ثقافة ومنوعاتآخر خبر

   “أكثر بكثير” رواية القهر السوري لبسام كوسا

سامي كليب:

يقول أحد أبطال الرواية:” لم يعد يعنيني مَن يمتلكُ الحقَّ، هؤلاء أم أولئك، جلّ ما يعنيني الآن هو أن كلَّ شيءٍ تقريبًا قد دُمّر، حجرًا وبشرًا، أجسادًا وأرواحًا…لقد نجحنا جميعًا في حرقِنا، وقتلِنا، وتدميرِنا. كلُّ طرفٍ منّا أحضر مَن يفزَع لأجله، ليدافع عن حقّه الذي لا غُبار عليه”.

هي أعمقُ من رواية، وأقسى من قصّةِ الإنسان المطبوعة على الشرّ، وأسمى من مجرّد سردٍ لأحداثِ سورية، (أو أي مجتمع عربيّ مقهور). هي تأمُّلاتُ رجلٍ خَبرَ قسوةَ الحياةَ، وأيقن تقلّبات البشر، وتمعّن بالاستخدام القاتلَ للدين، ويئس من الحروب العبثيّة، وسخرَ من الشعارات الفارغة التي حوّلت الناس الى قطعانٍ من الغنم.

” كانت الكباشُ والأغنامُ والحِملانُ الصغيرة تُشكّلُ بحرًا لا نهايةَ له، وثغاؤها يملأ الفضاء بضجيجٍ هائل. وجدتني أسيرُ بينها من تلقاء نفسي… لم أصدّق ما صرتُ إليه، لقد صرتُ خروفًا”. وكأنما تلك العبارات تُرجّع صدى ما قالته أجاثا كريستي من أنّ ” شعبًا من القُطعان، ينتهي بأن يُنتج حكومةً من الذئاب”، أو صدى الكاتب إتيان دولا بويسي القائل ب ” العبوديّة الطوعيّة” حيث يختار الناس عبوديتَهم بأنفسهم.

هي تأمُّلاتٌ إذًا على شكل رواية، أرادها المُبدع السوريّ الكبير بسّام كوسا المتربّع على مخزونٍ هائل من المسلسلات والمسرحيات والأفلام الرائدة، مُشابهةً إلى حدّ كبير وصايا أولئك الصوفيّين الكبار، الذين قالوا كلمتَهم وهم يعلمون تمامًا أنَّ الجهل القاتلَ حولَهم سيقتلُهم.

عليك عزيزي القارئ أن تُعيد قراءة سطور قصة ” مبروك” الممتدّة على 140 صفحة (من القطع الصغير) مرّات عديدة، حتّى تكتشف أن هذا الرجل الهامشيّ الطيّب والفقير والعاشق للقراءة والطامح للكتابة والذي يعمل على نحو متقطّع في مهنٍ وضيعة ليأكل ويحتسي الخمرة ويدخّن فحسب، يختصرُ عبرَ مروره العابر على الحياة، وعلى الشخصيات الأخرى في الرواية، كلّ القهر الكامن في خلايا سورية، وفي كثيرٍ من المجتمعات العربية الأخرى. وهو يختصرُ أيضًا كلّ أوهام التاريخ والحاضر، وكل التحوّلات والنوازع البشرية، فنرى مثلاً أن صديقَه ” برهان” الطيّب والمُحبّ، يتحوّل إلى رجلٍ ماديّ قاسي الطباع، ثم نراه مُرشَّحًا للانتخابات، وهو القائل عن شعبه إنّه:” شعبٌ لا تنفع معه إلاّ الصرماية”.

هي روايةٌ أو ما يُشبه الرواية، يُراد منها محاكمة الماضي والبطولات الوهميّة “نحن نعشق ماضينا… وهل تغنّينا يومًا إلا بماضينا التليد العظيم المفخرة؟ فمّنا الوليدُ ومّنا الرشيد، فلمَ لا نسود ولم لا نشيد؟ هل نغضُّ الطرفَ عن أندلسنا وغرناطتنا وحدود الصين؟ ” . تحتاج مثلُ هذه الكتابة، إلى جرأة استثنائية اليوم، أو إلى يأسٍ من كلّ شيء حتّى تخرج على نحوها هذا.

فهي ليست محاكمةٌ للتاريخ والمتعلّقين به فحسب، بل إنّها أيضًا شجبٌّ للقائمين على الحاضر ، لأنّ التعلّق بذاك الماضي، أغفل الحاضر حتّى صار ” مملكة الموت”. وها هو الأستاذ عادل الذي هجر جامعته صوب كندا هربًا من رجال الأمن الذين ضيّقوا عليه حياته حتّى داخل الحرم الجامعي، يقول لصديقه ” مبروك ” : إنّنا نعيشُ حاضرًا مُضطربًا هزيلاً، ولا نبذل أيَّ جُهد شريفٍ لمستقبل أجيالنا. إنَّ بوصلتنا قد ضاعت …. ثق يا أخي مبروك أنَّ الماضي لا يُمكن تغييرُه، بل يُمكن تزييفُه، وهنا الطامة الكُبرى”.  مَن الذي زيّف ولماذا؟

هي أيضًا محاكمةٌ للأمم الكُبرى التي ما أن تزدهر، حتّى تجهّز جيوشًا جرّارة تتناسب مع قوتها وعظمتها وتغزو من يجاورها من أمم أقلّ قوّة.

وعلى عادته في السخرية السوداء التي أتقن أسرارَها، فإن المؤلّف ( بسّام كوسا)، يُشرّح بلسان ” مبروك” الذي يُكرر عبارة ” لم أفهم” بينما هو الوحيد الفاهم، عاهاتِ المجتمع والدَجل الذي يُقنّعه، فوالدةُ مبروك اضطرت لممارسة الجنس مع النجّار لإبعاد تُهمة العقر عنها، بينما الوالد الذكوريّ العاقر راح يُفاخر بأنّه أنجب خمسة أولاد، وهم في الواقع أبناء النجّار، وكان يعلم ذلك.  

وأتباع الأديان يتكاذبون في لعبة المجتمع الواحد، ويكفي عود ثقاب حتّى يُشعل نارُ الحقد بينهم. وصورُ المرشّحين للانتخابات على الجُدران ” حماةُ الأرض والعرض والوطن والشعب” يُقدّمون أنفسهم كأبناء المدينة الفاضلة ، ويزينون صورهم بعبارات توحي بأنهم ” سينقذون البشرية جمعاء من البؤس الجاسم فوق القلوب”. وذاك الشيخ الدجّال يقتل زوجة برهان وجنينها بإطعامها أوراق القرآن مُذابة بالماء. والربيع ما زال ينثر عبيره القاتل فوق البلاد والعباد.

هي روايةٌ لا تُشبه الروايات، لا بحبكتها ولا بعقدتها ولا بسرديتها، فتقاطعت فيها رواية “مبروك” مع مجموعة من الآراء الجريئة رغم وجود شبح الرقيب ورجل الأمن الذي  يلتصّص عبر نافذة “مبروك”.  

هي تأمّلاتٌ في الحياة والبشر والمجتمعات المقهورة، تهزّ أعماق القارئ، وتفتح عينيه على واقع بائس يعيشه في حياة عابرة، فيقول الأستاذ عادل  في رسالته الأخيرة لمبروك قبل أن يهاجر :” أنا عشتُ معظم حياتي بلا أمان، ولا أريد أن أقضي ما تبقّى من عمري من دون كرامة”. ويقول آخر حرفيّي ” النَول” وهو يُلملم ما بقي من “مكوكه” الخشبي وطابات الصوف:” يا بُنيّ، أنا مجرّد ذرّة غبار تعيشُ على ذرّة غبار، تسبح في ذرّة غبار، فالحياة خفيفةٌ على نحو لا يُطاق، خفيفةٌ مثل الوبر، مثل غبار متطاير، مثل أي شيء سيختفي غدًا”.

لغةُ الرواية سهلةٌ ممتنعة، ليس فيها تقعيرٌ للُغة ولا تبسيط، وانسيابُها أخّاذ بحيث إن بدأتَها ستُنهيها بسويعاتٍ قليلة،وهية ممتعة وسلسلة، ورسائلُها عميقة وكثيرة ومتعدّدة الاتجاهات لمن يُريد أن يفهم. فمبروك الذي يُكرّر طيلة الرواية أنه لا يفهم شيئًا، يحدّق في نهايتها بذاك الكريه الذي كان يُراقبُه طيلة الوقت، ويتحدّاه حتى يتلاشى، ويكتب أولّ جملة في روايته:” مئة عزلة في العام وأكثر.. أكثر بكثير” تيمُّنا بغابريال غارسيا ماركيز، أو ربما أكثر. حتمًا أكثر.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button