي يتم العمل فيه على شقّ طرق جديدة، وفتح محطات مترو في مدينة “تشونشينغ”، إذ تتجاور عدة أنفاق قد يصل عددها إلى سبعة في بعض المواقع، تقع بجوار بعضها في مستويات مختلفة، تمهيدا لتسهيل حركة النقل، تم إطلاق مشروع نوعي عالي الجودة في مدينة “شنغهاي” يُلقّب بـ “جوهر واحد بحزامين” ، لتعزيز التنمية المتكاملة عالية الجودة لدلتا نهر اليانغتسي. تسمى هذه الخطة “نواة واحدة وحزامان” أو “قلب واحد وحزامان” وهي تخطيطيا تشبه قوسا جاهزة للانطلاق، فالجوهر الواحد فهو منطقة “هونغ تسياو” وهي بمثابة منطقة للأعمال المركزية الدولية ، ومنصة جديدة لمركز التجارة الدولية ، ومركز النقل الشامل فهذه المنطقة تمثّل جوهر عملية التنمية. وأما الحزامان فهما حزام يمتدّ باتجاه الشمال وحزام التمدد الجنوبي وكل حزام يضم عددا من المناطق، وكلا الحزامين يتخذان من منطقة “هونغ تسياو” نقطة انطلاق، وبذلك فإنّ تلك النواة تقود الحزامين وتدفع بهما نحو التنمية الشاملة.
ولعلّ أكثر ما يلفت النظر هو الأفكار التي تبدأ بكلام وتنتهي بواقع محسوس، فعندما سأل أحد المراسلين الصحفيين مكتب التخطيط والموارد البلدية حول كيفية تخطيط وتشكيل نظام نقل شامل في مقاطعة “شنغهاي”؟ جاءت الإجابة كالتالي: ” إن نظام النقل الشامل لأي مدينة كبيرة أو مدينة ضخمة هو مشروع منهجي معقد ، خاصة عندما تكون مدينة ضخمة مثل شنغهاي قد وصلت إلى مرحلة جديدة من التطور، بما يُمكّنها من الوصول إلى أن تكون مدينة اشتراكية دولية حديثة ذات تأثير عالمي ، وأضاف أنّ: الخطة الخمسية الرابعة عشرة توضّح أنّ شنغهاي ستشكّل نمطًا جديدًا للتنمية وهو ما يُسمّى بـ “النواة والحزامان” والذي إن أردنا الإشارة بشكل أكثر رومانسية، يمكن توصيفه بمركز (نواة) يشعّ تنمية ينطلق منه جناحان يطيران معا، ويحلّقان في مهمة لتطوير مدن جديدة، إذ لا يمكن فصل الرومانسية وحب الوطن في الصين عن فكرة التنمية، فالصين بلاد تشعّ حبّا للتنمية.
وعلى خلاف ما يحدث في الكثير من الدول العربية التي بدأت بالعمل فعليا على تطوير البنى التحتية بشكل صارخ، فإنّ الهدف الأساسي من تطوير البنى الحتية في معظم المدن الصينية ليس صناعة الجمال الفاخر، بل صناعة جمال المعنى، ذلك المعنى الكامن في تسريع تشييد “البنية التحتية الجديدة” لتطوير التصنيع المتقدم. إذ أنه وفقًا لاحتياجات عملية الإنتاج الصناعي وتشغيل سلاسل توريد جديدة ، يجب تخطيط ونشر بنية تحتية جديدة.
فالصناعة هي أساس في تكوين الثروة المادية. وكان قد شرح مؤتمر الحزب الثاني عشر بشكل كامل الأهمية والمسار الاستراتيجي لتنمية شنغهاي من أجل الوصول إلى التصنيع المتقدم ، واقترح “بناء نظام صناعي جديد ، واتخاذ التصنيع بثبات كأساس للاقتصاد الحقيقي، وكذلك تعزيز “الطاقة الحركية الجديدة” للتكامل العميق للصناعات التحويلية والخدمات، إذ لا ينفصل تطوير التصنيع المتقدم عن دعم صناعات الخدمات الحديثة مثل التمويل والتجارة والتخزين والخدمات اللوجستية وبناء الشحن.
وعلى سبيل الفرق بين التنمية النوعية في مدينة شنغهاي والتنمية الكمية في مدينة تشونشينغ، فإنّ من يدخل موقع بلدية “تشونشينغ” على الإنترنت يدرك تماما أن ما تم وضعه في الخطة الواقعة بين عامي 2021-2025 هو بمثابة تنمية للحاجات الأساسية للمدينة والتي تلبي الحاجات الأساسية للسكان، فعلى الرغم من أنّ نموذج التنمية المطروح لمدينة “تشونشينغ” يتضمّن تنمية متطورة نسبية تتناسب مع الاحتياجات البيئية، ومع التطور التقني إلا أنها لم تزل في الإطار الأساسي الذي تحتاجه أي مدينة تريد النهوض، بينما فإنّ نوعية المشاريع المطروحة لتطوير “شنغهاي” من الآن وصولا إلى عام 2035 توحي بأنها تنمية نوعية ستؤدي غرضا في رفع تصنيف مدينة شنغهاي على المستوى الدولي.
خاتمة
لعلّ أكثر ما يلفت النظر في تجارب التنمية في عموم المدن الصينية هي أنها تنمية خُلقت لتلبّي حاجات السكان، ولذلك لم يتم الحديث عن مدن ذكية أو تنمية خضراء أو تنمية بيئية قبل تنمية البنى التحتية التي تسهم في تسريع وتيرة التصنيع بما يؤدي إلى زيارة نسبة الناتج المحلي الإجمالي وبما يعود بالخير على السكان، فالحياة اللائقة للمواطن هي في المقام الأول ومن ثم تليها تلبية متطلبات العصر ، والتي هي بمثابة رفاهية أمام حاجة المواطن.