
سامي كليب
كثّف أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله هجماته المركّزة في بعض الخطابات العاشورائية الأخيرة على السفيرة الأميركية في لبنان التي وصفها ب” الشمطاء”، واعتبر أن ما حصل في أفغانستان ” درسٌ عظيم وكبير جدا، وهو دليلُ فشلٍ وهزيمةٍ وعجزٍ وقلةِ عقلٍ وجهل”، لكن توصيفه ل ” الحرب الاقتصادية” التي اتهم واشنطن بشنّها على لُبنان، يكاد يُقنع السامع بأن إدارتي الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن قد انتصرتا على المحور في هذه الحرب الاقتصادية الاجتماعية، وشجّعتا بيئة غاضبة جدا على الجميع بمن فيهم الحزب، وهو ما يعني أن الأمور اللبنانية لن تكون بخير حتى فترة غير قصيرة، وان حرب “كسر العظم” بين الجانبين ستأخذ أبعادا ربما أخطر في أعقاب كسر الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، الا إذا حصل تطور أميركي-إيراني مفاجئ وإيجابي.
من المعروف أن الحلف الذي ينتمي اليه الحزب والممتد من بيروت وفلسطين مرورا بسوريا والعراق واليمن وصولا الى إيران، يُعدّ منذ سنوات طويلة للضغط باتجاه انسحاب أو طرد القوات الأميركية من المنطقة، وهو يرى أن هذا الأمر بات شبه حتمي من الأراضي العراقية والسورية، بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
لكن اللافت أنه في الخطاب العاشورائي ما قبل الأخير، قال نصرالله ما يؤكد أن أميركا التي انهزمت في أفغانستان، حقّقت كل ما تُريده الآن في لبنان، فالأميركيون وفق قوله:
- هم الذي ضغطوا على رئيس الحكومة في العام 2019(أي سعد الحريري) وأجبروه على الاستقالة.
- وهم الذين قالوا لجماعتهم قبل 2019 أخرجوا أموالكم ودولاراتكم من لبنان فأخرجوها من البلد.
- وهم من يمنعون المساعدة، ووضع أي وديعة، والاستثمار في لبنان، وكذلك أي استثمارات صينية وروسية وشرقية وايرانية
- وبما أنهم عجزوا عن اشعال حرب أهلية، فهو يجوّعون ويعطّشون اللبنانيين لا بل يدفعونهم الى الكفر.
- وإن السفارة الأميركية هي التي تُركّب جمعيات المجتمع المدني NGOS بدون أي وسيط من زعيم سياسي، فهذه الجمعيات تأخذ أموالا مباشرة من السفارة (وهنا شمل نصرالله جميع هذه الجمعيات)
- وهم الذين بدأوا لعبتهم في تشرين (2019) لإسقاط الحكومة ومجلس النواب واستقالة رئيس الجمهورية وانتخابات نيابية مبكّرة وتشكيل حكومة ذات صلاحيات استثنائية لفرض رئيس جديد وحكومة جديدة وبرلمان جديد.
نحن إذاً أمام حالتين تختلفان جذريا، واحدة هُزم فيها الأميركيون أمام طالبان وانسحبوا بعد أطول حرب خارجية دامت 20 عاما وكلّفت مئات آلاف القتلى والجرحى وأكثر من تريليون دولار ، والثانية حقّقت فيها أميركا، على الأقل حتى الآن، معظم ما تريد عبر ما وصفها نصرالله ب ” الحرب الاقتصادية الحقيقية”.
هذا يقودنا الى مجموعة أسئلة:
- هل انتصرت فعلا أميركا على محور المقاومة بقيادة حزب الله في لبنان وحقّقت كل ما خطّطت له اذا كان كل ما يقوله السيد نصرالله عن دورها حقيقياً (وهو ما تنفيه السفيرة دائما وتؤكد أن بلادها ساعدت كثيرا لبنان وجيشه في السنوات الماضية)، أم ان أمين عام الحزب رفع السقف عاليا لتبرير ردة الفعل العالية قريبا وبينها استقدام النفط الإيراني وحث الأميركيين على مراجعة حساباتهم والمساهمة بالضغط الإيراني قبيل المفاوضات وغيرها من الخطوات؟
- إذا كان العقم السياسي منذ أكثر من 10 أشهر بعد الانهيار الاقتصادي هو “خارجي”؟ فلماذا يقول الحزب نفسه أن تعقيدات الحكومة شأن داخلي، أوليست التعقيدات جزءا من هذا المخطط وهي التي أسقطت الحريري كما يقول نصرالله نفسه؟
- إذا كان كلّ ما حصل مخطّطا منذ فترة طويلة، فهل المحور المواجه عّجِزَ فعلا عن تفادي ذلك؟ إن هذا بحد ذاته أمر خطير على المقاومة نفسها، ذلك أن نجاح أميركا في إيصال البلد الى ما وصل اليه ( وفق تصريحات نصرالله) والمساهمة في تطويق الحزب والمقاومة حتى ولو دفع كل اللبنانيين ثمن الذل والفقر، يعني أن القدرات غير العسكرية لهذه المقاومة ضعيفة إن لم نقل مشلولة.
- حين يقول السيد نصرالله:” هناك حالة انهيار بالبلد، لكن بالمقاومة لا توجد حالة انهيار، وان هذه المقاومة متماسكة قوية ثابتة متينة ولا يخطئ أحد بالحساب لا الأميركان ولا الإسرائيليين ولا أحد على الإطلاق “، هل يُمكن أن يستمر هذا التماسك فعلاً اذا استمر الانهيار وتفاقمت نقمة الناس حتى في بيئة المقاومة؟
- ما هي الخطوات اللاحقة؟ فالسيد نصرالله تحدث في سياق المواجهة عن:” صبرٍ أعلى واستعداد للمواجهة أكبر وشجاعة أكبر وتحمّل أكبر وحكمة أكبر ووعي بصيرة أكثر”، كل هذا في الواقع لا يشرح تماما لا لبيئة المقاومة، ولا للبيئات الأخرى ما هو التصور العملي للخروج من الانهيار، خصوصا انه ما عاد لدى اللبنانيين صبرٌ ولا قدرة على تحمّل كل هذا الذل اليومي في الطوابير للحصول على البنزين والغذاء والدواء وصرف العملة ( هذا اذا توفّر لديهم الدولار).
- لا شك أن مناهضي حزب الله والمقاومة في لبنان، يفضّلون انتصار أميركا عليه اليوم قبل الغد، ولا شك أن ثمة من يفضّل حتى أن تنتصر إسرائيل عليه كما فعلت سابقا مع المنظمات الفلسطينية في لبنان، ولذلك فإن تشديد نصرالله على هزيمة أميركا في أفغانستان، يُريده مُضعِفا لنفسية المحور الآخر، ومُبرّرا لتوسيع أدوار ايران والصين وروسيا في لبنان، لكنه قد لا يُطمئن كثيرا الواقفين بطوابير طويلة من الصباح حتى المساء للحصول على لقمة العيش.
- قدّم حزب الله حتى عام تحرير لبنان عام 2000، أكثر من 1281 شابا من خيرة شبابه في قتال العدو وتحرير الأرض الطيبة، وقدّم في حرب تمّوز عام 2006 أكثر من 300 شاب استبسلوا في مواجهة أخطر جيوش العالم، وفي سوريا قدّم أعدادا كبيرة في مشاركة أثارت جدلا كبيرا وعمّقت الهوة بينه وبين خصومه في العمق العربي. وإذا كان صحيحا أن الحزب لم يُهزم ولا مرة في المعارك العسكرية وأن فصائله المدرّبة على قتال إسرائيل لم تتأثر بكل ما حصل من انهيار وهي بالأصل لا تركّز سوى على الحدود وما بعدها، فإن الصحيح أيضاً، أنه هُزمَ كما غيره من الأحزاب والتيارات السياسية بوضع سياسي واقتصادي واجتماعي كارثي، ويُهزم كما غيره كل يوم، أمام نقمة الناس، وغضب الفقراء الذي صاروا النسبة الأكبر من الشعب اللبناني. وإن هزيمة المحور الاقتصادية والاجتماعية وربما السياسية أيضا في لبنان، اذا ما استمرت، ستُشكّل بداية تحوّل استراتيجي خطير على هذا المحور الذي يتحدّث عن تحول استراتيجي مفصلي للأميركيين في أفغانستان وما بعدها.
لعلّ هذا بالضبط ما يجعل الحزب يبحث عن واجهة انقاذية للوضع المعيشي (وبينها مثلا القرض الحسن وتوزيع المساعدات وجلب النفط الإيراني اذا استطاع)، وهذا بالضبط أيضا ما يشي بأن المعركة ما تزال خطيرة وحامية الوطيس بين أميركا والحلف المواجه لها في المنطقة وعلى أرض لبنان وسورية. الحزبُ لم يُهزم عسكريا، وما زالت قدراتُه عالية، ولم يُهزم سياسيا على مستوى الهرم، ذلك أن دوره ما زال محوريا لانجاح أو اسقاط أي تركيبة سياسية أو حل، ويجب عدم المغالاة في الحديث عن ضعف في هذين المجالين، لكنه حتما صار مطوّقا كغيرة، وربما أكثر من غيره بالكارثة المعيشية، ذلك أن ما كان منتظرا منه هو أكثر من الصبر وشرح أسباب التدهور.
كلّ شيء سيتوقف على تقدم أو انهيار المفاوضات الإيرانية الأميركية، فإما نذهب الى عدوى التفاهمات على بؤر المنطقة ( وهذا مأمول حتى ولو أن القيادة الإيرانية ترفض حتى اليوم الكلام عن أي ملف آخر غير النووي)، وإما أن يبدأ مسارٌ مختلف تماما باتجاه تحريك الجبهات ضد الأميركيين في العراق وسورية، انطلاقا من فكرة لدى المحور الإيراني بأن هزيمة الأميركيين وانسحابَهم باتا ممكنين في سوريا والعراق اذا تهاوت المفاوضات، خصوصا أن الصين وروسيا مستعدتان لدعم مثل هذا التحرّك سرّا أو علانية في المرحلة المقبلة إذا ما استمر صراعهما على أوجه مع واشنطن، رغم أنهما كانتا وما زالتا تفضلان الحوار ضمنيا .
لذلك فمن يأمل بحصول انفراجات كُبرى في لبنان، واهمٌ أو لا يستند الى أي واقع حتى إشعارٍ آخر، فحزب الله كما غيره من الأحزاب والتيارات اللبنانية يعيش لحظة مفصلية في تاريخه وتاريخ لُبنان، ولو استمرّ الوضع المهترئ على ما هو عليه، فالانهيار الكامل سيولّد الانفجار الأخطر ضد الجميع. لعلّ هذا الانفجار مطلوب قبل الانتخابات المقبلة وبغية انتاج توازنات لبنانية داخلية دقيقة في سياق البحث عن نظام لبناني جديد بعد انتهاء النظام السابق الى غير رجعة، فالحزبُ يريدُ تعزيزَ دوره بدعم إيراني، وخصومه في الداخل والخارج يريدون إضعافَه وانهاكه، وهذا جزءٌ كبير من أسباب الانهيار الذي يتبادل الحزب وأميركا وبعض الغرب ودول خليجية وعربية الاتهامات بالمسؤولية عنه.
لعلّ والد الأطفال الجوعى والمرضى، ما عاد مهتما بسماع أي شيء عن معركة كسر العظم هذه، وانما يريد فقط إطعام وبلسمة أمراض أولاده، وفي هذا هزيمة لكل الجماعة السياسية اللبنانية بما فيها الحزب. ولو وصلت السفن الإيرانية النفطية الى لبنان، فلا شك أن في ذلك أيضا هزيمة لصورة أميركا وحلف الأطلسي على الاراضي اللبنانية. ولعل الحزب يبدأ مع هذه السفينة معركة الرد الفعلية على الحرب الاقتصادية، وهذا ما سيثير جدلا كبيرا في لبنان وخارجه بين المؤيدين والمعارضين لهذه الخطوة . نحن في لحظة مفصلية وخطيرة وحبلى بالمفاجآت الاجتماعية والامنية، وليس ما يحصل بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي الا مداواة للسرطان بحبوب الاسبيرين، هذا اذا تم الاتفاق على التأليف.