فيلمٌ أميركي طويل…لكن الميدان سينطق بالحقيقة
مرح إبراهيم
هل سمعتم يومًا بمغالطة البئرِ المسمومة؟ يحكى عن إحدى القرى أنّ بئرَها كانَت مهجورةً، وكانَ أهلُها يتردَّدون إلى بئرٍ بعيدة، بحثًا عن المياه الصّافية، الصّالحة للشرب، إذ عُرفَ عن بئرِ قريتهم أنّ مياهها مسمومة. ظلّت بئرُ القريةِ مهجوروةً حتى جاءت جماعةٌ غريبةٌ عن سكّانها، فاستقرت في جوارها وشربت من مياهها، ليتضحَ أمامَ الجميع، أنها نقية عَذْبة. لم يكن الدّليل على عُذوبة مياه بئرِ القرية خبرًا سارًّا لمن طالما روَّج أسطورة البئر المسمومة، على الرغم من أنّ الدليل يصبّ في صالِح القرية وأهلها، لكنّه لم يكن في خدمة حجّةٍ راجت وكبرت حتى أصبحت أمرًا واقعًا. فما كان من أحد زعماء القبيلة إلا أن يرمي نعجةً ميتة في قاع البئر.
كناية عن المشهد السائد في خضّم حربِنا اليوم، وربّما في الحروب كُلِّها: إثباتُ الحجّة، لا بل إنقاذُها حتى في غيابِها. حواراتٌ ومواقف تغوصُ في نفسٍ عربيّةٍ، فريسةِ القلَق الوجودي. ثمّةَ مَنْ تمسّك بقضيًّةٍ تجري في عروقه، وثمّةَ من تمسّكَ بحجّةٍ تتسلّقُ فوق أيّ ذريعةٍ عابرة، ومَن يعيشُ رُعْبَ الخَوف من الآخر، في منطقةٍ شهِدَتِ التعايش والوئام على مَرِّ العُصور. يعيدنا المشهدُ إلى رؤية زياد الرحباني، في قُصاصات أفكار المجانين ـ العقلاء وحواراتهم، في فيلم أميركي طويل. فما الذي تغيّر بعد مرورِ 44 عامًا على هذا الفيلم الطويل، الذي يكادُ لا ينتهي ؟ كتبَ التاريخ لهذه البقعة سلسلةً من الفصول التراجيدية، وبقي حوار “العصفوريّة” هذا يحاكي جَوهر الصّراع. يعودُ التاريخ ليرسمَ، على ساحة لبنان، ملامح المرحلة القادِمة. لبنان، الذي يحملُ وراء وجهه المنيرِ، عاشقِ الحياة، عقدةَ العلاقات العربيّة والدّولية. فما الذي تغيّر يا تُرى؟ جملةُ حروبٍ فتاكة غيّرت مصيرَ شعوبٍ وأجيالٍ عربيّةٍ، كي يزدادَ الميراثُ القوميّ العربيّ حزنًا وتمزّقًا وألمًا، ويصعدَ على خشبةِ المسرحِ شخوصٌ قلقةٌ أخرى، في حبكة الفيلم الأميركيّ الطويل.
لا يزال عبد الأمير يحاولُ التقاط خيوطِ المؤامرة لكي يحبكها في كتابه، بينما يتساءلُ نزار حائرًا: كيف انتهى المطاف بتواجد جميع الأطراف بـ”فرد خندق”. إدوار وفوبيا الطائفية والإسلام (الـ”محمودات”) ورشيد وزافين وأبو ليلى… مشاهدُ يبدو فيها حوار “المرضى” أكثر منطقًا من حديث “العقلاء”.
أربعة وأربعونَ عامًا والفيلم مستمرٌ على الخشبة. هل آنَ أن تنسدلَ السِتارة أمامَ شخوص جديدة؟ ومَن سوف يتصدّرُ المونولوجَ الأطول؟
من سيدخل الحوارَ اليوم ؟ “العقلانيّ”، “بعيد النظر”، المهووس بقوّة الآخر، وهو يسألُ بصوتٍ عالٍ : هل تصدقون فعلًا أنكم تقاومونَ الاحتلال بوسائلكم المتواضعة، بعد أن اختُرقتم على مرأى العالم باستعراضٍ استخباراتيّ تقنيّ منقطعِ النظير؟ كفاكم أوهامًا… لا تكافؤ في هذه الحرب، والنّصرُ للأقوى..
سيشدّ على يده آخرٌ مهووسٌ بأطماع قوى إقليميّة، بالتمدّد والسيطرة، يُدينها بلا هوادةٍ، ويُدين حلفاءها كلّهم، قائلًا إنّنا مجرّد وقودِ حروبها مع الغرب، وقودُ حروبٍ بالوكالة.
ثمّةَ مَن يتّهم حركات المقاومة بأنّها سبَبُ ما حدث من قتل ودمار، وكأنّ الحربَ وليدةُ تشرين الأول من العام الماضي. تستفزّه لفظة مقاومة، فيستبدل الأحرف بأحرفٍ أخرى ليجعل منها لفظةً على هواه، مشكّكًا في هدفها ونزاهة حامليها وعقائديتهم وتاريخهم والخ.. ولِمَ لا يكونونَ “عملاء” مختبئين وراء شعاراتٍ عاطفية مهترئة وبالية، داعيًا القومَ الواهمَ بالاستيقاظ.
وثمّةَ من اصبحَ بينه وبينَ المقاومِ ثأر، ولم يعد يعرف حقّاً مَنْ يُناصِبُ العداءَ !
لكنّ صدى الميدانِ اليوم، يعلو على أصواتِ المعلّقين، فلا بدّ للعاقلِ ـ المجنونِ بقضيّته أن يتصدّرَ المسرحَ ولو قليلًا :
ـ هل تظنّونَ حقًّا أنَّ ثمة إنساناً طبيعيّاً لا يحبّ الحياةَ، والعيشَ في رغدٍ وأمانٍ ؟ هل تظنّونَ حقًّا أنَّ ثمةَ إنساناً اختار أن يهجُر من يحبّ ويتيه في مصيرٍ مجهول؟ هل رأيتم يومًا إنسانًا لا يحلم بغدِ أطفالهِ الأفضل ؟ إنسانًا لا يتمزّقُ وهو يرى ذويه يتشرّدون بعد انهيار دارهِ في لَمْح البصَر؟ لا، إنْ هو إلّا صاحبُ الأرض، المؤمن بأنّه لا يمتلِك الحياةَ الحقَّةَ ما دامت فُوهَة البُندقية مُصوَّبةً على جبين أرضهُ.
أيكونُ هوَ الذي افتعلَ الصراعَ على أرضه ليشهدَ كلّ هذا الدّمار، والحرب قائمة منذ ستةٍ وسبعين عامًا؟ أيكون هوَ أوّل مَن أشعل شرارةَ الحربِ، حُبًّا بها؟ وكأنَّ العدوّ لم يعبّد الطريقَ إليها منذ عقود، على خارطة التوسع الصهيوني، ومطامعِ الغرب التجاريّة، آخرها ممرّ الهند، اعتراضًا لطريق الحرير الجديد… سوف تقول لي طبّع، أو لا تطبّع، بل فضّل الحلّ السياسيّ وفاوِض، لأقول لكَ: راقِب، وسوف ترى أن مفاوضاتهم لم تأتِ يومًا إلا على اللّهَبِ وفوقَ الرُّكام.
وكأنّهم يحتاجون إلى ذريعة لكي يجتاحوا ما يعتقدون أنّها أرضهم المَوعودة؟ وكأنّهم ينتظرون منّا إشارةً لتنفيذ مخططاتٍ يُعدّونَ لها منذ عقود ؟ أَتحدثني عن التكافؤ، بينما اجتمعت قوى الغرب كلّها على أرضك، بكل ما أوتِيَت من وسائل القتل والإبادة والدَّمار! والحالُ أنّ ابن أرضِكَ ما يزالُ صامدًا، ويواجهُ بسلاحه وبكلّ ما أوتي من قوّةٍ، آلةَ القتْل الفتّاكة وبهيمية الإجرام! لم يختر الحربَ حبًّا بالحرب، بل اختارها لأنّ لا مناص له غير المقاومة! أجل! ليستِ المقاومة ترَفاً ولا تهوُّراً، بل هي الخِيار الأوحد. وأنتَ؟! يا أيُّها العقلانيّ! يامَن تصفُ الذاتَ العربيّةَ بالخنوع والانهزام منذ تلك النكسة التي سجّلتها حرب 1967: هل تريدها أن تبقى كسيرةً كما تصِفُها؟ مَهلاً! اِرأف بذاتِكَ وبهويّتك، ولا تجْلِدها هذا الجَلدَ القانِط ! وإن شئتَ أن تعرفَ ما يشعرُ به المرءُ في وجهِ المعتدي، تذكّر أطفالَ الحجارة… تذكَّر أهل غزّة الأصلب من آلة حرب الإبادة، باسم الحرية والحقّ الإلهيّ المزعوم!
أوَما زِلتُ تظنّ يا نزار أنّ الجميع في خندق واحد؟ الحركة الوطنيّة والانعزاليون والرجعية العربية والإمبريالية والتقدمية العالمية. ما عساكَ تقول اليوم؟ لن نتطرّقَ إلى حكوماتنا وموجة التواطؤ العامة النائخة على صدر “وطننا العربيّ”، دعونا نتحدّثْ فقط عمّا يهجِس به كلٌّ منّا إزاء الآخر؟!.
حربٌ بالوكالة؟ إن كانت كلّ الصراعات الأخيرة في ديارِنا تدخل في نسق الحروب بالوكالة، فعليكَ أن تتمعّنَ قليلًا بقضيّه هذه الحرب. عقيدة؟ لم تكن المقاومة يومًا حكرًا على عقيدة، تمامًا كما لم تكن الصّهيونية يومًا حكرًا على أحد.. لكن لا بأس بأن يكون لدى العدو عقيدةٌ جوهرُها محونا من الوجود، وممنوعٌ على أيّ من عقائدنا أن تملي علينا ردّ “المقاومة” ؟ كتبوا عقيدتهم في مناهج التعليم، لترسخ في وعي أطفالهم منذ نعومة أظفارهم، بأنّ أرضك غابةٌ جميلة، سيتنزهونَ في ربوعها يومًا. وأمّا أنت، فلستَ إلّا كائنًا جرّدوكَ من الإنسانيّة في معركة القيامة، معركة النّورِ ضدّ الظلام.
وما معنى القضية إن لم تكن قضية الأرضِ قضيّةً؟ وكيف تكونُ المقاومة إن لم تكن بعزيمة شبابٍ كهؤلاء، غايتهم الحقّ بأرضِهم، حيثُ يرحل السيد بين ذويه، والقائد في ساحة المعركة، لتسقط التهم كلّها حيث سقطَ الدم. مهما استبدلتهم الأحرف يا أشقاءنا، لن تنالوا من المعنى.
تستفزّكم الشّعارات العاطفيّة “البالية”، ولم يستوقفكم زيف شعارات حقوق الإنسان والحرية، حيث يقوم ازدهارُ الأمم على استعمارات أرض الآخر وسلب خيراته وأمانه ومستقبله؟
نحن في حاجةٍ إلى “طول بال” يا رشيد، لأنّ الفجوةُ تزدادُ عمقاً؟! طوّل بالك شوي بعد. ثابر يا عبد الأمير! أكمِل كتابَك. لا بدّ أنّكَ أمسكتَ بخيوط المؤامرةِ كلّها، لتحبكها على الورق. هل ستقول لي: في رأس كلّ طرفٍ مؤامرةٌ صغرى؟ هيّا نُركِّز اهتمامنا على المؤامرة الكبرى!
وكأنّنا لم نشهد كيف تحوّلت شقائق النعمان الهاربة من صيغة “الربيع العربيّ” إلى برك من الأحمر القاتم، بدأت ببغداد لتحطّ طويلًا في دمشق. ولا يزال الربيع المقتبسُ من تاريخهم يحجبُ الشمسَ مذ تبنّوا “دمقرطة الشرق الأوسط”، عبر فوضاهم الخلّاقة، وُسلطة الطّابورِ الخامس. وها هم يسعونَ مجدّدًا إلى بناءِ “شّرقٍ أوسطٍ جديد”. لن نلومَ من يقفُ على الحيادِ، ليسَ خوفًا أو حكمةً، بل ترقّبًا، للتموضعِ بهدوءٍ في ترتيبِ الشرق الأوسطِ الجديد، ريثما يمنحهُ العمّ سام، على طبقٍ من ذهب، شعورَ “السيادة” المنشود. دعونا من مسمياتهم التي استقبلناها كعادتنا، بسعةِ صدر وعمى. إنه الوطن العربي، أو العالم العربي إن شئتم، فلن نستفز البعض بكلمة “وطن”.
سوفَ يصعدُ على خشبةِ المسرحِ من عاشَ حربًا طاحنةً قبل سنواتٍ قليلة، ليفرّغ الأحزابَ المقاومةَ من قضاياها، لأنها انخرطت في حربِ بلاده. لكلّ جرحٍ تاريخُ ميلاد، ومن كان جرحه حديثًا، لا يستطيعُ أن يرى سواه، فالذاكرة القريبة لا تزال في لهب، حيث اشتعلت فتيلة الفتن ولم تهمد بعد. نعم يا إدوار، فتيلة الفتن بين الطوائف، هُم من رموها، لنكونَ تمامًا على ما نحنُ عليه. يتساءلُ الجميعُ من رمى الفتيلة الأولى فيها، كحوار رفاقنا في الفيلم الأميركي الطّويل، عن شرارة بوسطة عين الرمّانة.
حربُنا اليوم ضدّ عدوّنا الحقيقيّ، وإن أردتم معرفة أهل الحقّ هنا، اتبعوا سهام العدو وسترشدكم إليهم. لكن قبلَ ذلك، يجدرُ بكم أن تتساءلوا : من هوَ عدوّكم؟
ليسَ بتاريخٍ بعيد كي ننساه، فالوعدُ يعودُ إلى مطلع القرن الماضي، ثمّ خطيئة القرن العشرين، التي طبعتها النازيّة في الذاكرة الجمعيّة الأوروبيّة، لتزرعها بدورها في ذاكرتنا العربيّة التي لا تني تراكمُ، منذئذ، انكسارات وآلام شكّلت حقًّا ميراثنا القوميّ. هم فجّروا عقدة الذنب على أرضنا، ونحنُ لا نزالُ نفجّرُ أنفسنا بعقدة الخواجة. لكن حتى هناك يا أشقائي، بدأ الضمير يصحو قليلًا.
في حروبنا البينيّة، ستبقى الحقيقة مقطّعةُ الأوصال لوقتٍ طويل، سنلمحُ طيفها في الأفق، ثمّ نراهُ يتبخّرُ في صخب السجالاتِ الصمّاء. لكن عندما تسقطُ الحججُ في وضحِ الشّمس، فلْنعترف، ولا نرمي بالنعاج في البئارِ الصالحة، علّ الاعتراف ينقذنا من فتنٍ باتت جزءًا من تكويننا.
سوفَ تنتهي الحرب يومًا ونسمع الحقيقةَ من أفواهِ المجانين.