مقال اليوم

اللاكفاءة فلسفة الحكام التافهين في لبنان وغيره.

 

اللاكفاءة فلسفة الحكام التافهين في لبنان وغيره.

البروفسور عادل خليفة *

إنّ من يتولى قيادة الدولة، يجب أنّ يتمتّع بكفاءة وحكمة عالية، في سبيل تحقيق مصلحة الدولة، فالحكام هم الّذين يتولون مسؤولية قيادة البلاد ووضع السياسيات المهمّة في سبيل تحقيق الرفاه الاجتماعي. وهم قد يكونوا من مختلف المشارب والتجارب، ولكن هل يجب أنّ يكونوا كفؤينً في مهامهم؟

ليس مستغرباً أنّ يتوسّل الوصوليون من أصحاب النعم الحديثة رضى الدولة العميقة في لبنان (ونقصد هنا حماة دعائم الدولة الطائفية والكارتلات الاقتصادية)؛ وبالتالي العمل على حماية الطائفية السياسية في سبيل أنّ يحظوا بزعامة معيّنة أو وظيفة إدارية، أو مشاريع على حساب الدولة اللبنانية.

فالمسؤولون في لبنان، يتغنون دائماً بأننا أوّل ديمقراطية في الشرق العربي، وأنّنا نتمتع بحرياتنا كاملة، ذلك أنَّه منذ تأسيس النظام الطائفي إبتداءً من عام 1926 مع صدور دستور الجمهورية الأولى لم تعد الحريّة حريّة، والمواطنون الذين يقعون تحت رحمة زعماء الطوائف ليسوا أحراراً. لذلك في سبيل الحصول على الحقوق الأساسية كالأمن والغذاء والوظيفة… تصبح الحريّة مقيّدة في بعض الحالات أو محكومة بالضغوط والإجبار في حالات أُخرى.

هذا مع ما نسميه حكم القّلة الفاسدة، أو الأوليغارشة التي تعني حكم الأقلية أو هيمنة القلّة على مقدرات الدولة ومفاصلها. وفي حالة لبنان، فهي تعني هيمنة فئة قليلة جداً من زعماء الطوائف وقادة الميلشيات والمذاهب والعشائر وبعض الأثرياء بالاشتراك مع أعضاء الدولة العميقة، على مؤسسات الدولة ودوائرها.

هؤلاء يفصلون نظام الانتخاب على مقاسهم لكي يعيدوا التجديد لأنفسهم، يعتمدون الزبائنية والمحسوبية مع النّاس ومع بعض الذين يحملون شهادات جامعية وبعض المثقفين، كي يستمروا في السلطة ويتوارثها أبناؤهم والأشخاص الملتفون حولهم.

إنّهم يشترون ولاءات النّاس بالخدمات وبالوظيفة العامة والوساطات وباللعب على وتر الطائفية والمذهبية، إذ يصبح الزعيم هو حامي الطائفة ضدّ الطوائف الأخرى. بينما من أولى متطلّبات الحكم الرشيد، حراسة المال العام وتأمين حقوق المواطنين الأساسية.

من المُهمّ التذكير هنا، أنَّ مبدأ المساواة في الدستور اللبناني يتجلّى في المادتين (7) و (12)، حيث تتحدّث الأولى عن مساواة اللبنانيين أمام القانون، وأمّا الثانية فتركّز على حقّ كلّ لبناني في تولّي الوظائف العامة دون أنّ يكون لمواطن على اخر ميزة إلاّ من حيث الكفاءة والجدارة.

وثيقة وفاق أم همينة؟

عندما انتهت الحرب الأهلية بالتوقيع على وثيقة الوفاق الوطني سيطر أمراء الحرب والميليشيات على زمام السلطة في لبنان إمّا عن طريق التعيينات الإدارية وعبر إصدار العفو العام.

هل من الشطط أنّ يستغلّ باعة الوظائف من المسؤولين السياسيين والزعماء الروحيين، أيّ وسيلة ممكنة لترسيخ تبعية المواطنين لهم على حساب دولة المواطنة والعدالة؟

هذا السؤال ليس رهنًا بالمواطنين اللبنانيين فحسب، بل هو حيال القوانين وكيفية تطبيقها. ذلك أنًّ أفضل الطرق لتكامل المواطنين في المجتمع، يكون عبر استقرار مؤسسات الدولة والمشاركة الفعّالة في انتخاب الممثلين. فاستقرار الدولة وتقدّمها ينطلقان من وجود شخصيات كفوءة، بعيدة عن مصالح الانتفاعيين والانتهازيين.

حكومة اللاكفاءة

في مقابلة تلفزيونية مع الكاتب والفيلسوف الفرنسي “جان دورمسون”، استعمل مصطلح سياسي Inaptocratie ، أي ” حكومة اللاكفاءة ” بالاشارة إلى الحكومة الفرنسية وبعض الحكومات الأوروبية التي تتعاطى مع الحرب الروسية-الأوكرانية بشكل سخيف وهامشي، يدل على انعدام الخبرة عند هؤلاء القادة.

وقدّم بعدها تعريفاً حاضراً لانتقاد السياسة الفرنسية التي قادها الرؤساء الفرنسيون عديمو الخبرة منذ عهد “نيكولا ساركوزي”، مروراً باليسار الفرنسي وصولاً إلى “إمانويل ماكرون”، والذين حصلوا على أدنى شعبية للرؤساء الفرنسيين في نهاية حكمهم، وصلت إلى ما يقارب 9 % منذ بداية الجمهورية الخامسة الفرنسية.

وعلّق بقوله على ما يحصل قائلاً: ” لم يعد لدينا كبار الساسة أمثال (ديغول وميتران وجالك شيراك)، لدينا Amateurs ( هواة) ، عديمو الخبرة والكفاءة، في إشارة أيضاً إلى مقاربتهم للقضايا الداخلية (قضايا الطاقة والتقاعد والتضخم والأزمات العالمية).

في هذا المصطلح Inaptocratie ، والّذي يُعد مصطلحاً جديداً إلى حدّ ما والّذي يروج له الفيلسوف “دورمسون” منذ عام 2014 تمت ترجمته عن الانكليزية Ineptocratie ، منذ سنوات، وبدأ التداول به على الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وهو يشير إلى حكومة القلّة العديمة الخبرة والتي يديرها أناس غير قادرين وغير أكفاء وغير مؤهلين.

يذكرنا هذا المصطلح بشكل غريب بالنظام السياسي اللبناني اليوم، وحسب القاموس الفرنسي فإنّ التعريف العلمي لهذا المصطلح هو “نظام حكم يتمّ فيه انتخاب أناس من الأقلّ قدرة والأقلّ كفاءة على الحكم من قبل أولئك الأقلّ قدرة على اعالة أنفسهم أو النجاح بالمحسوبية والزبائنية، أو ببعض السلع والخدمات يتمّ دفع ثمنها من جيب المواطن ومن خلال اختلاس الأموال العامة”.

بُنيت الثورة الفرنسية على فكرة واضحة وبسيطة، فسّرها “إيمانويل جوزيف سييس” في منظوره “ما هي الطبقة الثالثة”، حيث قال: “بعدما سرنا كيفما اتفق لفترة طويلة… أبان نواب الشعب الفرنسي، أخيراً، عن شخصية وحكومة… إلى أين نحن ذاهبون؟ إلى استمتاع مسالم بالحرية والمساواة، إلى حكم العدالة الخالدة التي حفرت قوانينها في قلوب جميع النّاس، لا على الرخام والحجارة، والتي توجد حتى في العبيد الّذين نسوها والطغاة الّذين أنكروها”.

إنَّ دراسة المرحلة الزمنية للحياة السياسية بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، توضح هذه الحقيقة التي ذكرناها سابقاً عن حكومة اللاكفاءة، وعن الحرية والمساواة، بأنّ غالبية الحكّام في الحكومات المتعاقبة لم ينتهجوا طريق الاصلاح الحقيقي وصولاً إلى تحقيق دولة المواطنة. على وجه الخصوص أنّ ممثلي الدولة العميقة لم يرضوا بالسير نحو لبنان الحقوق والحريات، بل حاربوا من أجل لبنان الطائفي.

هنا يستحضرنا قول الإمام المغيب السيّد موسى الصدر أنّ “الطوائف في لبنان هي نعمة أمّا الطائفية فهي نقمة”، وهذا الإمام لم تكن أفكاره في صالح الانتفاعيين والانتهازيين، حيث عمل على تحقيق دولة المواطنة “فالأديان في خدمة الإنسان”. ومع الأسف فإنّ كل جهوده قد بذلت في زمن التقاتل الطائفي، حيث أعطت الأولوية لمنع التقاتل بين أبناء البلد الواحد.

حكم الأوليغارشية

إنّ أوّل من أشار إلى حكم الأوليغارشية هو “أفلاطون” في كتابه “الجمهورية”، وبعده “أرسطو” والّذي مهّد لاستخدام هذا المصطلح كمرادف لحكم الأثرياء أو أو البلوثوقراطية (حكم الأثرياء).

وبلا منازع، فإنّ الحكام في لبنان يراكمون الثروات عن طريق الصفقات والسمسرات والمناقصات والسرقات، وذلك فيما المواطنون يزدادون فقراً وعوزاً حتى أصبح 80% من الشعب تحت خطّ الفقر وفقاً لتقرير أعدته “اليونيسف”، والدولة اللبنانية تراكم الديون التي وصلت إلى حوالي ال 40 مليار دولار وفقدت الليرة اللبنانية 95% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، وبدأت الدولة تتحلّل من خلال انعدام الخدمات.

يفتقد المواطن اللُبناني اليوم إلى الخدمات الأساسية، إذ لا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب ولا دواء، وحتى البنية التحتية أصبحت في حال يرثى لها، فلا طرقات صالحة، والمرافق الأساسية معطّلة، وجميع الإدارات العامة مقفلة لأسباب عديدة ومنها عدم قدرة الموظفين الانتقال إلى مراكز عملهم بسبب غلاء البنزين وغلاء أجرة النقل.

مصالح الأوليغارشية هي الأهمّ، إذ لا يوجد صعوبة لدى هذه الفئة الأوليغارشية في لبنان في ظلّ هذه الأزمة التي يعيشها المواطن اللبناني في ضمان مصالح أصحابها، فمع بداية الأزمة تمّ تحويل ودائع كبار المودعين والسياسيين إلى خارج لبنان، وأمّا المواطن فقد حُجزت ودائعه، ومنهم من قضى عمره من أجل أنّ يحصل على تعويض تقاعده، حيث بين ليلة وضحاها ذهب شقاء السنين هباءً منثوراً.

ولم تستطع مؤسسات الدولة إلى اﻵن العمل على إصدار قوانين تحمي ودائع الناس، والمحافظة على النظام الاجتماعي الّذي ينذر بالتفجّر دون رادع وليس كما حصل عام 2019. لأنّ القوى الضاغطة من الأثرياء تريد حماية ثرواتها ووفقاً للتعبير العامّي (النفاذ بريشهم)، أمام المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية التي تعصف بلبنان، وبطبيعة الحال كلّ ذلك على حساب المواطنين اللبنانيين.

وتبقى هذه الطبقة مسيطرة على حكومة لبنان، فالطبقة الأوليغارشية الممسكة بمفاصل الحكم بالرغم من كلّ الأزمات التي تعصف بالبلد منذ حوالي 30 سنة بشكل عام، ومنذ حوالي أربع سنوات بشكل خاص، لم يظهر لنا أنّها مهتمّة بمصلحة لبنان كدولة أو مصلحة المواطن اللبناني. فلم يتمّ تشكيل خليّة أزمة تضم أعضاء من بين أعلى المستويات، ولا صيغت أوراق إصلاحية حقيقية توحي بإمكانية الخروج من هذا النفق المظلم الّذي أظلم حياتنا اليومية. فالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي تدور في حلقة مبهمة منذ حوالي الثلاث سنوات، ويعود ذلك إلى عدم اتفاق طبقة الأوليغارشية على ورقة اصلاحية، وعدم وجود مسؤولين أكفاء وصادقين مع أنفسهم ومع الدولة ومع المواطن من أجل مستقبلنا جميعاً.

بعض علماء السياسة ومنهم “جيرار وادغار موران (الّذي تحدّث عن المواطنة العالمية)، ودوليوي”، يعتبرون أنّ الديمقراطية في البلدان المتطورة عامة وفي الدول المتخلفة خاصة كلبنان تشجّع على خلق أنظمة Inaptes ، غير كفؤة وغير مؤهلة لأنّ القادة والمسؤولين في هذه الدول يختارون أو يتمّ اختيارهم على أساس قبلي عشائري ميلشياوي وعصابات وليس على أساس الكفاءة والاختصاص والعلم والشهادات، مما يخلق أيضاً فئة تتوارث السلطة من الجد للإبن للحفيد، وللصهر أيضاً (وما أدراك ما الصهر)، من أجل بناء الزعامة الجديدة وتخزين الأموال المنهوبة من المال العام.

يقول “آلان دونو”، الكاتب الكندي الشهير في كتابه نظام التفاهة، إنّ: “التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغيّر الزّمن زمن الحقّ والقيم، ذلك أنّ التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهيتهم وفسادهم، فعند غياب القيم المبرمبج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً، إنّه زمن الصعاليك الهابط”.

أخيراً علينا أنّ نضع في عين الاعتبار، أنّ غالبية الدعم الشعبي لبعض زعماء الطوائف ينطلق من مسلّمة أنّه هو الحامي لحقوق هذه الطائفة، وبالتالي إنّ الوطنيّة هنا هي في مصلحة فئة على حساب المصلحة العامة، وبالتالي ضدّ صالح الدولة وتقدّمها.

الكاتب : بروفسور  عادل خليفة في الجامعات اللُبنانية متخصص بالعلوم السياسيّة والقانون الدولي من فرنسا وله مؤلّفات عديدة

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button