آخر خبرثقافة ومنوعات

ميساؤنا هزمت السرطان بحُبّ الحياة وكتاب

سامي كليب

اعتدتُ أن اناديها ” ميساءنا”، وهي تضحك كُلّما سمعت اسمها هذا، تماما كما ضحِكت على كلّ الوجع الذي اخترق عظامَها مئات المرّات منذ اجتاح السرطانُ جسدها النحيل، ثم تمدّد بخُبثِه في كل الخلايا. تعرّفتُ عليها في لقاء مع أصدقاء على شاطئ البحر، كانت هُناك بوجهِها الملائكي الى جانبِ زوجها وابنها وأهلِ زوجها الذين تربِطُني بهم علاقةُ أخوّة منذ سنين طويلة، تسمعُ كثيرا وتنطقُ قليلا، ولو قالت شيئا، فيكون في مكانِه الصحيح.

ما أن انتهى يومُنا الجميل على ذاك الشاطئ الساحر، ومالت الشمسُ صوب الغيابِ تاركة خلفَها بعضاً من لونها البُرتُقالي فوق البحر، حتى اقتربت منّي ميساء تسألُني إن كنتُ استطيعُ مساعدَتها لإنجاز كتابٍ عزيز عليها. وقبلَ أن أطرح أسئلتي عن الكتاب ومضمونه قالت:” أنا مصابةٌ بالسرطان وهو تفشّى في كل جسدي مؤخرا، وأريد أن اكتب ليس عن الوجع ولا الحزن وإنما أرغب بإعطاء أمل لمن هُم في مثل حالي، وأريد أن يقرأ إبني الوحيد قصةَ أمّه بقلمِها وكما هي”.

اعتدتُ في حياتي على الصدمات في حرب لُبنان والحروب التي غطيّتها كمُراسلٍ حربي، لكن ثمةَ مشاعرَ إنسانية لا تطمسها التجربة، ولا تُلغيها المصائب، ولا تحجبُها الخبرة. ثمة لحظات تشعُر في خلالها بأن دمعتَك عصيّةً على الكبتِ في المآقي، فتخترع عباراتٍ فارغة وعديمة المنطق لتملأ الفراغ الكلامي وتقمع الدمع وتُكمل الحوار.

ابتسمتُ لها بقدرِ ما استطعتُ الابتسام، وقلت:” إني آسف لما أصابَك، وسوف يُسعدُني أن اساهم في هذا الكتاب الذي لا شك سيكون كبيرَ الأهمية وعميقَ الرسائل”، ودون أن أطرح أسئلة أخرى، اقترحتُ عليها أن تُرسل الكتاب على مراحل وفي كلّ مرة أدقّق بعضَه واعيدُه اليها.

قرّرتُ في تلك اللحظة بالضبط، أن أوقِفَ كلّ كتاباتي وأجمّد تأليفَ كتابٍ عن مُستقبلِ الوطن العربي، كي أتفرّغ كُليّا لكتابِها، وكأنما القلقُ اجتاحني من أن ترحلَ عن هذه الدُنيا قبل انهاء وصيّتِها. أو هكذا اعتقدت.

وصلتني الصفحاتُ الأولى، فحزنت وضحكت، وتعبتُ وفرحت، وشعرتُ بالألم ثم اجتاحني الأمل. كانت عباراتُها الأولى مكتوبة بحبر القلب والوجع والحب والأمل، لكنها كانت أيضا مكتوبة بالعاميّة لا بالفُصحى. فاقترحتُ عليها أمرين أولُهُما أن نلتقي ونتحاور وتُخبِرني عمّا ستكتب لعلّ في أسئلتي ما يجعلها تتذكر تفاصيل أكثر فنُغني الكتاب ونُثري الأمل، وثانيهُما ان تكتب بالفُصحى كي يكون انتشارُ الرسالة أوسع في لُبنان وخارج حدود الوطن المُصابِ أصلا بمليون سرطان سياسي واجتماعي واقتصادي.

وصلَ القسمُ الثاني بالفُصحى وفيه أخطاء، ثم القسم الثالث بالفُصحى بأخطاء نادرة، ثم الرابع وكل الأقسام التالية بلا أخطاء، فهالني تطورُها السريع وقدرتُها على التعلّم، وهذا ليس غريبا عليها، ذلك أنها بذكائها الحاد وسرعة بديهتها وقدرتها على التعامل مع كل الظروف، كانت من بين أصغر وأشطر الموظفات في القطاع المصرفي في لُبنان.

اكتشفتُ ان فكرةَ الكتابِ أوسع من مجرّد رواية شخصية لقصة قد تُشبه قصصا كثيرة، فالكاتبة تُريد أن تقول للنساء أولا ولكل انسان ثانيا، أن الصمتَ يزيد السرطان ويُفاقم الأمراض، وأن الكبتَ الكلامي وقمعَ حُرية التفكير والتعبير يوُهنان الجسدَ ويُضعفان المناعة، فهي مقتنعة بأن والدتَها التي رحلت بالسرطان، كانت تستطيع أن تعيش بطريقة أفضل وبجسد أكثر سلامة لو أنها قالت ما شعرت به وما عانت منه.

كُلّما التقيتُها، وفي كل حالاتها من النشاط أو التعب، بقيت الابتسامةُ راسخةً على ثغرِها، والأمل يملأ قلبها، وكانت وما زالت تتحدث كأنها ستعيش طويلاً كأي انسان عادي، لا بل وأكثر من أي انسان عادي، فليس التشخيص الطبّي هو المهم، وانما الأهم هو ما في القلب والعقل والعزيمة والإرادة والرغبة في تشجيع النساء وكل من يُصيبه مرضٌ عضال أو خبيث بأن يحكي ويزيل الأقفال عن عقله وقلبه ويزيح الأقنعة، لأن حرية الفكر والقول هي في جوهر الشفاء .

الغريب والجميل أيضا، هو أنه كلّما تقدّمنا بالكتاب، كانت صحتُها تتحسن، وتعلّقها بتفاصيل هذه الحياة يزداد، والتخطيط لمشاريع السنوات المُقبلة يتوسّع.

وهنا أريد التنويه بصديقين ساهما أيضا في جعل هذا الكتاب أجمل، وهما الشيخة والروائية ليندا أبو مجاهد التي حرصت على التدقيق اللغوي بكل حُب واهتمام، والمصور اللبناني العالمي ماهر عطّار الذي اهتمّ بتصوير ميساء ليعكس روحَها على وجهها، وهمّا قدّما هذا الجهد بلا مُقابل لقناعتِهما بأنهما يُساهمان برسائل هذا الكتاب التي تُعطي الأمل لكل مريض سرطان ولكلّ انسان مقهور ومُعذّب في هذه الدُنيا ويستطيع وقف ذلك أو على الأقل التخفيف منه.

اليوم أخبرتني ميساء أن الكتاب صدر وهو بعنوان ” كان سرّا” وهي عبارة لها بُعدان أولهما أنها اشتقاق من CANCER وثانيهُما تأثيرُ صمتِ الاسرار على صحة الانسان، وارسَلت معه صورا لها من المستودع (الصورة المُرفقة).  كانت فرحتي بصدورِه أكثر من تلك التي شعرتُ بها في خلال صدورِ كتابي الأول. تذكّرت كل التفاصيل والقلق والأمل الذي رافق مغامرتَنا الأدبية هذه، والتي يعود الفضلُ فيها فقط الى عزيمة وإرادة ميساء وحبِها للحياة ويقينها بأن الله يُعطينا بقدر ما نجتهد.

وسنقيم بإذن الله، احتفال التوقيع في الشهر المُقبل، لكن الكتاب وابتداء من الغد سيكون متوفّرا في المكتبات، أو يُمكن طلبُه من على مواقع ميساء المذكورة أدناه.  

وقد كتبت ميساؤنا على غلافه الأخير التالي:

لا أعرف يا عزيزي القارئ إذا كنت ستقرأ كتابي هذا وأنا على قيد الحياة أم لا. فأنا قرّرت أن أعيش واتمتع بالحياة مع ابني وعائلتي لسنوات طويلة، وأنا مُدركةٌ تماما أن الله قد بعث من خلالي رسالة الى كل من حولي لتعلّم الصبر والتمسك بالإيمان والتأكد من أن قدرة الخالق تفوق كل تشخيص الأطباء وتهزم الأمراض وقسوة الحياة مهما جارت.

أقف اليوم على عتبة السابعة والثلاثين من العمر، مررت بالكثير من التجارب والتحديات. الحياة لم تمنحني نفسها على طبق من فضة. سعيت جاهدة وراء كل تفصيل من تفاصيل حياتي، حاولت استعمال جميع قدراتي لتطويع حياةٍ ملتوية وغالبا جائرة، فلجأت احياناً الى اللطف، واحياناً الى التمرّد، واحتميتُ في الحالتين بمشورة ربّي.  

جعلني المرض أحظى بالعديد من فرص الحب قبل الرحيل بعكس من يرحلون فجأة ودون أن يعرفوا الحب. فهم رحلوا قبل موعد العناق وقبل الوداع وقبل الزيارة الاخيرة.

ألف مبروك يا ميساءنا، فانت تستحقين الفرح بهذا الجهد الكبير والجميل والممتع والعميق والإنساني، ولا شك ان عيني نديم تلمعان اليوم بالحبّ اكثر من أي وقت مضى. 

يُمكن التواصل مع المؤلفة على الايمايل التالي :

[email protected]

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button