آخر خبرمقال اليوم

 في لُبنان مُطبِّعون بلا تطبيع…مَن المسؤول؟  

سامي كليب:

ماذا ستكون نتيجة تصويتٍ شعبي سرّي على السؤال التالي: هل تقبل التطبيع مع إسرائيل؟ لا ندري تماماً، لكن النتيجة رُبّما ستكون مفاجئة بحيث نجد في لُبنان، نسبة قابلة التطبيع، تفوق ما هي عليه في الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل وفي مقدمها مصر، حيث ما زال تنقّل الإسرائيليين في شوارع القاهرة وأحيائها ومناطقها شبه مستحيل وكبير الخطورة، وما زالت النقابات الثقافية والفنيّة وغيرها تُعاقبُ أو تطرد كلّ من يُطبّع ثقافيا.

قد تختلف النِسب وفق المناطق اللبنانية، بحيث تعلو كثيرا في منطقة وتنخفض في أخرى، لكنها على الأرجح ستكون مُختلفة تماما عمّا كان عليه الشأن قُبيل وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لُبنان مُصطحِباً الذين تعاملوا معه في الجنوب ونكّلوا بأبناء شعبهم، وسط تبريراتٍ كثيرة آنذاك تُشبه تماما تلك التي استخدمتها حكومة ” فيشي” الفرنسية حين تعاملت مع الاحتلال النازي الألماني. كانت ذريعة الحكومة الفرنسية العميلة أنها تُريد إنقاذ فرنسا من الحرب وتخفيف التكاليف وإطلاق سراح السُجناء، فكانت النتيجة وفق وثيقة فرنسية شهيرة أن فرنسا أُلزمت بدفع 37% من ثروتها للرايخ الألماني، وقدّمت مئات ألاف العمّال للسُخرة في المصانع والكثير من موادها الأولية، وأكثر من 60 ألف جندي للقتال مع النازيين، وسيق اليهود الفرنسيون الى المحارق ومعتقلات الموت، ناهيك عن نحو مليوني جندي فرنسي بقوا مسجونين حتى الهزيمة. وهي صورةٌ تكرّرت ولو بنسبة أقل بكثير مع انسحاب الأطلسي المُذلّ من أفغانستان مؤخراً ومحاولة المتعاملين معهم التعلّق بسلالم الطائرات والشاحنات للهروب.

يكفي اليوم أن نقرأ وسائل التواصل الاجتماعي في لُبنان، وما بين بعض سطور التصريحات السياسية، وندخل منها الى الخزعبلات المتعلّقة بالاحتيال السياسي في مسألة ترسيم الحدود البحرية (رغم الجهد الكبير والمحمود والشجاع الذي قام به الوفد العسكري المفاوض)، وصولا الى الصدام السياسي الكبير بين محورين أو أكثر على أرض لُبنان، لنفهم ونعترفَ بأن ثمة مناخاً جديداً دخل الى قلب الوطن حيال مسألة التطبيع، وهو بالمناسبة القلب الوحيد الذي احتلته إسرائيل بعد فلسطين حيث وصلت الى بيروت. وهو أيضا القلبُ الذي انطلقت منه مبادرةُ التطبيعٍ الأكبر عربيا  من خلال القمة العربية في العام 2002 والتي ردّ عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به.

ما الذي تغيّر؟

  • يعتقدُ بعضُ اللُبنانيين أن التطبيع هو الذي سيُنقِذُهُم من الجحيم الاقتصادي، ويضع لُبنان على سكة الدول الحديثة والعصرية التي تنعم بالرفاهية. رغم أن جُزءا لا بأس به من هؤلاء اللبنانيين أنفسهم أعاد انتخاب من قتل الاقتصاد بالفساد وقتل الدولة بالمحسوبيات وأنهك الشعب.
  • يعتقد البعضُ الآخر أن الميلَ صوبَ التطبيع هو الذي يحشُر حزب الله وسلاحه ومن خلفه إيران في الزاوية، انطلاقا من فكرة أن الحزب هو الذي ساهم بالانهيار الاقتصادي وغطّى فاسدين، وان سلاحه وانخراطه في جبهات عربية خارج حدود لُبنان دمّر الجسور بين لُبنان وعمقه العربي، وألبَّ المُجتمعات الغربية عليه فعاقبته أو حاصرته أو امتنعت عن مساعدته اقتصادياً.
  • يعتقدُ البعضُ الثالث أن المناخَ العام في المنطقة الذي تظهّر أكثر في عهد الرئيس دونالد ترامب والذي ترافَقَ مع صفقة القرن والاتفاقات الابراهيمية، يجعل كلّ من يُناهض التطبيع في لُبنان في موقع المُتهم بأنه إيراني أو فارسي أو خاضع لحزب الله، وأن من يرفع لواء محاربة الحزب، سيحصل على رضى عربي ودولي واسع وتُفتح أمامه أبوابٌ كثيرة بالسياسة أو الاعلام او الاقتصاد.
  • يعتقد البعض الرابع أن ثورة التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، غيّرت كثيرا في اتجاهات وهموم الشباب العربي (وسط غرق ثلثه بالبطالة). صار الشباب العربي يصبّ جلّ اهتمامه على قضايا واتجاهات كثيرة ابتعدت جداً عن مركز الصراع الأصلي، أي فلسطين، وان هذا الشباب العشريني (في لُبنان) والثلاثيني في الدول العربية لم يعرف الحروب سوى ما بان منها في غزة، وكان جزءٌ منه عاتبا أو حاقدا على حركة حماس، فلم يتأُثر كثيرا بما يجري.
  • يُحمّل البعضُ الخامس حزب الله المسؤولية على أساس أنه احتكر المقاومة في بيئة شيعيةٍ وبدعم إيراني، وحرم أو منع بالتالي المقاومات القديمة في لُبنان من يسارية وقومية وعروبية من التحرّك في محيطه الجغرافي من الجنوب الى البقاع، فلا بأس لو ارتفعت أصواتٌ ضده تُطالب بتسليم سلاحه للضغط عليه سياسياً، حتى ولو ان هذه الأطراف ما زالت مؤمنه بمقاومة الاحتلال.
  • يرى البعضُ السادس أن مجرّد أن تكون الولايات المتحدة الأميركية هي التي تُقدّم للجيش اللبناني 80% من المساعدات الخارجية، فإن ذلك من شأنه مع الوقت تعديل نظرة المؤسسة العسكرية الى ” السلام” في المنطقة والى الصراع مع العدو، خصوصا ان قسماً كبيراً من اللُبنانيين يعتبر أن على الجيش أن يكون صاحب القرار العسكري الأول على الأرض وعند الحدود، وليس أي طرفٍ آخر.
  • يقول البعض السابع، لماذا محور المقاومة يُهاجمُ من بيروت الدول التي طبّعت، بينما نرى أن إيران رفعت نسبة تجارتها مع الامارات العربية المُتحدة بعد التطبيع، والرئيس السوري بشّار الأسد زار الإمارات وأعاد تبادل السفارتين أيضا بعد التطبيع؟ والفلسطينيون طبّعوا منذ اتفاق أوسلو عام 1993، وذلك فيما روسيا التي قاتلت والمحور على الأرض السورية هي أكثر من يرفع لواء إعادة فتح التفاوض الإسرائيلي السوري؟
  • يضاف أيضا البعض الثامن الذي يدور في مناخ سياسي وفكري قديم ويتجدّد بين فينة وأخرى، يعتبر أن إسرائيل أفضل من الفلسطينيين والسوريين والإيرانيين وحزب الله وغيرهم..

كلّ ما تقدّم قد يكون مُبرّرا عند أصحابه، لكن الجديد في الأمر، هو أن النظرةَ الى إسرائيل ما عادت بالنسبة لأطراف لُبنانية، مستندة الى صراع ديني أو عقائدي أو أيديولوجي، ولا هي تنطلق من منطلقات سابقة حول أن في إسرائيل ” نظاماً عُنصُريا” يُشبه نظام الابارتهايد. ولم يعد التطبيع هو المرفوض عند جزء لافت من السياسيين، وإنما يجب تحديدُ شروطِه وتوقيتِه، فالبعض يرى أن ذلك مُمكنا بعد الانسحاب من شبعا وتلال كفرشوبا مع ضرورة التوضيح رسمياً هل مزارع شبعا لُبنانية أم سورية؟ والبعض الآخر يعتقد أن ترسيم الحدود البحرية هو بداية التطبيع، والبعض الثالث وهو الأقل حضورا في التصريحات الرسمية يرى أن لا تطبيع مع العدو قبل حل القضية الفلسطينية.

لو اختصرنا هذه الأسباب سنجد أن الأزمة الاقتصادية وسلاح حزب الله هما الذريعتان الكُبريان للميل صوب التطبيع. وهنا نجدُ تفسيرين متناقضين:

  • فحزب الله يقول إن كل هذا هو نتيجة حملة مُمنهجة ضدّه منذ هزم إسرائيل في العام 2006 واعترفت بذلك في تقرير فينوغراد، ومنذ ساهم بتعديل مناخ المنطقة لصالح محور المقاومة بقيادة إيران، ومنذ وقف ضد اسقاط النظام السوري، وساهم في هزيمة داعش والنصرة وغيرها، ومنذ ساعد الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق، ودعم سياسيا وماليا وعسكريا المنظمات الفلسطينية المُقاتلة على أرض فلسطين.
  • لكن بالمُقابل ثمة من يعتبر أن الحزب نفسه تعامل بفائض القوّة العسكرية حتى ولو انه لم يستخدمها في الداخل الا في 7 أيار 2008، وبفائض القوة السياسية بعد أن صار حجر الرحى لكل التركيبات السياسية، بحيث يستطيع أن يُسهّل أو يُعيق أي قرار، وبفائض القوة الديمغرافية بحيث يستطيع ان يشجّع أو يقمع أي انتفاضة شعبية.

يقول هؤلاء إن الحزب بحاجة الى إعادة نظر نقدية عميقة بكل تجربته، ذلك أن نجاح الدعاية السياسية ضده، ما كان ليتحقّق لو أنه وضع خطةً وطنية حقيقية لمكافحة الفساد ونفّذها بدلا من التذرّع بالإحراج حيال حلفاء ، ولو عرف كيف يُطمئن اللبنانيين (بمن فيهم العروبيون والقوميون واليساريون المقاومون)، ولو أن أمينه العام السيد حسن نصرالله حصرَ خطاباته كلّها بالصراع مع العدو الإسرائيلي، ولم يزجّ بها في أتون الصراعات العربية ويتولّى بنفسه مهاجمة هذه الدول أو تلك أو الرد على الهجمات.

هذه واحدة من الحالات النادرة في العالم، التي تنتصرُ فيها مقاومةٌ على عدوٍ شرس، لتجد نفسَها بعد سنوات في موقع المُتَهَم وتفقد جزءا مُهماً من عُمقها الشعبي. ويخسرُ بعضُ حلفائها الانتخابات بتُهمة التحالف معها.

خلاصةُ القول

إن أمرين مطلوبان اليوم: أولهما أن يُفكّر المتحمّسون للتطبيع بمصلحة بلدهم والا يتحوّلوا الى ما يُشبه حكومة فيشي الفرنسية فقط لأنهم مناهضون لسلاح الحزب وإيران،فاذا كان التطبيع ينفع فليقدّموا المُبرّرات المُقنعة وليفتحوا نقاشاً حقيقياً وصريحاً، وثانيهُما أن يُجري الحزب نقدا ذاتيا عميقاً لأن المُكابرة والتهديد والوعيد في الداخل أمورٌ تُساهمُ في إضعافه وليس في تعزيز قوته، حتى ولو انه يقول إنه يلجأ الى التهديد بعدما ” طفح الكيل”. 

يجب أن يُفكّر كلّ اللبنانيين، وفي هذه اللحظة بالضبط، التي انهارت دولتهم، ونهضت دولٌ أخرى، وفيما وضعت إسرائيل اللمسات الأخيرة على استخراج الغاز، بمصلحة بلدهم وشعبهم، لأن هذا التفكّك المُريب والصراع فوق جُثةٍ الوطن، لن يُنقذ اقتصاداً بالتطبيع، ولن يبني دولة بالسلاح. وأكثر ما فرحت فيه إسرائيل تاريخيا هو حين ينخرُ السوس المجتمعات المحيطة بها.   هو السوسُ نفسه الذي دفع الفلسطينين للتطبيع عبر أوسلو اعتقادا منهم بثماره اليانعة وخيراته العميمة، ثم غرقوا بصراع الداخل المرير الذي لا يعرف غير الله متى ينتهي بينهم، فيما شبابُهم يقاوم المُحتل بلحمه الحي.   

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button