
سامي كليب
ما هي بالضبط اليوم الرسالة الإسلامية-العربية للعالم؟ فبعض الدول الإسلامية غير العربية حقّقت نجاحات هائلة مناسبة للثورة التكنولوجية والنهضة الاقتصادية والتنموية المعاصرة ومحاربة الفساد خصوصا في آسيا. والدول الكُبرى التي كانت حتى الأمس القريب فقيرة أو مُندرجة في إطار ” الدول النامية” تحقّق قفزات كبيرة ليس في استخدام أو شراء الانترنيت كما هو الحال عند العرب، وإنما في تصنيع وتصدير التكنولوجيا العالية والدقيقة مثل الهند والصين وصولا الى سنغافورة، وماليزيا واندونيسيا وغيرها.
تكثُر الجوائز عند المسلمين-العرب، وتتقهقر الاختراعات، فغالبا ما يُعطي من لا يقرأ لمن لا يستحق. تكثر المهرجانات ويتراجع الإنتاج الفكري، نفاخر بأن بعض دولنا صار في طليعة مستخدمي الانترنيت والتكنولوجيا، لكن الإنتاج العلمي والتكنولوجي المحلّي يكاد ينعدم، وإذا ما حاز مسلمٌ عربي على جائزة نوبل، فغالبا ما يكون بسبب دراسته واقامته وعمله في الغرب، أو لأنه قبِل بالسلام وفق شروط غربية.
ثم تأتي كارثة الترويج للإنتاج الفكري أو العلمي في حال حصوله. فالعرب يروّجون بين بعضهم البعض، وفي غالب الأحيان ضد بعضهم البعض، فلو جُلتَ اليوم على المكتبات الغربية، قد تجد مثلا كتاب ” النبي” لجبران خليل جبران، أو بعض الأدب الحديث الذي كتبه عرب، لكن أيضا بمضمون وشروط تناسب الغرب، لكنك لن تجد مُطلقا تهافتا على كتاب مُترجم عن العربية من قبل الأجانب أو مكتوبا من قبل عربي في الغرب الا ما ندر.
في العام 1993، نشر البروفسور الأميركي صموئيل هنتنغتون مقالا في مجلة ” Foreign Affairs ” حول ما أسماه ب ” صراع الحضارات”. ضجّ العالم به. صار على كلّ شفةٍ ولسان، وبعده أصدر كتابا حول الموضوع نفسه ليرد على المنتقدين ويوضح ما كاد يُصبح عند قيادات أميركية وغربية سبيلا وحيدا للنظر الى مستقبل العالم.
لو دقّقنا قليلا، لوجدنا أن الكاتب المغربي المهدي المنجرة (رحمه الله) كان قد نشر قبل هنتنغتون بعامين كتاباً كبير الأهمية بعنوان ” la première guerre civilisationnelle” (الحرب الحضارية الأولى)، والثابت أن الكاتب الأميركي تأثر به وذكره، وربما سرق فكرته.
دعونا نُلقي نظرة على الانترنيت ونضع أسم هنتنغتون (البعض يكتبها هنتنجتون) واسم المنجرة، سنجد أن الأول يتكرّر 130 ألف مرة والثاني نحو 100 ألف مرة. ما يعني عملياً أن مُفكِّرا مُستقبلياً عربيا قارع لا بل سبق أهم منظّر أميركي في أواخر القرن الماضي (إذا ما استثنينا برنارد لويس الكاره ضمنيا ومرّات علنيا للمسلمين والعرب والذي له على الصفحات العربية 400 ألف مقال عنه وله، وبعده وأقل منه فرانسيس فوكوياما ونظرية نهاية التاريخ).
لو أخذنا مُفكّرا آخر لبنانيا هذه المرّة، هو دكتور جورج قرم، فما كتبه هذا المثقف الموسوعي الذي أبتلي (ولا أدرى لماذا قَبِل) بالتوزير في حكومة سابقة، لوجدنا أن ما كتبه عن تمزّق الشرق الأوسط وحاضره ومستقبله، أهم بعشرات المرّات مما كتبه مئات الغربيين.
الواقع ان العرب يؤثرون الإنتاج الأجنبي على العربي، إما لعقد نقص كثيرة حيال عالم تقدّم على كل المستويات وهم تأخّروا، أو لقناعة الكثير منهم بأن الكتاب الأجنبي غالبا ما يكون أغزر معلومات، وأوفر مراجع، وأكثر موضوعية، وأعمّ فائدة.
تقرير CIA الأخير الذي يتحدث عن مستقبل العالم حتى العام 2040، يرصد بدقة كيف سيغيّر العِلم والتقدّم التكنولوجي والبحث عن مصادر ثروة جديدة، كلّ شيء تقريبا في حياتنا، ومن لا يستطيع اللحاق بهذا التطور سيًصبح عرضة للتفتت والغرق بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية كبيرة. فالقطار التكنولوجي سيسير سريعا ويترك على قارعة محطّاته كل المتخلّفين علميا وتكنولوجيا.
فأي رسالة يقدّمها المسلمون-العرب اليوم للعالم؟ حروبٌ متتالية؟ فتنٌ متنقّلة، إرهاب يُقدم عليه متطرفون ويؤيده ضمنيا كثيرون إذا ما دخل في لعبة المذاهب؟ تخبّطٌ في التحالفات والصفقات بلا أي استراتيجيا بعيدة المدى؟ فساد ينهشُ المجتمعات ويُفقر الناس؟ ثورات وانتفاضات وانقلابات تعود في معظمها بعد فترة الى حيث كان الوضع قبلها أو تترحّم عليه؟ انقسامٌ عامودي وأفقي حاد في لعبة المحاور الساذجة والقاتلة؟
ثم أين هو الإنتاج الفكري العربي-الإسلامي؟ أي كتاب منذ عشرات السنين تأثير به الأجانب؟ بينما نحن كل يوم ننقل عن الاعلام الأجنبي مقالاته ونقتبس من الكتب الأجنبية معلوماتها، كأنها مُقدّسة، بغض النظر عن أهدافها وتوجّهاتها.
الا توجد حلول؟
طبعاً توجد، ينبغي الشروع منذ الآن بورشات علمية، فكرية، تكنولوجية، ووضع خطط قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى للنهوض العلمي والتكنولوجي، هذه أولوية الأولويات لحل الكثير من المشاكل بما فيها الفقر والبطالة، والتهميش، والإرهاب والفساد.
ثم على العرب والمسلمين التفكير كما فكّرت أميركا ثم الصين والهند وغيرها بأن ثانية الأولويات هي ليست فقط لإنتاج التكنولوجيا وإنما لتوقّع آثارها على المجتمع لاحقا والاحتياط درءا للانهيار. فبعد حين ستفقد الكثيرُ من الوظائف أهميتها بسبب التكنولوجية والمكننة، وترمي أصحابها الى أتون البطالة وتنفجر المجتمعات. وهذا ليس بعد سنوات طويلة، وإنما على الأبواب.
بعضُ دول الخليج بدأت بوضع خطط مستقبلية، وهي توسّع جدا هامش التكنولوجيا والعلوم، وهذا أمرٌ ممتاز ويُحسب لها، لكن الأهم هو أنتاج التكنولوجيا محلّيا والتحكّم بمفاتيحها، لأنه سيأتي زمن، بمُجرد أن تقول إنك عربي أو مُسلم قد تُحذف عن وسائل التواصل.
الحروب المقبلة لن تكون عسكرية ولا بالبشر، وانما ستكون حروب العقول وحروب الانترنيت. والتعاون المُقبل بين الدول سيكون تعاونا تكنولوجيا، والثروات المُقبلة ستكون من هذا العالم التقني التكنولوجي وهي التي ستسيطر على كل الثروات الأخرى تحت وفوق الأرض.
لا يرغب العرب والمسلمون بالتعاون؟ لا بأس، لكن على الأقل فلتحاول كل دولة أن تتقدّم خطوة صوب العالم المُقبل الذي سيختلف جذريا عن كل ما عشناه، فهي بعد حين تكتشف أن لا سبيل أمامها سوى التعاون بين المال واليد العاملة والثروات على مستوى الوطن العربي لإنتاج شيء يصلح للأجيال القريبة المقبلة.
ربما نحتاج الى قليل من التسامح والمحبة والتآلف والتعاون بدل العنتريات على بعضنا البعض، للبدء بالتفكير الصحيح بمستقبل يليق بالعصر.