مقال اليوم

سورية بين الخلاص العربي والتجاذبات العالميّة

سورية بين الخلاص العربي والتجاذبات العالميّة

 د. شاهر الشاهر

لطالما لعبت سورية دوراً محورياً أكبر من إمكاناتها بكثير، فهي دولة صغيرة من دول العالم الثالث، ذات إمكانات اقتصادية متواضعة، أو ليست كبيرة بكل تأكيد. تعاني ما تعانيه من فقر وتخلف وسوء توزيع للثروة، وانتشار للفساد والمحسوبية كغيرها من الدول. لكنها وبنفس الوقت لديها تاريخ حضاري عميق، وشعب يمتلك كل إمكانات العطاء والقدرة على البناء.

يعتقد السوريون ضمنياً، وهي قناعات كانت راسخة في أذهانهم وإلى حد كبير، أنهم قادرون على فعل كلّ شيء، وأن العالم يغفو ويصحو وهو يفكر بسورية وكيفية الحد من دورها وفعلها ومكانتها. ولا يمكن لسوري أن يتخيّل أنه يوجد الكثير من القادة والشعوب الذين لا يعرفون حتى موقع سورية على الخارطة الدولية للعالم.

هذا الخلل في معرفة الذات وتقديرها بشكل واقعي ومنطقي، أوقع الجميع بـ “تضخم الأنا” المفرط، وهو ما انعكس على السلوك السياسي السوري، فكل طرفٍ يعتقد أنه وحده يملك الحقيقة،لا أحد سواه.

هذه الثقة المفرطة بالنفس، والتي لم تكن صحيحة في كثير من الأماكن والأوقات، لأنها ليست بالضرورة نابعة من إمكانات حقيقية وقدرات واقعية، جعلت توقع الخطأ غير وارد، والاعتراف به أو الرجوع عنه بمثابة هزيمة لا يطيق أحد تصورها.

ومن هنا فقد كان الوعي السياسي السوري، والذي هو في كثير من الأحيان أقرب إلى حالة الاهتمام بالشأن العام والانشغال به وتدبيره، أكثر من كونه وعياً مبنياً على أسس علمية وقواعد سياسية راسخة. لذا فقد كان هذا “الوعي” عبئاً على السوريين في كثير من الأحيان، ومصدر قلق وإزعاج لهم، ولمن حكم سورية طوال تاريخها الطويل.

فترك السياسة لأهلها والانصراف إلى تدبير شؤون حياتهم اليومية وأعمالهم الخاصة، أمرٌ غير وارد لدى السوريين.

لعل هذا الاهتمام بالسياسة أمر قسري فرضه واقع يعكس تدخُّل السياسة في كل شيء، تلك السياسة التي إذا تدخلت في شيء أفسدته. فتسييس التعليم مثلا أدى الى تقهقر دور المعلم واضعاف مكانته الاجتماعية، وهما دوران يُعدّان معياراً لتقدم الدول وتطورها. كذلك تمّ “تسييس الثقافة”، في حين أن المنطق يحتم أن يكون الهدف هو “مثاقفة السياسة”، لتصبح مهنة تفرض على حاملها امتلاك الحد الأدنى من الثقافة.

فالمثقف يمكن أن يكون سياسياً، أما السياسي فمن الضروري أن يكون مثقفاً بكل تأكيد، وإلا فسيتحوّل إلا موظف مكلف بتسيير شؤون الحياة اليومية التي يغطي بعضها لَبوسٌ سياسي، قد يكون غيرَ حقيقي في كثير من الأحيان.

ومن هنا فقد غاب “رجال الدولة”، مفسحين في المجال لموظّفن بمواقع قيادية هامة، فكانت المناصب أكبر من الأشخاص، والصغير عليه أن يبحث عمن هو أصغر وأقل منه شأناً، فظهرت وشاعت ظاهرة الاستزلام و”القزامة السياسية”.

 هذا الواقع السياسي لسوريا، حتم عليها اتخاذ قرارات خارجية، كانت صائبة أحياناً، لكن عدم قدرتها على حشد القوى الداخلية والدولية الفاعلة، والحصول على دعمها للموقف السوري، جعل تلك السياسة تبدو وكأنها خاطئة في كثير من الأحيان.  

 عند بدء الأحداث في سورية، والتي يختلف الكثير على تسميتها، بدا أنّ احتمال تغيير الرأي أمرٌ شبه مستحيل بين الأطراف، وهذه سمةُ من سمات الواقع السوري بشكل عام. وهو ما انعكس على الحوارات التي جرت، سواء في الداخل السوري، بين “المؤيدين” أنفسهم، أو في الخارج بين “المعارضين” بمختلف توجهاتهم وولاءاتهم والجهات التي تنفق عليهم، أو بين المؤيدين والمعارضين (وفد الحكومة ووفد المعارضة)..إلخ.

 أما على الصعيد الإقليمي والدولي، فقد شهدت الأزمة السورية تطورات وتعقيدات كبيرة نتيجة لتزايد عدد اللاعبين فيها، وتشابك المصالح وتعقيداتها والتي أدت في النهاية إلى جعل سورية ملعباً لتصفية الحسابات بين الدول المتنافسة والمتصارعة.

الحليف والخصم

ومما زاد من تعقيدات الوضع السوري، تغير خارطة الحلفاء والأصدقاء، بل وحتى الأعداء. والأهم من ذلك كله تغير الدور المطلوب من “الحليف” أو “الصديق” المفترض، فلم يعد الحليف حليفاً في كثير من المواقف والأزمات، وهو ما يفرض علينا التدقيق ملياً في إطلاق الصفات على (الحلفاء- والأصدقاء).

القضية تكمن من وجهة نظري في فهمنا لمعنى التحالفات وفلسفتها، وتغير هذا المفهوم وتطوره. فاليوم، وفي ظل تطور شبكة العلاقات الدولية وتعقيداتها، لم يعد هناك حليفاً بالمطلق، ولا صديق دائم، فالحليف يتفق معك في بعض الملفات، ويختلف معك على الكثير منها، في ظل غياب القيم (بما فيها القيم السياسية)، والتي أصبحت شيئاً من الماضي.

كما أن فكرة التحالفات، تفرض علينا أولاً وقبل كل شيء، ألا نكون عبئاً على أحد، حليفاً كان أم صديقاً، وأن نسأل أنفسنا أولاً وقبل كل شيء: ماذا قدمنا لهذا الحليف؟ وماذا يمكن أن نقدم له اليوم وفي المستقبل؟ ومن هنا يمكننا تصور وتوقع ما يمكن أن نطلبه منه، وما يمكن للحليف أن يقدمه لنا، إذا ما امتلكنا الثمن لذلك.

لقد ركزت السنوات الأولى من الحرب على الجانب العسكري، الذي استهدف اسقاط الدولة السورية بالقوة. وهو مالم يتحقق على أرض الواقع، لكنه خلف دماراً كبيراً، وخسائر اقتصادية رهيبة يصعب على سورية وحدها تحملها.

وبعد استنفاد هذا الخيار، وعدم قدرة الدول الممولة على الاستمرار فيه، وفقاً لتصريحاتهم وما كشفه مسؤولوهم لاحقاً، فقد تم اللجوء إلى خيار آخر، خيار استهدف السوريين في لقمة عيشهم عبر فرض حصار اقتصادي هو الأسوء ربما، تحت مسميات لا يمكننا تصديقها انطلاقاً من خبرتنا ومعرفتنا التاريخية بالدولة التي فرضت تلك العقوبات.

فالدرس العراقي لايزال حاضراً في أذهاننا، وديمقراطية سجن أبو غريب نتمناها لكل من ينادي بالديمقراطية الأمريكية ويبدي الاعجاب بها. أما الفبركات والأكاذيب فلم تكن اعترافات كولن باول آخرها. ومن يصدق الادعاءات الأمريكية فإما أن يكون ساذجاً، أو أن الحقد قد أعمى بصيرته عن قراءة المشهد قراءة حقيقة.

الاصلاح ورجال الأعمال

لكن هذا لا ينفي حاجتنا إلى إصلاح حقيقي وسريع في سورية، إصلاح يبدأ بالاعتراف بحجم المشكلة، بل الكارثة التي تعيشها سورية اليوم. إصلاح أولى علاماته هي البدء بعملية حقيقة لمكافحة الفساد بعيداً عن التنظير والتذرع بالقوانين وضرورة إصلاحها. فالحقيقة واضحة ولا يمكن لأحد أن ينكرها.

ولعل أخطر ما بدأ يطفو على السطح في المجتمع السوري، ويضعف الشعور الوطني لدى أبنائه، ويشعرهم بأن تضحياتهم لم تكتمل ولم تنجح في الوصل بسورية إلى الأفضل، هي ظاهرة رجال الأعمال الجدد، الذين لا يمتّون إلى الرجولة في شيء، ولم نعرف من أعمالهم إلا السلوكيات والصفقات المشبوهة، بل ربما المكشوفة للجميع حتى.

وانتشرت شركات الظل التي يتداول السوريون همساً أسماء أصحابها، وحجم أرباحهم اليومية، وثرائهم الفاحش على حساب دماء الشهداء وتدمير الأوطان، والمفارقة أن الجميع يعرف المشغلين الحقيقيين لكل هؤلاء.!!!.

كل تلك الأمور زادت من حجم الضغوطات الاقتصادية التي يعيشها السوريون في ظل العقوبات الخارجية المفروضة على بلادهم وتحديات قانون قيصر وما خلفه من ويلات كان المواطن السوري أول من اكتوى بنارها.

ثم جاءت الحرب في أوكرانيا، لتزيد من معاناة السوريين وألمهم، خاصة وأن تلك الحرب قد أثرت سلباً على العالم كله، نتيجة لما تسببت به من أزمة غذائية عالمية، ونتيجة لانشغال “الحليف الروسي” بأقسى حرب تخوضها روسيا اليوم ضد الولايات المتحدة والمعسكر الغربي كله.

كذلك تعرض “الصديق الإيراني” لأزمة داخلية تزامناً مع الضغوط الخارجية التي تتعرض لها طهران، وخاصة بعد وقف المفاوضات مع الغرب حول برنامجها النووي، وتراجع الأوضاع الاقتصادية فيها نتيجة لحجم العقوبات الغربية المفروضة عليها، وتجميد أرصدة طهران التي هي بأمس الحاجة إليها لتأمين احتياجات شعبها.

أما تركيا، وهي الدولة التي لعبت دوراً محورياً في إشعال الحرب في سورية ودعمها، فقد ازدادت الحاجة إليها من قبل كل من روسيا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية. نتيجة لما تتمتع به تركيا من أهمية وتأثير كبير على مجريات الحرب الأوكرانية، ولأسباب كثيرة لا مجال هنا لذكرها.

ولأن تركيا نجحت مؤخراً في انتهاج سياسة براغماتية وبشكل كبير، فقد زاد ذلك من معاناة سورية، بسبب التنسيق الروسي التركي، الذي تسعى تركيا لاستغلاله في عودة العلاقات مع سورية كحاجة انتخابية للرئيس أردوغان، الذي يسعى لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لينتزع أهم ورقة انتخابية بيد المعارضة. كما أنه يسعى للحصول على أصوات شريحة كبيرة من الأتراك المؤيدين لسورية، وهو ما لا ترغب دمشق بتحقيقه.

دمشق من جهتها وضعت شروطاً، هي في الحقيقة ليست شروط بقدر ماهي مبادئ وبديهيات لا يمكن لأحد أن يناقشها عليها، مثل: انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وتسليم جميع المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري، وكذلك التعاون التركي في مكافحة الإرهاب بكافة فصائله ومسمياته، خاصة وأن العديد من الفصائل الإرهابية في الشمال السوري تحظى بدعم كبير من تركيا.

اللقاء السوري التركي وعلى الرغم من أهميته لسورية، فهو حاجة لتركيا في الوقت الراهن، ومطلب روسي، تريده موسكو دعماً لحليفها أردوغان الذي لا يزال يجيد الرقص على جميع الحبال كلاعب “سيرك سياسي” بامتياز.

الاقتصاد والتنازلات

المهم بالنسبة لسوريا في الوقت الراهن هو البحث عن حل سريع لواقعها الاقتصادي، عبر إيجاد حلول أكثر واقعية، ومرتبطة على ما يبدو بإيجاد حل سياسي للأزمة السورية. وهو حل قد يحتاج إلى تنازلات مؤلمة من قبل جميع الأطراف، إنقاذاً لما تبقى من سورية بعيداً عن المزاودات و”الاستعراضات الرخيصة”، انطلاقاً من القناعة لدى السوريين بأن الجميع خاسر، وليس هناك طرف سوري انتصر على الأخر، فلا نصر على دمار الوطن ولا انتصار لأخ على شقيقه…

لعل الانفتاح العربي على سورية هو بداية الخلاص لأزمتها، رغم بطء هذا الانفتاح، نتيجة لظروف كل دولة ومعطياتها، وحجم الضغوط التي تتعرض لها، كما أن تغير القادة في بعض الدول العربية التي كانت طرفاً في الحرب على سورية سيسهم في تسريع ذلك الانفتاح.

الأيام القادمة، وربما الأشهر على أبعد تقدير ستحمل إشارات إيجابية للسوريين، لتكون بداية النهاية لمعاناتهم وطي صفحة الشقاء الذي عاشوه. تلك النهاية لن تكون متاحة على ما يبدو إلا بعودة سورية إلى عمقها العربي، وتحمل الدول العربية لمسؤولياتها تجاه إعادة إعمار سورية، خصوصا أن بعض هذه الدول تورّط في الحرب السورية واكتشف لاحقًا حجم الخلل الذي احدثه هذا التورّط في الجسد العربي. 

الكاتب :د.شاهر الشاهر أستاذ الدراسات الدولية/جامعة صن يات سين- الصين

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button