آخر خبرافتتاحية

                         بايدن بحاجة للتواضع في السعودية

 سامي كليب:

                 بعيدا عن تأكيده على ثوابت العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وعن إعطائه حبوب الوهم المُهدئة للجانب الفلسطيني، فإن المحطّة الأهم في جولة الرئيس الأميركي جو بايدن الى الشرق الأوسط ستكون بلا أدنى شك في السعودية. فهو سيجدُ فيها على الأرجح لُغةً مُختلفة عمّا عرفته العلاقات الدبلوماسية بين البلدين مُذ تأسست عام 1933 والتي شهدت عبر ذاك التاريخ الطويل، فتوراً قليلا، وثوابت تحالفية كثيرة.

      ربما علينا الخروج قليلا من التحليلات الممجوجة التي درج عليها كثيرٌ من المُحلّلين العرب، والذين توارثوا وردّدوا ببغائياً، فكرة وحيدة مفادُها ان دول الخليج تنصاع لواشنطن مهما كانت سياستُها، وإنها لا تُمثّل بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة سوى خزائن المال وآبار النفط.

 الواقع أن السعودية التي تضم نحو 35 مليون نسمة وسوقا اقتصادية ضخمة وتشهد تحوّلات اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية طموحة، تملك وفق احصائيات مجلة ” ستاتيستا” الألمانية للعام 2020، ثاني أكبر احتياطي نفطي مثبت في العالم بنحو 267.1 مليار برميل، أي ما نسبته 17.2% من الاحتياطي العالمي النفطي، ما يعني أنها مع فنزويلا تملكان تقريبا ثلث الاحتياطي العالمي المُثبت (وهو يختلف طبعا عن المتوقّع أو المُحتمل).  

على أهمية هذه الثروة الباطنية الهائلة والتي ظهرت الحاجة الأطلسيةُ اليها بقوة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن الأهم منها حاليا، هو الموقع الجغرافي للسعودية والذي يُمثّل حلقةً كبيرة الأهمية بالنسبة للمشروع الصيني العتيد ” الحزام والطريق” بغية إحياء طريق الحرير.

ولو عدنا قليلا الى الوراء، سنجد أنه فيما كان العالمُ غارقاً بتبعات الغزو العراقي للكويت، وبمؤتمر مدريد للسلام، وبتفكك الإتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت الرياض تنسجُ، وبعيداً عن الأضواء والضجيج، علاقاتٍ استراتيجية مع الصين التي ما كان كثيرون يعيروها اهتماما في ذاك الوقت.

فإذا كانت أول معاهدة صداقة بين الرياض وبكين، وُقِّعت في خريف العام 1946، ثم توقّفت العلاقات بينهما لنحو 20 عاما من 1949 حتى 1979، فان تلك العلاقات شهدت زَخَماً كبيرا مع اتفاقية التفاهم والشراكة السياسية التي تم توقيعها في مثل هذه الأيام الصيفية من العام 1990، ثم تسارعت الخطوات لتشهد تبادل 16 زيارة وعدداً مُهمّا من الاتفاقيات التعاونية، ووصل الأمر بالملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز للقول بعد زيارته بكين في العام 1998 إنها باتت “افضل صديق” لبلاده، ثم زار الرئيس الصيني الرياض مُكلّلا جملة من الاتفاقيات في العام 1999،  وهو ما أكمله بعمقٍ أكبر وبتوسيع أشمل لقاعدة الشراكة والتبادل ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز في العام 2014  حيث ارتفع التبادل مُذّاك الى نحو 75 مليار دولار سنويا، ويستمر بالنمو المضطرد حتى يكاد يقارب 90 مليارا، ولا شك ان التاريخ سيذكر أنه في عهد الملك سلمان ونجله الأمير محمد ترسّخ موقع السعودية كشريك استراتيجي واقتصادي أول للصين في المنطقة.

باتت السعودية دولة مركزية في الاستراتيجيات الصينية على طريق الحرير، ولكن أيضا في التنافس الدولي الآخذ بالتوسع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.  

لو نظرنا الى البيانات الاقتصادية الرسمية للصين، نجد أن إجمالي تجارة بكين مع الدول العربية مجتمعة بلغ في العامين الماضيين نحو 332.2 مليار دولار. استحوذت السعودية وحدها على أكثر من ربع التجارة العربية مع الصين، وكانت أكبر شركاء بكين التجاريين بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث بلغ حجم تجارة الصين مع السعودية في العام 2021 نحو 87.3 مليار دولار، وجاءت الإمارات بالمرتبة الثانية بحجم تبادل تجاري بلغ 72.4 مليار دولار، وثالثاً العراق بـ37.3 مليار دولار.

 هذا يوضح أن السعودية والإمارات وحديهما تستحوذان على نصف التجارة الصينية مع الدول العربية.

تتوافق المشاريع الصينية المستقبلية تماما مع الخطة السعودية الطموحة المعروفة باسم “رؤية السعودية 2030” والهادفة الى التخطيط لحقبة ما بعد النفط، وتنويع مصادر الدخل والاقتصاد وعدم التبعية للذهب وغيره. وهو ما يتطلب تعاوناً تكنولوجيا كبيرا بين الجانبين، ولكن أيضا تنسيقا كبيرا عبر البحار، والمعابر المائية، والجوية والبرّية.

كان لافتا في هذا الصدد أن الصين أكدت غير مرّة وخصوصا حين استقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ الأمير محمد بن سلمان في بكين في العام 2019، على رغبتها بدمج مبادرة ” الحزام والطريق” أو ما سُميّت أيضا ب ” طريق الحرير الجديد” التي أطلقها بينغ في العام 2013 مع ” رؤية السعودية 2030″، فالاستثمارات المتوقّعة بين الجانبين ستكون هائلة خصوصا ان مبلغ يفوق ألف مليار دولار مرصودٌ لطريق الحرير العتيد.

تسمح هذه العلاقات الوطيدة والواسعة والعميقة بين الرياض وبكين، ليس فقط في ترسيخ دعائم اقتصاد وسياسة البلدين، ولكن أيضا بإحداث توازن خليجي مع العلاقات الصينية الإيرانية التي وصلت الى مرحلة استراتيجية، وبتنويع العلاقات الدولية للخليج ما يجعل الجانب الأميركي أكثر حاجة من أي وقت مضى لأن يعيد تقيّم كل أسس علاقاته مع السعودية والامارات وغيرهما، فلا يأتي مُلقِّنا دروساً  بالحريات والديمقراطية ( وهو أي الأميركي خرقها عشرات المرّات في معظم دول العالم) وطالباً المال والنفط، وإنما يأتي بتواضع أكثر وبواقعية تفترض أن دول الخليج التي خذلتها واشنطن في أكثر من مناسبة أمنية وسياسية تريد شُركاء حقيقيين يحفظون مصالحها كما تحفظ مصالحهم، وما لم تقبل واشنطن بذلك فالبدائل موجودة من الصين وروسيا الى باكستان وغيرها. وقد ظهر الأمر جليا في موقفي الرياض وأبو ظبي حيال الحرب الأوكرانية.

سيحاول بايدن لا شك في إسرائيل التي يستهل بها جولته المجتزأة، أن يلعب على وتر الأمن والاتفاق النووي والناتو العربي والمصالح المُشتركة وغيرها، لكن يبدو أن السعودية قد أعدّت ملفاتِها جيدا، وقد يسمع فيها كلاما مُختلِفاً تماما، إن لم يأتِ متواضِعاً في وقت تحتاج بلاده والأطلسي وأكثر من أي وقت مضى علاقة جيدة مع السعودية والخليج. فقبل الزيارة هدّات السعودية حرب اليمن وتحاورت 5 مرّات مع إيران وتصالحت مع تُركيا التي أقفلت معها ملف جمال خاشقجي، ووسّعت جدا إطار علاقاتها مع الصين.

سيكون بايدن أمام احتمالين في السعودية، إما التواضع وإعادة الحرارة للعلاقات والحفاظ على مصالح بلاده الضرورية جدا في هذه المرحلة من الحرب الأوكرانية، أو العنجهية والقاء الدروس وتجاهل الأمير محمد، ما يعني فشل الزيارة وهو ما سيزيد حتما فرصة الجمهوريين لانتزاع معظم مقاعد البرلمان في الانتخابات النصفية قريباً. يكفي ان نلقي نظرة على مقالات الكُتّاب السعوديين القريبين من العرش، لندرك عمق الاحتقان السعودي من الزائر الأميركي. 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button