مقال اليوم

إهداء الإنتصار

د. عقيل سعيد محفوض

الشعوب لا تقرأ تاريخها وراهنها بالطريقة نفسها، كما أنها لا تستجيب بالكيفية نفسها، لما يمثل تهديداً أو فرصة، وما تقرأه الأمم في نفسها (وفي غيرها) في لحظات القوة مختلف عنه في لحظات الضعف. كذلك الأمر بالنسبة للسياسيين، وخاصة في مجتمعات ودول الحرب.

هل يمكن للمنتصر أن يهدي انتصاره لخصمه أو من كان خصمه في الحرب، الجواب هو نعم، وسوف نأتي عل ذكر مثالين، قد لا يكونان كافيين، إلا أنه فيهما دلالة كافية عل ما نذهب إليه، وقد يساعدان في الإضاءة عل بعض السياسات والاستجابات في مجتمعات ودول الحرب في المنطقة، وبالأخص منها سورية.

المثال الأول من التاريخ القريب، وهو ما حدث بين الولايات المتحدة واليابان في أعقاب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، والثاني هو ما حدث في تاريخ هذا المشرق الجميل في أعقاب الغزوات الكبرى، وهزيمة العرب أمام المغول.

عندما تقرأ كيف ينظر الأمريكيون إلى صعود اليابان في النظام الدولي، واحتلالها موقعاً متقدماً في ميزان القوة والتقدم والمعنى في العالم، بشيء من المنافسة مع أمريكا نفسها، يظهر الأمر كما لو أنهم “أهدوا” اليابانيين “انتصارهم” عليهم في الحرب، وكما لو أن القنبلتين الذريتين –بالرغم من كل ما أحدثتاه- كانتا منحة وعطاء أيضاً! وقد لا يوافق اليابانيون على ذلك بالتمام، إلا أن في مداركهم ما يحيل إليه، بكيفية أو أخرى. ولو لم يفعل الأمريكان ذلك، لاختلفت السيرة بينهم وبين اليابان، ولأخفقوا في إقامة تحالف لازم بين الطرفين، منذ فترة الحرب الباردة إل اليوم.

ويمكن العودة إلى مراحل تاريخية أبعد، وقد حدث قبل عدة قرون، أن خسر المشرق الإسلامي أو العربي معركة القوة أمام الغزاة القادمين من وسط آسيا، من الترك والتتر والمغول وغيرهم، وثمة في السرديات التاريخية العربية كلام كثير عن الدمار الذي وقع في المنطقة جراء الغزو، لكن ما أعقب ذلك، هو أن الغزاة “أهدوا” المنطقة نصرهم عليها، بأن ذابوا فيها، ثم إنها “احتوتهم” فيما بعد في معركة المعنى، وأدخلتهم في دينها وبيئتها وثقافتها.

ويبدو أنه تم إغلاق هذا الملف إلى الأبد تقريباً، بل ان المشرق رد للغزاة (السابقين) الاعتبار، ومكنهم من حكمه مجدداً، بوصفهم أهل قوة وعزم، ولهم دور في “منع الفتنة” و”الدفاع عن دار الإسلام”. وهكذا، فقد حكم السلاجقة والمغول والمماليك والعثمانيين وذراريهم المنطقة لعدة قرون.

هل يعني ذلك أن الطرفين (المشرق-الغزاة) متعادلان في الفوز والخسارة، أم أن المشرق هو المنتصر الفعلي في المواجهة (المعنى مقابل القوة)، ثم أهدى انتصاره في معركة المعنى للمهزوم، ربما كان الأمر كذلك، باعتبار أن “الميزان الحقيقي” بنظر مجتمعات الشرق –على ما يقال- هو “ميزان الآخرة”، ولو أن ذلك لا يمكن القطع فيه إلا في “نهاية التاريخ”!

——————————————————————

الكاتب: دكتور عقيل سعيد محفوض

كاتب وباحث متخصص بشؤون الشرق الأوسط

له مؤلفات عديدة أبرزها عن تركيا.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button