آخر خبرمقال اليوم

  ثورة الجزائر وثورتنا المأمولة

أملُنا الحتمي بالمجتمع المدني العربي

غادة عيد*  ( الجزائر) 

اتفق المشاركون العرب في “منتدى تواصل الأجيال” الذي كان لي شرف المشاركة فيه، على أن يتفقوا. هذه واحدة من اللحظات النادرة في واقعنا العربي، التي يتفق فعلاً فيها العرب بعد عقود من الفتن والتفرقة، وبعد أن كان شعار:” اتفقوا على الاّ يتفقوا” قد بات مُلازما لكل تحرّك، وتجمّع وقمة ومبادرة حتى بلغ يأسُ الشباب العربي مداه.  

عُقد المنتدى في الجزائر بين ١٠ و١٥ أيلول/ سبتمبر الجاري بدعوة من “المرصد الوطني للمجتمع المدني” برئاسة عبد الرحمان حمزاوي وضم نخبة من الوجوه العربية المناضلة والناشطة في اوطانها من اجل الحرية والقضية الفلسطينية والهوية العربية وقضايا المرأة والحق في التنمية والتعليم والطبابة ومكافحة الفقر والفساد وقضايا عدة غيرها تدور في فلك حقوق الانسان والمواطنة والحكم الرشيد. 

ومن المُقرّر أن تُرفع توصيات المنتدى حول هذه القضايا، الى القمة العربية المقرر عقدها في الاول والثاني من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في الجزائر.

اعتراني في خلال التوجّه الى الجزائر للمشاركة في هذا المؤتمر المخصّص للمجتمع المدني العربي، كثير من الفضول للتعرف عن كثب على التطورات التي حققها الجزائريون بعد حراكهم في شباط/فبراير من العام ٢٠١٩ بالتزامن مع ثورة كنت في صلبها في لبنان في العام نفسه. 

حقّق المجتمع المدني الجزائري وبجدارة، ما لم يتحقق في لُبنان، فبعد النجاح بالإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، غصّت السجون هناك بمسؤولين من رتب عالية ومختلفة، من رئيس وزراء الى وزير وجنرال ومدير، وكثير غيرهم من أصحاب الصفات الرسمية والإدارية. تُهمة كل هؤلاء هي الفساد وإهدار المال العام والرشوة. تصلُ أحكامهم الى    خمسة عشر عاما سجناً، ناهيك عن مصادرة املاكهم واستعادة الاموال المنهوبة منهم.

أخبار السجن والمحاسبة واستعادة الأموال ونصرة المظلومين في الجزائر، أطربت أذني، وكانت مدار نقاشاتنا المستفيضة والحاملة كثيرا من الأمل ونحن في طريقنا بالبر من الجزائر الى وهران حيث يقام المنتدى.   

الحديث عن انجازات تحققّت في الجزائر جعل من الطريق الذي يستغرق أكثر من خمس ساعات سهل العبور. وقد أسعدنا أيضاً أن نرى طرقات هذه البلاد نظيفة ومعبّدة، فتزهو من حولها السهول الخضراء والمراعي والجبال والأنهر، وتكلّلها زرقة السماء الصافية، وابتسامات مرافقينا، ورفاقنا الجزائريين والعرب.

 دفعت الجزائر في تاريخها الحديث ثمناً باهظا للاستقلال المجيد. قدّمت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد على مذبح الوطن ولأجله. قالت لنا احدى المشاركات الجزائريات باعتزاز المنتصر والفخور ببلاده: “جدي شهيد ودمه يجري في عروقي …دماء الشهداء تجري حديثا في عروق ملايين الجزائريين”

يفتخر الجزائريون بشهدائهم وباستقلالهم المجيد المحقّق بتاريخ الخامس من تموز/يوليو عام ١٩٦٢ بعد استعمار فرنسي دام ١٣٢ عاماً. يذكُرُون شهداءهم بفخر واعتزاز عند كل محطة في الكلام والزمان. متحف الشهيد في الجزائر بناءٌ شامخٌ يُرى من كل مكان، وداخله ما تَقشعّر له الابدان من ويلات الحرب ومحطات الانتصار.

الجزائريون يفخرون بعروبتهم وتاريخهم في مجتمع متنوّع يضم العرب والأمازيغ ويجمعهم حول أهدافهم الوطنية، وذلك رغم مصطلحات اللغة الفرنسية الموروثة من التاريخ الجائر لاستعمار أراد طمس الهوية واللغة والثقافة. وهم ” ممانعون” لم ينسوا فظاعة الاحتلال ويتعاطفون بصلابة مع اخوانهم الفلسطينيين ومع قضيتهم المحقة. يتعاطفون مع لبنان وما آلت اليه احواله بعد ان كان منارة للشرق وقدوة في الحريات يحتذى بها. هم يعيشون حاليا جوا من الرضى العام على حكم رئيسهم عبد المجيد تبّون، ويحكون كيف أُقصي عندما كان رئيسا للوزراء لأنه كان مواجهاً ومعارضاً للصفقات والفساد وكيف انتُخبَ رئيسا بعد الحراك. ولا ينسى الجزائريون ان جيشهم كان السند الاول لهم في حراكهم. اما المؤشر الايجابي للحريات فيكمن اليوم في وجود من ينتقدون المتسلّقين على الحراك. وقد تمتعت وتعلّمت من المعلومات الهامة والمثيرة في الكتاب الذي أهداني إياه الكاتب والأستاذ الجامعي أحمد بن سعادة المقيم بين كندا والجزائر، ويفنّد فيه اجندات خارجية وكيف اختراق المجتمعات المدنية بمنظمات غير حكومية وتدخلات استخبارية عالمية، وكان نقاشنا معه ممتعا وغنيا في وهران بحضور الاعلامي اللبناني سامي كليب العالم والخبير بشؤون وشجون الدول العربية والذي كان مشاركا وصديقا وقريبا من الجميع اثناء المنتدى.

 كانت محطة الاستراحة في ولاية شلِّف اثناء الطريق من الجزائر الى وهران فرصة جيدة للتعرف على الزراعة والحرف الجزائرية من جهة وتبادل الأحاديث بين المشاركين العرب الحاملين هموم شعوب بلدانهم من جهة اخرى. وكان لبنان متصدرا تلك الهموم. كيف لا يكون كذلك، ونحن نعيش ازمات متتالية ومصائب ونوائب متنوعة قلّ نظيرُها في العالم؟ كيف لا يكون لُبنانُنا الجريح محور الأحاديث ونحن فقدنا الكهرباء والماء والدواء والطبابة وحتى الغذاء، بينما انهارت عملتنا الوطنية، وتبخّرت أموال المودعين في المصارف؟ كيف لا نصبح حديث الناس، والفقر   ينهش عظام العائلات اللبنانية التي تهاجر الى بلاد الله الواسعة فيغرق بعض خيرة شبابنا في مراكب الموت في البحار في موسم الهجرة الى الشمال.

كنا نروي ما نحن فيه، فيبدو الذهول والحزن والتعاطف على وجوه أشقائنا العرب، هذه حقوق بديهية للإنسان نص عليها ميثاق جامعة الدول العربية، فقتلتها المافيا السياسية والمالية اللبنانية.

 طلبتُ ان يصل الصوت في القمة الى الحكام العرب كي يحاسبوا اي حاكم لا يستطيع تامين ابسط الحقوق لشعبه ويخالف الميثاق.

كيف لنا ان نكون مقاومين لعدو إسرائيلي يتربص بنا ونحن نتعرض للفقر والذل والمرض أكثر فأكثر مع تقادم الايام فيما ثرواتنا تنهب من اعداء الخارج والداخل.

ردّدت هذا الكلام بانفعال لم أستطع لجمه في المنتدى الوهراني، وكرّرت ضرورة الاستمرار في المطالبة السلمية باسترداد حقوقنا، لكني في قرارة نفسي أشعر وأكثر من أي وقت مضى بغضبٍ لا يحدّه شيء، وبثورةٍ لا بُد أن تندلع بقوة وتطيح بكل من أوصلنا الى هذه الحال من الموت البطيء وهو يتفرّج علينا وما زال قادرا على تحريك النفوس الضعيفة أو الخائفة أو القلقة للتصويت له في كل انتخابات.

أيقنت في رحلتنا الجزائرية هذه، أن لا حل الاّ بالثورة الشاملة، وأننا لن نيأس مهما تكسّرت النصالُ على النصال، ومهما خاب أملنا من بعض الناس وبعض المعارضة، وصرت أكثر اقتناعا وقناعة بأن ” الحق يؤخذ ولا يُعطى”، وأن هذه الحكمة تصلح للُبنان ولمعظم دولنا العربية.  

 وفي ثورتنا هذه الإنسانية والأخلاقية، لا بُد من التلاقي والحوار بين المجتمعات المدنية العربية، لنفيد من تجاربنا المُشتركة، ونعرف كيف نجح من نجح في الحصول على حقوقه، ولماذا فشل آخرون، ذلك أن المجتمع المدني يبدو اليوم حاجة مُلحّة للإنسان العربي، كي ينهض من كبوته ويتجه مرفوع الرأس صلب العزيمة صوب حقوقه المشروعة. ونأمل أن تكون الجزائر التي نجحت في ثورتين، ثورة الاستقلال، وثورة الإصلاح، مُنطلقاً لإيصال صوتنا القوي من قلوبنا الجريحة.

مشكورة جهود الرئيس الجزائري ورئيس المرصد الوطني للمجتمع المدني وكل اعضاء المرصد الذين جعلونا نعيش الهم المشترك والحل المشترك والأمل المشترك لأوطاننا العربية.

يكفينا اننا التقينا في مؤتمر ناطق باللغة العربية لا غير، وبالهموم العربية بلا ادارة وتدَّخُل وسطاء الحقوق الاجانب ومنظماتهم ،على أمل أن يكون المجتمع المدني شريكا اساسيا في ادارات الحكم  في الدول العربية وفي صياغة قرارات  قمم جامعة الدول العربية كما يهدف منتدى تواصل الاجيال.

كبُرت قلوبُنا في ما رأينا في رحلتنا الجزائرية، وعمّنا الفرح والاعتزاز. لكن لم يناقض فرحتنا سوى تلك الغصّة المستمرة التي تجتاحنا ونحن نعود الى وطننا لُبنان.، لن اخفي الغصة الكبيرة التي اجتاحني، وكيف أن الفاسدين السارقين الذين قتلوا وشردوا وأفقروا وأحزنوا وأحبطوا شعبهم في وطني ،يُعاد انتاجهم حكاماً ، فيما العدالة تفترض زجهم في السجون واستعادة الاموال المنهوبة منهم…متى؟! لا بُد أن يأتي ذاك اليوم، وننجح، تماما كما نجح اشقاؤنا وأهلنا في الجزائر بجهد وشرف وكبرياء وبدون أي تدخّل خارجي.

الكاتبة: غادة عيد ، اعلامية وكاتبة وناشطة سياسية ،متخصّصة بكشف ومحاسبة الفساد والفاسدين في لبنان

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button