فلسطين، تاريخ 4000 عام
فلسطين، تاريخ 4000 عام
روزيت الفار-عمّان
يُعدُّ كتاب المؤرّخ والباحث الفلسطيني نور مصالحة الحامل عنوان:
Palestine. A Four-Thousand Year History (فلسطين. تاريخ 4000 سنة) دحضاً علميّاً للخرافة الصّهيونيّة الخبيثة الّتي تدّعي بأنّ فلسطين أرض بلا شعب، “ولمفهوم فلسطين” بأنّه اختراع حديث لم يتم بناؤه إلّا لمواجهة إسرائيل”.
نقاط رئيسة:
- إنّ تاريخ فلسطين أقدم بكثير من 4000 عام، لكنّ المؤلّف اختار أن يبدأه من العصر البرونزي؛ بداية المدن الرّئيسيّة في فلسطين مثل غزّة الّتي لا زالت تزدهر حتّى قبل 7 أوكتبر 2023.
- يظهر النّهج طويل المدى أنّ العديد من البلدات والمدن الفلسطينيّة قد نجحت في البقاء والازدهار منذ ما يقرب من 4-5 آلاف عام. في حين أنّ السّياسة قصيرة المدى تنتج الكثير من التّشاؤم. أي أنّ التّاريخ الطّويل لفلسطين وبقاء العديد من مدنها لآلاف السّنين؛ يمنحنا الكثير من الأمل حول مستقبلها. كما ويظهر بأنَّ فلسطين كانت دينيّاً وثقافيّاً واحدة من أكثر البلدان تشبّعاً في الثّقافة على وجه الأرض حيث كانت مكتظّة بالتّاريخ والمدارس والتّعليم.
- وُصفت غزّة بعهد البيزنطيّين بأثينا الآسيويّة لأنّها كانت أكثر تطوّراً ثقافيّاً وفكريّاً من معظم مدن المنطقة في ذلك الوقت.
- “فلسطين” ظاهرة قديمة و“هويّة” فلسطين منفتحة وشاملة ومتجذّرة بعمق في التّاريخ القديم وليست اختراعاً حديثاً.
- لفكرة فلسطين بدايات متعدّدة ومعانٍ كثيرة، لكن ما يهمّ ليس أصل “فكرة فلسطين” أو من أين جاءت هذه الفكرة، بل كيف تطوّرت “هويّة فلسطين” وواجهت الاضطّرابات خلال الزّمن وعبره.
- “يجب أن تبقى فونيسيا/ فلسطين حيّة في الوعي والذّاكرة للجنس البشري الجماعي. وإنَّ الطّامعين فيها من مختلف الأمم أرادوا فلسطين لخصوبة تربتها وجمال مدنها ونقاء هوائها.” إدوارد جيسبون؛ المؤرّخ ورجل السّياسة الإنجليزي 1776.
- فلسطين كانت على مرّ العصور؛ خليطاً من المحسوس والمُتَصوّر والفرديّة والجمعيّة فهي وطن للفرد وموطن للجميع.
يتعمّق مصالحة في كتابه ويقدّم بكلّ دقّة عمليّة تطوّر المفهوم والتّواريخ والهويّة والّلغات والثّقافات الفلسطينيّة منذ نهايات العصر البرونزي وحتّى وقتنا الحاضر. ويكشف عبث الصّهاينة وخلطهم المتعمّد بين الإيمان والأساطير وبين الحقائق التّاريخيّة والبحوث العلميّة والأدلّة المحسوسة القديمة والحديثة الّتي تمّ اكتشافها ومعاينتها وتحديد تاريخها والشّعب الّذي كانت تعود إليه. كان آخرها المقبرة الفليستينية Philistine Graveyard والّتي تمّ اكتشافها بعسقلان (اشكلون) غرب اسرائيل/فلسطين عام 2017 ووُجد فيها خمسة نقوش على هياكل وجدران؛ تقرأ بوضوح كلمة Peleset وهي الشّكل الّسابق لكلمة فلسطين، ممّا قاد علماء الآثار لحقيقة أنّ الفلسطينيين هم السّكان الأصليين لتلك الأرض وليسوا –كما يصفهم الصّهاينة- بقراصنة أتوا من بحر إيجا. إضافة لنصوص قديمة وُجِدت في مقبرة أثريّة مصريّة عمرها أكثر من 3000 سنة، يتحدّث أحدها عن الشّعوب المجاورة الّتي قام المصريّون بمحاربتها –وفي هذه الحالة- الفلسطينيين. حتّى أنّ عالم الآثار الإسرائيلي Zeev Herzog أستاذ التّاريخ في جامعة تل أبيب، وصف “العقيدة التّوراتيّة بأنّها أعمال خرافيّة وبأنّ شعب اسرائيل لم يرحلوا لمصر أو يقيموا فيها ولم يستولوا عليها، وأنّه لم يكن هناك ذكر لإمبراطوريّة داؤود وسليمان ولا أيّ مصدر للإيمان بإله إسرائيل. وقد تمّ التّأكّد من حقيقة ذلك منذ زمن بعيد؛ غير أنّ الاسرائيليين شعب عنيد لا يريد الاعتراف بذلك.”
هذا بالطّبع يتعارض مع الرّواية التّوراتيّة الّتي يستشهد بها الصّهاينة منذ القرن 19 بسعيهم خلف اثبات ادّعائهم بأنّهم أصحاب الأرض. إنّ “كنعان” فنّيًّا؛ موجودة كمكان، لكنّ التّاريخ يثبت بأنّها عبارة عن مصطلح توراتي يشير إلى فينيقيا (حضارة مرتبطة بلبنان الحديث كان يستخدم لوصف هذه المنطقة لفترة قصيرة؛ حوالي 1300 ق.م. فالكنعانيّون هم ذاتهم الفينيقيّون وعُرِفت الأبجديّة الفينيقيّة في مناطق فلسطين ولبنان السّاحليّة بأنّها الأبجديّة الكنعانيّة وتحدّث بها الإغريق والآراميين والعرب والعبرانيّين.
إبّان ذلك؛ ترتبط فيليستا (كنعان سابقاً) مباشرة بشمال فينيسيا. وبعد القرنين السّابع والثّامن ق.م. فإنّ شمال منطقة المتوسّط الّتي توصف بإسرائيل/فلسطين، لم تعد مرتبطة بكنعان أو بأيّة تسمية قديمة وأصبحت تُعرف بفيليستيا Philistia الّتي ازدهرت بنهاية القرنين الخامس والسّادس ق.م. عند التّحوّل للعصر الحديدي وأقامت فيها حضارة مدنيّة متطوّرة. وإضافة لتقدّمهم بأساليب بناء السّفن فقد ترك الفلسطينيّون خلفهم إرثاً فنّيّاً مهمًّا أظهرته الحفريّات وصناعة الفخاريّات والنّقش والعاج والأواني النّحاسيّة بكافّة أنحاء فلسطين التّاريخيّة. وفي هذا الوقت تمّ إيجاد العديد من المدن الفلسطينيّة القديمة؛ منها غزّة وعسقلان وأسدود علماً بأنّ الإسرائيليين قاموا بطرد أهالي المدينتين الأخيرتين بحرب 1948. وظهر هناك تشابه أركيولوجي كبير بين الدّول-المدن (city states) الفلسطينيّة مع تلك المتطوّرة في الحضارة اليونانيّة القديمة، فأنشأت شبكة تجارة ضخمة مع مصر وفينيسيا وشبه الجزيرة العربيّة (Arabia) إضافة للتّنوّع والتّعدّد الثّقافي والدّيني الّذي تميّز بتعدّد الآلهة لبعض الدّيانات، ممّا عزّز أهميّتها ومكانتها.
في القرن الخامس ق.م.؛ استمرّت فلسطين القديمة، Philistia باليونانية وPalestina بالّلاتينيّة، بالتّقدّم زمن حكمي الرّومان واليونان، متّخذة لها هذا الّلفظ كإسمٍ عام يشير للمساحة الواقعة بين لبنان ومصر الحاليّتين ولمدّة 1200 سنة؛ حتّى الفتح الإسلامي عام 637م.
كتب الفيلسوف اليوناني آرسطو وهيروديت (أبو التّاريخ) في القرنين الرابع والخامس ق.م. نصوصاً يصفان بها فلستيا/فلستينا بمكان تعدّد الآلهة وبالغنى التّجاري المتمثّل بتجارة البخور والبهارات الغربيّةّ والأمتعة الفاخرة.
وبين الأعوام 135 و390 ق.م. وأثناء الحكم الرّوماني؛ منحت فلسطين اسم Syria Palestina للمقاطعة الرّومانيّة بالمنطقة. وكانت المسيحيّة الدّيانة الّتي يمارسها النّاطقون بالعربيّة واليونانيّة والآراميّة وكذلك الدّيانة اليهوديّة للنّاطقين بالّلغتين الأخيرتين. وكانت فلسطين أيضاً وطناً لأصحاب الدّيانات متعدّدة الآلهة من اليونان والرّومان.
تحوّل اسم المنطقة بعدها إلى “Palestine” فقط، كما جاء بالأعمال الأدبيّة للفيلسوف اليوناني اليهودي فيلو والجغرافي الرّوماني بومبونيوس ميلا اللّذين وصفاها بدقّة؛ وذكر ميلا اليهوديّة (Judea) كمقاطعة رومانيّة صغيرة وسط فلسطين. وكتب عن عرب فلسطين وعن غزّة ووصفها بالمدينة القويّة (The Mighty City of Gaza).
كان الاهتمام الفلسطيني بتلك الحقبة معنيّاً بتطوير البنية التّحتيّة وبالتّحديث والتّمدين؛ ما عزّز مكانة وأهميّة فلسطين لدى الإدارة الرّومانيّة.
تلاشى لفظ “Jerusalem” وسميّت “Aelia Captolina”: كلمتان تمثّل الأولى الاسم الثّاني للامبراطور هادريان، الّذي أعاد تسميتها. والثّانية لاسم إله الآلهة الرّوماني. وبقيت تحمل هذا الاسم حتّى تاريخ الفتوحات الاسلاميّة. حتّى القرن العاشر، كان الاسم لا يزال مقترناً “ببيت المقدس” أو “المدينة المقدسة”.
عُرِفت فلسطين البيزنطيّة بتنامي المسيحيّة واعتلاء العرب لمواقع القوّة.
أصبحت المسيحيّة الدّيانة الرّسميّة للدّولة الرّومانيّة في القرن الرّابع وحصلت فلسطين عندها على أهميّة كبيرة لكون السّيّد المسيح قد وُلد فيها وهو العنوان الرّوحي لتلك الدّيانة.
قسّمت الامبراطوريّة الرّومانيّة البيزنطيّة فلسطين إلى ثلاثة مناطق إداريّة هي: فلسطين الأولى، فلسطين الثّانيّة وفلسطين الثّالثة (الجانبيّة) وتمثّل وسط وشمال وجنوب فلسطين الحاليّة. لكنّها بمجموعها كانت تشكّل وحدة واحدة هي “فلسطين العظمى”. استمرّت الوحدة بينها بجميع النّواحي السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والدّينيّة وأصبحت معروفة عالميًّا بمدنها الحيويّة وهندستها الأخّاذة ومكتباتها الغنيّة ومراكزها الفلسفيّة.
شهد القرن السّابع الظّهور الاسلامي وقادها لمزيد من الازدهار؛ صاحبه تعريب للّغة ودخول بالإسلام. أمران لم يُشكّلا أيَّ تحدٍّ للسّكان. فاللّغة الآراميّة -الّتي كانت تتحدّث بها غالبيّة الشّعوب- تشبه اللّغة العربيّة، وكذلك الأمر بالنّسبة للدّيانة فهي إحدى الدّيانات الّتي تؤمن بإله واحد، كما المسيحيّة واليهوديّة. واتّخذت Filastin حينها اسمها المُشتق من Philistia القديمة، وشكّلت مقاطعة مركزيّة للإمبراطوريّة في دمشق المجاورة. وكان العيش المشترك بين أصحاب الدّيانات الثّلاثة طبيعيّاً والجميع يمارس طقوسه الدّينيّة بحريّة ودون نزاع، ما ساهم بتطوّرها الحضاري وتحديداً في المدينة المقدّسة الّتي اعتبروها عاصمتهم بدل دمشق، بالإضافة لكونها ثالث أهم مدينة بعد مكّة والمدينة، وهو ما قادهم لبناء قبّة الصّخرة 691م.
وخلافاً للرّواية الصّهيونيّة الّتي إدّعت بأنّ الدّولة الفلسطينيّة الإسلاميّة كانت في طور الانحدار؛ فإنّ ما أظهرته السّجلّات الضّريبيّة آنذاك؛ أثبت بأنّ فلسطين كانت أغنى منطقة بين كافّة دول المتوسّط في ظلّ الخلافة الأولى. وهو ما أدهش الغزاة الصّليبييّن حين جاؤوا وشاهدوا مجتمعاً يفوق بتطوّره مجتمعاتهم الأوروبيّة الّتي أتوا منها.
بعد التّخلّص من الصّليبيين جاء الأيوّبيّون وتلاهم المماليك ليحكموا في فلسطين.
عاث الصّليبيّون فساداً في سعيهم لإقامة حُكم لهم على الأرض المقدّسة منذ عام 1147. غير أنّ البطل صلاح الدّين الأيّوبي أعادهم إلى حيث جاؤوا بمعركة حطّين 1187 وأعاد الحكم الإسلامي لها والّذي استمرّ بعدها 70 سنة.
لم ينجح صلاح الدّين في استعادة عكّا، المدينة السّاحليّة المحصّنة الّتي كانت تحت الحكم الفرنسي، لكن أحفاده تمكّنوا من فعل ذلك عام 1291. وباستعادة الحكم الاسلامي؛ استعاد المسلمون واليهود عيشهم المشترك والعبادة بحريّة ودون تدخّل أو تدنيس أي منهم لأماكن عبادة الآخر.
حصلت تغييرات إداريّة مهمّة في فلسطين أثناء عهد الأيّوبيّين كاتّخاذ مدينة القدس عاصمة لفلسطين. نمت المدينة وازدهرت واستمرّ ذلك لمدة 700 سنة.
وعلى عكس الانحدار الّذي حصل للمدن السّاحليّة بسبب الغارات الصّليبيّة المستمرّة عليها، شهدت المدن الدّاخليّة، وتحديداً “القدس”، نهوضاً لافتاً. ولمنع أيِّ حصارٍ على المدن الرّئيسيّة في المستقبل، قام الأيّوبيّون بهدم جدار تلك المدن ونجحوا في خطّتهم.
وبعد انتصارهم على المنغوليّين؛ جاء المماليك 1260 وبدأوا حكمهم في فلسطين الّذي استمرّ 250 عاماً؛ شهدت مدنها، والقدس بالتّحديد، مزيداً من النّمو والازدهارالّذي بدأه أسلافهم الأيوبيّون بسبب عامل السّلام والأمن الّذي كان يعمُّ بتلك الحقبة؛ ممّا أدّى لجعل المدينة موقعاً مهمّاً للحج، وقاد لبناء مرافق صحّيّة وشبكات مياه نظيفة للشّرب وحمّامات ما زال أحدها موجوداً حتّى الآن هو “حمّام العين”. وقامت نهضة عمرانيّة ملفتة تميّزت باستخدام الحجارة البيضاء؛ لا نزال نشهدها ليومنا الحاضر.
بعد انتهاء حكم المماليك لفلسطين وبداية حكم العثمانيّين 1517؛ بقيت فلسطين على الخرائط المُعتمدة تعني المنطقة الواقعة بين مصر ولبنان الّتي يتكلّم شعبها العربيّة وتديّن غالبيّتهم بالإسلام. شكّلت تلك الحقبة نقطة تحوّل محوريّة في تاريخ فلسطين حيث تمكّنت من تشكيل دولة ذات هويّة قوميّة فلسطينيّة مستقلّة. لكنَّه في الواقع كان هناك دولة لفلسطين تسبق هذا التّاريخ بقرن. فهي لم تنبثق من النُّخبة الحاكمة تحت شكل القوميّة، بل أتت نتيجة لانتفاضة الشّعب ضدّ قوى الظّلم والاستبداد.
شهد القرن الثّامن عشر انحداراً للدّولة العثمانيّة، والّتي كانت تُعتبر قوّة عالميّة، كان الشّعب الفلسطيني في الجليل قد قاسى الكثير من ظلمها ولمدّة طويلة حتّى ظهور (الظّاهر العمر الزّيداني) المعروف بأبي فلسطين الحديثة. وبمساعدة جيوش الفلّاحين المسيحيّة والمسلمة، تمكّن “العمر” من القضاء على الجيش العثماني في كافّة الاضطّرابات الّتي حدثت بين 1720-1730، استطاع بنهايتها إنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة رضخت للاعتراف بها الإدارة العثمانيّة المهزومة وأصبحت دولة فلسطين حقيقة واقعة ودولة سياديّة مستقلّة عام 1768.
خلافاً لبقيّة المناطق الّتي كانت تحت حكم العثمانييّن، وبنهايات القرن الثّامن عشر وبقيادة العمر ودعم الفلّاحين، أصبحت فلسطين مركز قوّة اقتصاديّة. ازدهرت فيها الصّناعات القطنيّة وتصديرالبرتقال اليافوي الشّهير وزاد الطّلب الأوروبّي عليهما ممّا زاد في توسيع تجارتها لتصبح تجارة دوليّة مكّنها ذلك من إنشاء نظام ضريبي عادل لتمويل دولتها المستقلّة. وبقيت تتمتع باستقلالها الفعلي من 1720 وحتى وفاة “العمر” 1720-1775 نافية أيّ إدّعاء بريطاني يفيد بغير ذلك.
بعد عقدين من وفاة “العمر”، قامت هناك خطّة أوروبيّة لتغيير دول المتوسّط. كان نابليون، الامبراطور الفرنسي الجديد منخرطاً بحروب داخل أوروبا وشمال أفريقيا تشمل حملات في مصر وفلسطين. فشل في اختراق عكّا والسّيطرة عليها أمام التّحالف البريطاني العثماني؛ 1799 وهو التّاريخ الّذي شهد أوّل استهداف استعماري لفلسطين.
وفي مطلع العقود الأولى من القرن التّاسع عشر؛ توافدت للمنطقة وفود بريطانيّة من المسيحيّين الصّهاينة وبدأت شركات سفر بتنظيم رحلات سياحيّة لفلسطين كشركة ثوماس كوك.
كان وصول بعثة تهدف لعمل خرائط مفصّلة لفلسطين عام 1871 دليلاً رسميّاً على اهتمام الإنجليز وأطماعهم فيها ونذيراً لما قد يحصل بالمستقبل.
استغلّوا فرصة ضعف الدّولة العثمانيّة وسقوطها ليأخذ الإنجليز مكانها بالمنطقة. وبدأوا التّحضير لذلك؛ معتبرين فلسطين مكاناً يخدمهم في التّوقّف به في الطّريق للهند البريطانيّة.
إضافة للخرائط، أنشأ الإنجليز صندوق مكتشفات بريطانيّة – فلسطينيّة بإشراف علماء توراتييّن (توراة) لديهم مصالح وأطماع بالمنطقة. مثل “تشارلز وارن” مسيحي صهيوني يؤمن بأنّه يجب إقامة دولة يهوديّة في فلسطين لتسريع عودة المسيح.
وبالتّوازي مع تصاعد أطماع الإنجليز في فلسطين، كان هناك نموٌّ متزايدٌ للقوميّة الفلسطينيّة، والّتي سبقت بداية الصّهيونيّة بنصف قرن.
كان غالبيّة السّكّان من مسلمين ومسيحيّين ومن يهود لا يتجاوز عددهم 25000. وحتّى بداية الاستيطان الأوروبّي اليهودي بنهايات القرن التّاسع عشر، كان السّكّان من كافّة الدّيانات يعيشون بسلام ووئام.
شعر جميع الفلسطينيّين بتأثير وأهميّة القوميّة بوقت واحد. زاد ذلك الشّعور الثّورةُ الصّناعيّة في مجال الطّباعة وتنامى التّعليم العلماني ممّا ساهم في تطوير العلم ورفع مستوى الوعي القوميّ لديهم؛ فقاموا بإصدار صحيفة؛ حمل عنوانها اسمَ “فَلَسطين” “Falastin”. بدل الأسماء التّقليديّة Filistin أو Filastin، الّتي عرفت بها من قبل، وكان ذلك مؤشّراً كافياً على أهميّة الهويّة الفلسطينيّة في وجه الإمبرياليّة. تمكّنت بريطانيا وفي سياق الحرب العالميّة الأولى، من تحقيق هدف القرن مستغلّة خروج العثمانيّين واحتلّت جيوشها فلسطين بمباركة عصبة الأمم الّتي أعطت بريطانيا حقَّ الانتداب عليها.
المشروع الصّهيوني العنصري متأصّلٌ في المستوطنات الأوروبيّة الاستعماريّة.
معتبرة حقّها فوق كلّ حقوق شعوب العالم، قامت أوروبّا ببداية القرن التّاسع عشر بتكثيف عملها التّوسّعي الاستعماري حول العالم. برزت معها، وبالمستوى ذاته، الأيديولوجيا الصّهيونيّة الاستعماريّة. فكما رأى الإنجليز بالهند شعوباً لا تستحقّ أن يكون لها حكم مستقلٌّ، كذلك نظر اليهود للفلسطينيّين؛ باختلافٍ واحد؛ هو أنّ الإنجليز وجدوا بالهند سبيلاً لازدهار بلادهم اقتصاديًّا، بينما المُستعِمر الصّهيوني أراد مسح الهويّة الفلسطينيّة واستبدال شعب فلسطين بشعب يهودي، فهم (الإسرائيليّين) يدّعون بأنّ فلسطين أرض بلا شعب ومعدّة لتكون لشعب دون أرض.
وحسب ذهنيّة المُستعمِر الأوروبّي حينها؛ فإنّ الشّعب الّذي يعيش بفلسطين لم يكن كاملاً كسائر البشر. ولمساندتهم في ذلك، أوجد اليهود الصّهاينة حلفاً مهمّاً وثميناً في مسيحيّي الإنجليز الصّهاينة. فكثير من السّياسيّين الإنجليز في ذلك الوقت -كأوّل رئيس للوزراء “ديفيد لويد جورج”- كانوا ضمن هذه الأيديولوجيّة.
كانت الإملاءات الّتي قادت إلى الاستعمار الصّهيوني ذات طبيعة قسريّة تدحض الهويّة المحليّة الفلسطينيّة كما تدحض صعود الوعي الجديد بالحيّز الفلسطيني. ولم يكن هناك أيّ اهتمام بمصير الشّعب الفلسطيني بعد إعلان دولة الصّهاينة. وبعد إعلان الانتداب البريطاني؛ نشأت حركة فلسطينيّة مناهضة للأيديولوجيا الصّهيونيّة ممّا جعل الأخير يفكّر بإنّه إذ ما أراد نجاحاً في إقامة دولته؛ عليه استئصال الفلسطينيّين من أرض أجدادهم. وهو ما يقومون به من تطهير عرقي بغية خلق مستعمرة يهوديّة بحتة في الشّرق الأوسط. وهذا ما حصل تماماً 1948 (النّكبة) عام قيام دولتهم، ومدينة يافا مثال على ذلك فهم قاموا بطرد جميع سكّانها من مسلمين ومسيحيّين واستبدلوهم بمستوطنين بيض جاؤا بهم من أوروبا. وبدأوا يمارسون ذلك ويزيلون أيّ أثر فلسطيني في كل أراضي مستعمراتهم الجديدة.
وللسّيطرة على غالبيّة فلسطين التّاريخيّة؛ بدأت الصّهيونيّة باتّباع عمليّة ممنهجة لعنوَنة الصّهيونيّة على أنّها “عودة أصحابها إليها بعد غيابهم منذ 2000 عام”. أوكلت هذه المهمّة للجنة حكوميّة جديدة أسّسها الصّهيوني البولندي “ديفيد غريون” والّذي قام بتغيير اسمه ليصبح الثّاني فيما بعد ليعطيه صبغة يهوديّة متديّنة وملتصقة بالتّوراة ليصبح “بن غوريون”. وتبعه كثير من الشّخصيّات الإسرائيليّة النّافذة في تغيير أسمائهم بالمثل.
تغيير الأسماء لم يكن لوحده مقنعاً للصّهاينة. بل أرادوا أيضاً لغة جديدة، وبدأوا باختراع “العبريّة الحديثة” بنهاية القرن التّاسع عشر -قام بإيجادها “أليعازر بن يهودا”- تستخدم مفردات فلسطينيّة وأصوات وقواعد لغة عربيّة بالإضافة لبولنديّة ويديشتيّة.
بعد 1948، أصبح 80% من أراضي فلسطين التّاريخيّة تحت سيطرة اسرائيل وطردوا معظم سكّانها الأصليّين ويقدّر عددهم ب700 الف لاجئ ومُبعد.
بالرّغم من الظّروف القاسية، غير أنّ الفلسطينيّين أظهروا بأساً وصموداً في وجه المحتل فلا تزال الثّقافة الفلسطينيّة حيّة. ففي العقود الأخيرة كان هناك العديد من الأعمال الأدبيّة والثّقافيّة والأفلام ومواقع الكترونيّة وأرشيف وكثير غيرها قد تم نشرها لدعم الهويّة الفلسطينيّة.