افتتاحيةآخر خبر

برّي وسياسة حافة الهاوية…هل ينجح؟

برّي وسياسة حافة الهاوية…هل ينجح؟

 سامي كليب:

يستحيلُ مع رجلٍ خَبِر ويلاتِ الحروب ودهاليز السياسة الداخليّة والخارجيّة كنبيه برّي أن يرتكب زلّة لسان وهو يقارب الخامسة والثمانين حولا. فحتّى الزلّة عندَه محسوبةٌ بدقّة، يُقرّر وحدَه متى يُلقيها، ووحده يختار متّى يُلملِم مفاعيلَها.

لا شكّ أنّ اجتيازَه كلّ المطبّات والتجارب السابقة والخطيرة، وبقاءَه سيّد اللعبة وإمبراطور المجلس النيابي كلّ هذه السنوات، يدفعان للاعتقاد بأنّ الرجل مُدركٌ تمامًا ما يفعل الآن، وسيكون له الرئيس الذي يُريد.  لكن مَن هو الرئيس الذي يُريد؟ ربما هذا ما ينبغي معرفتُه الآن، وليس الغرق في جدلٍ ” انبوبي”، هو اختارَ وقتَه وهندسَتَه في لعبة “حافة الهاوية”، بالرغم مما يتضمّنه من إساءة معنوية وأخلاقية لنائب.

يقول وزير الخارجية الأميركية السابق وثعلب دبلوماسيّة السبعينيّات هنري كيسنجر في كتابه ” Years of Upheaval ” (سنوات الاضطراب) الصادر عام 1982، يقول عن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد:” لقد قلتُ له في كانون الأول/ديسمبر إنّه يُذكّرني بشخص يُفاوض على حافة الهاوية، ولكي يُعزّز موقفه التفاوضي قام بالقفز إلى المجهول آملاً أنّ شيئًا ما في طريقه إلى الأسفل سيُخفّف من وقع سقوطه. ذلك الشيء في تلك اللحظة هو أنا”.

“حافة الهاوية”، تعبيرٌ يصلُح تمامًا اليوم على ما يهندسه نبيه برّي، فرئيس المجلس النيابي الذي قال في مقدّمة كتاب ” الثقب الأسود” روايًا بعضًا من مذكّراته للزميل القدير نبيل هيثم: “صدّقوني، إنّ أحدًا منّا، أيًّا كان، لا يستطيع إنقاذَ لبنان وحدَه فإمّا أن ننقذه جميعًا وإمّا ان ينهارَ، فننهارُ معه…”، يُدرك تمامًا أنّه أمام آخر أهمّ معاركه السياسيّة الآن، وأنّ ما أصابه من سهام انتفاضة 17 تشرين عام 2019 ، تركَ جروحًا لن تندملَ ما لم يُعِد قلبَ المعطيات جميعًا، ويُذكّر الجميع بأنّه كان وما زال سيّد اللعبة وأنّه لا يرى في المعارضة المُستجدة سوى استنساخًا للمتظاهرين الذين تعرّضوا له ولعائلته وسياسته وتاريخه قبل 4 أعوام.

لا أحد يدري ماذا يطبخ اليوم نبيه برّي غير برّي، هو بلا أيّ شك يُشاور ويسمع، لكن في ذاكرته مساحةٌ واسعةٌ من المُقارنات بين مطبّات اليومَ وألغام الأمس، فهو يذكر مثلاً كيف جاءه وزير خارجية فرنسا السابق برنار كوشنير سائلاً عن الرئيس العتيد في العام 2008، فطرح برّي مجموعة من الأسئلة لنقلها الى قوى 14 آذار حول:” من سيرأس الحكومة المُقبلة؟ وعلى أي أساس ستكون مشاركة فريقَيّ الموالاة والمعارضة؟ وكم سيكون عدد أعضاء الحكومة؟ وماذا عن قانون الانتخاب؟” ثم قال للضيف الفرنسيّ:” لا مشكلة في ترشيح العماد ميشال سليمان، فالفتوى جاهزة لانتخابه، وهي مُعدّة بصيغة تُريح الجميع، ولا تُحرج أحدًا، وكلّ المخارج المُعدّة قانونيّة ودستوريّة، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يطعنَ في عملية الانتخاب في ما بعد”…

دروس التاريخ

لنتذكّر أنّ انتخاب ميشال سليمان جاء في أكثر أوقات لُبنان تعقيدًا في العام 2007، ولنتذكّر أنّه في أواخر كانون الثاني 2008، نجا لُبنان من حادث أمنيّ خطير حين جرى اطلاق نار على متظاهرين بالقرب من كنيسة مار مخايل في الشيّاح بالضاحية الجنوبية، ولنتذكّر أنّه بعد قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تفكيك شبكة الاتصالات الأرضية لحزب الله وقع اجتياحُ بيروتَ ممن وُصفوا ب ” القمصان السود”، ولنتذكّر كذلك أنَّ السنيورة كان قد رفض دعوة برّي للحوار، فما كان من رئيس المجلس الاّ أن ردّ عليه قائلا :” اذا كنتَ تتهمني بشيخ المعارضين، فانت قائمٌ مقامَ رئاسة الجمهوريّة، ومغتصبٌ للسُلطة، ومتسبّبٌ بتعطيل المؤسسات”.

نتذكّر كلّ ذلك لنجد أنّ برّي نفسه الذي أعدّ بعناية فتوى انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان آنذاك للرئاسة، هو نفسُه من يمنع فتوى مماثلة اليوم للعماد جوزيف عون، وبرّي الذي اتهم السنيورة بالقيام مقام رئيس الجمهورية، مُتهمٌ اليوم بأنّه يساند حكومة نجيب ميقاتي المُتّهمة مسيحيًّا بالاستيلاء على صلاحيات الرئاسة، ونجد كذلك أنّ أحداث الشيّاح سابقًا تُشبه ما كاد يُفجَّر في الطيوّنة لاحقًا، وأنّ تفجير المرفأ بعد فترة على انتفاضة 2019، كاد يُعيد أجواءَ ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ضدّ الفريق الذي ينتمي إليه نبيه بريّ وحليفه حزب الله.

هذا في الظاهرة، امّا في بواطن الأمور وكواليس السياسة، فقد كان رئيس المجلس النيابي في عامين 2007-2008، ينسج خيوطًا ويرسم خطوطًا مع الجميع بلا استثناء، فيأتيه السفير السعودي عبد العزيز خوجة ( الذي صادقه عميقًا) قائلاً له :” إنَّ المملكة العربيّة السعودية لا تُحبّذ  انتخاب الرئيس على أساس النصف زائدًا واحدًا، ثم تأتيه الوفود العربيّة وسفيرا فرنسا والولايات المتحدة الأميركيّة، ثم يتلقّى اتصالاً من حليفه الدائم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جُنبلاط مُقترحًا تسوية مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصراللّه، ثم يُساهم مساهمةً فعّالة في عقد مؤتمر الدوحة، فيتّصل به ميشال سليمان من العاصمة القطرية بعد الاتفاق مستفسرًا، وإذ به يسمع الخبر المُفرح من فمِ برّي قائلا :” يلاّ عجّل حضّر بدلة مدنيّة”.

ثمن الترسيم

منذ ترسيم الحدود البحريّة بين لُبنان وإسرائيل، وبعد عودة برّي الى رئاسة المجلس وهندسة نيابة الرئاسة بدقّة، يستعيد الرجل شبابَه ودورَه المحوري في معظم الاتصالات العربيّة والدوليّة، وإنْ عزّت عليه  بعضُ المعلومات عن حقيقة موقف السعوديّة بعد مؤتمر باريس، وصلَه مؤخّرًا عبر الوفد الاشتراكي الذي ذهب الى الرياض برئاسة تيمور جنبلاط و ” كيسنجر” الاشتراكي وائل أبو فاعور…

من الصعب أن يكون نبيه برّي مضطّربًا، لكن من الأصعب ألاّ يقلق من احتمال انزلاق الأمور إلى ما هو أخطر بعد تشكيل جبهة ضدّ خياراته عمقها مسيحيّ ورفضت كلّ دعواته للحوار، ولذلك فهو يعود مرّة ثانية إلى حافة الهاوية، رافعًا شعار ترشيح سليمان فرنجيّة كخيارٍ وحيدٍ وأخير ( هل فعلاً خيار وحيد؟) ، ومقرّرا الهجوم بدلاً من الدفاع، لكنّه يُدرك تمامًا في قرارة نفسه، أنّه في أوج التفاوض، فإمّا يمرّ فرنجية من “خُرم” اتفاق سعودي-إيراني مُحتمل، أو سيعود الجميع الى التفاوض على المُرشّح الثالث، ولا شكّ في أنّ الرئيس برّي الذي يُعاود فتح الخطوط مع دمشق أيضًا من خلال الدعم الكبير والعلني لفرنجيّة بعد وفود التضامن مع ضحايا الزلزال والمواقف المكثّفة مؤخرًا لعودة سوريا الى جامعة الدول العربيّة، سيكون قابلاً التفاوض على أي مُرشّح ولكن …. بشروطه.

 

آخر المعارك

للمرء أن يتخيّل حين يجتمع برّي وصديقه جنبلاط ماذا يقولان عن النوّاب الجدد. هُما حتمًا سيتبادلان الكثير من القفشات الساخرة على طريقتهما التاريخيّة.  تعاقبت أجيالٌ على المجلس النيابي. تعاقبت أحداثٌ وحروبٌ على المحيط العربي. تفاهم العالم وتناقض. انتهت الحرب الباردة ثم عادت في أوكرانيا، تفجّر المرفأ وثار الناس، أمّا الرجلان فباقيان فوق الأزمات والعمر.   

يتقن نبيه بري فن إدارة المجلس. يتسامح حين يشاء، ويقمع عندما يريد. في الحالتين يبقى الحَكَم. يُقرّب من يُريد ويزيح من يشاء. هل قصة اللواء عبّاس إبراهيم تُعتمدُ كمثال؟ رُبما.

دخل السياسة رغم نصائح الوالد بتجنّبها. صار سيّد اللعبة فيها. لا بأس أن يبدي إعجاباً بخطيب جديد. يحبّ نبيه بري اللغة. طيّعة هي بيده. باكورة كتاباته كانت مجموعة قصصية من 22 قصة. احترقت مع كتاب آخر كان معدّاً للنشر حين كانت الحرب الأهلية أو الاجتياحات الإسرائيلية تحرق كل شيء.

عاش الأستاذ (كما يُسمّونه) لحظات انكسار ومجد. لم ينس أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أخذ آخر حمّام في منزله، وارتدى بعضاً من ثيابه قبل الخروج الكبير للفلسطينيين من لبنان بعد الاجتياح. في رواياته التي احترقت، واحدةٌ عن الجزائر. في منزله قاعةٌ باسم المناضل العربي الكبير أدهم خنجر. في ذاكرته صُوَرٌ مضيئة لدحر العدو من خلدة الى الجنوب. في قلبه شعرٌ لبلال فحص ورفاقه. في قرارة نفسه يجب الحفاظ على ” عروبة الشيعة”، وهو ما قاله صراحة لوفد شيعيّ عراقيّ. وفي قلبه اليوم جرحٌ منذ التشكيك به وبعائلته في انتفاضة تشرين، وغالبًا ما يتساءل :” هل يحقّ لاحد فعلا طيّ صفحةِ دحرنا العدو والحفاظ على عروبة لُبنان؟ هل نسوا كل ذلك ويحمّلوني وزر كل الأخطاء التي أوصلت البلاد الى ما وصلت اليه؟”.. نعم ربما البطون الخاوية ما عادت تُفكّر بالتاريخ، حين يقتلُها الحاضر. 

اعتاد برّي على القساوة. يقال إن والده لم يُقبِّله طيلة حياته أكثرَ من أربع مرات. سيراليون علّمت الوالد شظف العيش قبل أن يصبح ثرياً. ولبنان علّم بري شظف الطريق قبل أن تنجلي صورة المنطقة.  

هو لا شك يتحمّل جزءًا  من مسؤولية انهيار البلد، كما يتحمّله معظم ساسة هذا البلد، بل جميعهم، لكن الأكيد أنّ سياسة تدوير الزاويا، ثم الوصول إلى حافة الانهيار اللتين انتهجهما، ساهما كثيرًا في إبقاء خطوط الشيعة مفتوحة مع دول عربيّة، وخطوط لُبنان مفتوحة مع الغرب، وخطوط التواصل قائمة مع الجميع في الداخل.

هل بعد كل هذا التاريخ، يُمكن أن نتخيّل أن نبيه برّي سيخسر معركة الرئاسة ويختم آخر معاركه السياسية بهزيمة؟ لو أنّ المعارضةَ موحّدة ولديها مشروع واضح، ولو أنّ الموارنة متفقون على مُرشّح، ولو ان المجتمع الدولي يصدق مرّة، لكان الأمر ممُكنًا، لكن يبدو أن استراتيجية برّي، ورغم التهديد الذي تواجهُه اليوم، ما زالت قائمة على مبدأ:” قولوا ما تشاؤون وسوف افعل ما أريد”…. فهل هو مطمئنٌ لموقفَيّ أميركا والسعوديّة أيضًا هذه المرّة؟  وهل ثمّة ربطٌ سيحصل بين انهاء حربِ اليمن وانتخاب سليمان فرنجيّة؟ وهل ثمة اسمٌ ثالث متفقٌ عليه ضمنيًّا؟ لا أحد يعلم ما يفكّر به برّي، غير رئيس المجلس؟ لكن من الصعب توقعّ خسارتِه هذه المعركة، حتّى لو قفزَ فعلاً إلى الهاوية، فهو يُدرك دائمًا أنّ ثمة شجرة سيتعلّق بها…وربما بينما أغصانِها بعضُ نوّابٍ يجاهرون بالاعتراض عليه، ولكنّهم يبعثون إليه برسائل مغايرة في الكواليس.   

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button