ثقافة ومنوعات

دروب الحرير:رحيقُ الرحلات والروح

 دروب الحرير: رحيقُ الرحلات والروح 

روزيت الفار-عمّان

 كنحلةٍ نشِطة؛ طافت وجَمعت رحيقَ رياحين لبنان وزنابقِ أمستردام وورودها؛ أزهار بساتين العالم الغنّاء؛ وسَكَبتهم شهداً بكتاب عنوانُهُ “دروب الحرير”، نترشّفه ترياقاً لمحاربة الكآبة والملل.

“تقودنا الأقدار إلى حيث نتمنّى لا إلى حيث تريد”.

إن المجد العظيم يعمي صاحبه عن السّعادة الكامنة في الأمور البسيطة وخصوصاً الإنسانيّة. 

السّاسة عابرون دائماً، وأخلاق النّاس والمجتمع ومبادئهم هي الّتي تحفظ الأوطان.

يشرح الإعلامي والكاتب سامي كليب جميع هذه الأقوال وأكثر؛ بكتابه الجديد عن رحلاته -والّتي كان قد بدأها بكتابه “الرّحالة؛ هكذا رأيت العالم”– الّذي صدر حديثاً بنهاية العام 2022 بعنوان “دروب الحرير الرّحالة 2” كترجمة حقيقيّة لمفهوم التّجسير والتّعارف بين بلدان العالم وشعوبه؛ مدركاً أهميّة ذلك في خلق تعاون وتعاضد يخدم “الإنسانيّة” وهي الّتي نشترك بها جميعاً كبشر، والعيش بعالمٍ، مهما كبر، يبقى صغيراً يتقارب بالمحبّة.

صورة للمؤلّف؛ يبدو فيها باسماً متفائلاً تظهر على غلاف الكتاب؛ ويكحّل بلون قميصِهِ الدّاكن ظلالَ الأخضر الّذي يلوّن خلفيّة الصّورة، يبهج بخضرته الحاملة معاني الحيويّة والأمل والخصوبة، قلبَ وعينَ كلّ مَن يشاهده، ويثري بمحتواه عقلَ وفكرَ كلّ من يقرأه. ثمّة صفحات خصّصها الكاتب للصّور، أعتقدُ أنّه أراد بذلك السّماحَ لعقلِ القارئ أن يتخيّل المشاهد عبر الكلمات لا الصّور، وأظنّه قد نجح.

بشغف الاستكشاف وحبِّ المعرفة؛ وبقلبٍ مُحبٍّ وفكرٍ منفتح، يتنقّل الكاتب بين بلدان العالم ومدنه؛ راصداً ما يمرُّ به من أماكن وما يدور بها من قصصٍ وأحداث؛ واصفاً إيّاها بدقّة مهندس يعطي الجمالَ أولويّة في رسم تصاميمه، وبصدق رسول أمين يحرص على شفافيّة نقل كل ما يشاهده. ورغم محاولته تجنّب السّلبيّات ومواقع القبح، غير أنّ الكاتب لم يغفل عنها بالكامل، بل تناولها كناقد يرغب بالإصلاح.

كان لبنان حاضراً معه في كلّ ترحاله تماماً كباقي الدّول العربيّة. فكاتبنا من النّوع الّذي يحمل همومَ وطنِه معه أينما ذهب. وكيف لا؟ وقد عايش سنوات حربٍ أهليّه وأخرى مع عدوٍّ أفقده والده وأعيا والدته.

زيوريخ السّويسريّة. محطّة كتابه الأولى. حدّثنا عن كيف استطاعت النّهوض مجدّداً بعد أن كانت تسبح بالقذارة ويأكلها الذّباب وتحوّلت لأبهى مدن العالم وأغناها بمصارفها وجامعتها ونقاباتها الفاعلة؛ متأسّياً بالوقت ذاته على ما آل إليه وضع  لبنان وبلادنا العربيّة الغارقة في الصّراعات والعبوديّة والخذلان.

تحدّث عن التّآخي بين الأديان في تتارستان وكيف لا يتعارض الدّين مع التّقدّم التّكنولوجي والفن. فالكنيسة تعانق المسجد بينما تضجّ الشّوارع ببهجة السّكان وبمظاهر الفرح والفن.

لا يحبّ كاتبنا “البرجوازيّة” لكنّه وجد النّوع الخاص المحبّب لقلبه في أمستردام. ربّما كان خروج زنابقها وورودها للقائه، سبباً في ذلك. يُعتبر التّوليب تجارة الدّولة الأولى وتنعم البلد بمسطّحات مائيّة سخيّة ومديدة فأينما التفتَّ تجد ماءً.

ولأهميّة المواعيد واحترامها، كان لبرلين مكانة خاصّة لدى الكاتب فهو وبرلين بهذا الشّأن سيّان. شرح لنا من هناك، كيف انهار حائط التّفرقة الفاصل بين البرلينيتين؛ الشّرقيّة والغربيّة وتحوّل بعدها للوحة حب وتوأمة.

حظيت صافيتا السّوريّة بمنزلة مقرّبة لقلب كاتبنا. فهي الّتي أنجبت أوّلَ عالمٍ للذّرّة وفيها “البرج”، أهم معالم تاريخها وحضارتها.

ومن “بو سعادة” ووهران الجزائر، بلد المليون شهيد، معقل القوميّة العربيّة وأرض النّضال، يروي الكاتب قصصاً تحكي عن بسالة رجالها ووقوفهم لجانب قضايا العرب المُحقّة وخاصّة قضيّة “فلسطين”. ويشرح لنا رقصة “العلّاوي” كرمز للجهاد وركل المُستعمر. وكيف عادت تبتسم مجدّداً بعد سنوات الحرب السوّد العشرة. لكنّه يتساءل متألِّماً: كيف لهذه الّلحمة العربيّة أن تُبقي جرح الصّحراء بين الشّقيقتين الجزائر والمغرب نازفاً منذ عقود؟

أمّا المغرب ذات الطّبيعة الخلّابة والتّنوّع الحضاري المتميّز فكان له فيها نشاطات وصداقات أصبحت بفضله صداقات لنا. تلك البلاد الّتي لا يزال شرقنا يجهل الكثير عنها وهي الّتي تعرف عنه الكثير.

للتّناقض لدى المؤلِّف باب. فكيف لبلد هانئ وهادئ مثل سوتشي الرّوسيّة أن تنجب رجلاً شديد القسوة مثل “ستالين”، الّذي قاد حروباً شرسة قُتل وهُجِّر بسببها ملايين البشر وقلّما نجا منها أحد حتّى أفراد أسرته؟

لم تخلُ لغة الكاتب السّلسة من عباراتٍ تومئ بالعاطفة دون أن تؤثّر بالعقل. زار “بلاد ما بين الضّلعين“. واجتمع بقياداتها مثنياً على استيقاظها مجدّداً بالرّغم من بقائها في دارة القلق.

“رأيتُ الفحيص بعدستِهِ أجمل”. البلدة الأردنيّة الوادعة الّتي حافظت على الوجود المسيحي فيها؛ مع الحرص الشّديد على الانتماء للعروبة؛ قطع آثارها وصوّر مناضلي العرب في متاحفها وعلى جدران أفنية كنائسها وساحاتها شهود على ذلك.

عاتباً على العرب جهلَهم، كلّمنا الكاتب عن موريتانيا عروس الصّحراء. بلد الدّيموقراطيّة والشّعر واحترام مكانة المرأة المساوية للرّجل. هي مَن قامت بتجريف سفارة العدو الإسرائيلي وشيّدت مكانها مجسّماً للقدس.

أمّا شنغهاي الصّينيّة؛ وسورها العظيم؛ كانا مكانين لفرح الكاتب ودهشته معاً. فحين استعصت أرضها على المُستَعمِر؛ غزاها بالأفيون. غير أنّها نهضت كالتّنّين لتصبح بين أكثر البلاد تقدّماً.

يتردّد الكاتب بين الفينة والأخرى لوطنه المنكوب لبنان، محمّلاً بالحنين لماضيه الجميل مع عائلته؛ وللأهل والأصدقاء والجيران الطّيّبين الّذين أضحوا أصحاباً لنا وكأنّنا نعرفهم منذ زمن. يسرد حكايات ضيعته وبساطة وكرم أهلها. هو يريد لبناناً يرفل بالعزِّ والعلم والحضارة والرّقي وبكل مباهج الحياة. ولمَ لا؟ ولبنان المُلقّب بسويسرا الشّرق أهل لأن يعود لهذا الّلقب مجدّداً.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button