
ماذا يفعل برّي لانتخاب فرنجية رئيسًا للبنان؟
سامي كليب:
علّمتنا تجاربُ التاريخ الحديث في لُبنان، أن أكثرَ المُعارضين لأمرٍ يُصبحون أكثر المؤيّدين له، والعكس صحيح. قلّما كانت المبادئ أهمَّ من المصالح في بلاد الأرز. لعلّ هذا ينطبق تمامًا اليوم على الترشيح المُعلن لميشال معوّض والترشيح العتيد والمنتظر لسليمان فرنجيّة. فكلّما ارتفع المنسوب الكلامي عند البعض في تأيّيد معوّض، ارتفع استعدادُ هذا البعض لاحقا للدخول في تسوية لصالح فرنجيّة والتخلّي عن مُرشّح المُعارضة.
من لديه شكٌّ في ذلك، ما عليه سوى مُراجعة ما حصل بين قوى 8 و 14 آذار في أوجِ اشتباكهما، وقبل الاتفاق في الدوحة على انتخاب قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية بمباركة عربيّة وفرنسيّة ودوليّة وتحفّظٍ ثم تأييدٍ أميركيين.
ما يُقال في العلن لا علاقة له مُطلَقًا بما يجري في كواليس ودهاليز السياسة والدبلوماسية. لو نطقت حيطان مقرّ الرئيس نبيه برّي في عين التينة، لفاجأت الجميع بمضمون تلك اللقاءات التي كان يعقدُها رئيس المجلس مع الأطراف العربيّة والدوليّة والتي كانت في العديد من المرّات تشهدُ مُعارضةً سعودية أو مصريّة او من جامعة الدول العربيّة لطروحات فريق 14 آذار ومنها على سبيل المثال لا الحصر تمسّك هذا الفريق بانتخاب الرئيس على أساس النصف زائد واحدًا. اليوم ثمة أمورٌ مُشابهة تحصُل خصوصًا قبل وبعد رفعِ أمين عام حزب الله لهجتَه مُطالِبًا بمُرشّح ” يحمي المقاومة ولا يطعنها”. تتكثّف الاتصالات، وبرّي يغربل.
في الرواية المُهمّة التي ينقلها الزميل نبيل هيثم عن رئيس المجلس في كتاب ” الثقب الأسود”، نلمس الأهميّة التي يُعلّقها برّي على صديقه وحليفه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في قلب عددٍ من المُعادلات السياسية، فيقول مثلا (ص 331) :” لعلّ التطور الأبرز آنذاك، كان الانقلاب الذي قام به وليد جنبلاط على فريق 14 آذار ، وكان من شأن هذا الانقلاب أن أخرج هذا الفريق من الحكم، وتمَّ تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011، وانتقل فريق 14 آذار الى المُعارضة”. ويروي برّي الكثير ممّا حصل بين الصديقين في خلال وبعد يوم اجتياح بيروت في 7 أيار عام 2008 من قِبَل حزب الله، فيقول إنَّ جنبلاط اتَّصل به طالبًا ان ينقل للسيد حسن نصرالله بأنَّ :” الخصومة بيننا مؤقّتة وأنّ جبل لُبنان سيكون سندًا للمقاومة وستكون بيروت حاضنة للمقاومة ولا بدَّ من الاجتماع والحوار لوأد الفتنة”
وحين انتهى عهد الرئيس ميشال سليمان الى فراغٍ يُشبه ما انتهى اليه عهد الرئيس ميشال عون حاليًا، قال نبيه برّي:” إن السبيل الأسلم لإتمام الاستحقاق الرئاسي بشكل سريع وعلى أرضيّة توافقيّة، ينبغي أن يمرّ بواحد من معبرين إلزاميين (لاحظوا التشابه مع ما يحصل اليوم):
- الأول: حوار مباشر بين العماد ميشال عون والوزير سليمان فرنجية، يتّفقان من خلاله على من يكون الرئيس بينهما، باعتبار أنَّهما الوحيدان في نادي المُرشّحين للرئاسة الأولى.
- والثاني: الدخول في حوار وطني، يؤدّي الى تسوية داخليّة شاملة وليس تسوية محصورة برئاسة الجمهورية فحسب.
يتابع برّي: لم أُخرج من حسابي آنذاك أنَّ ثمّةَ عاملًا أساسيًّا من شأنه أن يمكّننا من العثور على مفتاح الحل الرئاسي، يقع على الخط السعودي الإيراني. لقد كنتُ على يقين بأن التقارب السعودي-الإيراني من شأنه أن يساعد اللبنانيّين على وضع الأمور والمشكلات والتعقيدات كلّها على سكّة التهدئة والحلول”.
لم يُخفِ نبيه برّي يومًا تأييدَه لترشيح سليمان فرنجية، فحين دعم حليفُه حزبُ الله ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري وصولَ العماد ميشال عون الى الرئاسة، قال هو بصراحة ولعون نفسه، إن مُرشّحه هو سليمان فرنجية وإنه لن يصوّت لعون.
التاريخ يُكرّر نفسه، ولو تفاهم اليوم جبران باسيل مع سليمان فرنجية تُحسم الرئاسة بدقائق لصالح فرنجية، ولو تفاهمت إيران والسعودية (ومن خلفهما رُبما سوريا) بغطاء فرنسي-أميركي، تُحسم الرئاسة. لا شكّ في أنّ الرئيس برّي يُفضّل ألَّا يكون لباسيل الذي تناصب وإياه العداء أيُّ دورٍ في ذلك، لكنه يعرف مرّة ثانية أن المرحلة بحاجة لتدوير الزوايا، وهو على الأرجح يعمل على كثير من الخطوط العربية والدولية، ويسعى لإقناع صديقه جُنبلاط مُجدَّدًا بالسير في قطار انتخاب فرنجية. وهذا سيحصُل حتمًا لو كانت المؤشّرات السعودية والفرنسية ايجابيّة، أو يطول الفراغ أكثر من المتوقّع.
ثمة نقطة هُنا قد تكون مُهمّة وتبقى بعيدة عن التداول، ومفادُها أن فرنجية، وحتى لو كان مدعومًا من حزب الله، الاّ أنه يبقى خيارًا أقرب الى سوريا والعرب من إيران وأن علاقاته الدولية جيدة، ولعلّ هذا ما تفهمه تمامًا السعودية، وهو ما يُفسّر لفتة حضور فرنجية الى احتفال اليونيسكو.
حين نضجت طبخة الاتفاق على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا والتي تولّتها قطر وأبلغ السفير السعودي في بيروت الرئيس برّي تأييدَها، صار انتخاب سليمان أمرًا واقعًا، ويقول رئيس المجلس النيابي في مذكّراته:” أذكر هنا، أنّ العماد ميشال سليمان اتّصل بي وأنا في الدّوحة، وكنّا قد توصّلنا الى الاتفاق، واستفسر منّي عن مسار الأمور في الحوار، فقلت له:” يلاّ عجّل حضرة بدلة مدنيّة”
ربما لن يتأخّر الوقت الذي سيتصلّ به برّي بفرنجية قائلا:” حضّر البدلة”، بعد ان يكون تمّ الاتفاق ليس على شخص الرئيس فحسب، بل أيضا على الحكومة ورئيسها وشكلها ومشاركة معظم الأطراف فيها( فهذه الأمور حاليًا تبدو أيضًا بأهمية الرئاسة نفسها). هذا طبعًا إذا لم تحدث مفاجأة كُبرى سياسيّة أو أمنيّة تقلب كل المعادلات. وهذا طبعًا أيضًا إذا كان باسيل قد اقتنع فعلاً بأنه لا يتمتّع بأي فرصة هذه المرة للوصول الى الرئاسة.
أمّا السؤال الأهم حاليًا: هل في جُعبة برّي إسمٌ آخر لخطة بديلة (Plan B ) في حال فشلت التسوية بشأن فرنجيّة؟ تجارب التاريخ الحديث تقول نعم، لكنه حتمًا لن يقبل بمن يرفضه حزب الله، مهما كلّف الأمر. والحزب لن يضّحي بالعمق الشعبي الذي ضمنه له التيار الوطني الحرّ مهما كلّف الأمر. لذلك فالأمور على الأقل حتى الساعة ليست سهلة والفراغ مرهونٌ بتسوياتٍ خارج الحدود، لكن سليمان فرنجيّة يبقى الأكثر ترجيحا..