ثقافة ومنوعات

في المُعتقل أسقطتِ الانسانيةُ كلَّ الطوائف. روايةٌ بديعة

ديانا غرز الدين

في فترة الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، وبعد نشوب الحرب الاهلية في جبل لبنان بين الموحّدين الدروز والموارنة، صدر قرار من السلطات العثمانية العليا بنفي وترحيل ٥٥٠ رجل درزي الى سجون بلغراد في اوروبا الشرقية.  لكن الحظ التعيس لحنا يعقوب بائع البيض المسيحي قاده فجر ذلك اليوم الربيعي الى رصيف المرفأ حيث كان يتم اقتياد الدروز لترحيلهم بالباخرة، فوجد نفسه مُعتقلا مثلهم بدلا من شخص اخر أطلق سراحه بعد ان دفع والده رشوة للضابط العثماني. من هنا بدأت رحلة معاناته بعيدا عن زوجته وابنته الرضيعة التي كبرت بغيابه وانقطاع كلّ أخباره.  

 “دروز بلغراد” رواية تاريخية تندرج ضمن فئة ادب السجون للروائي والصحفي والكاتب اللبناني ربيع جابر.  صدرت عام ٢٠١٠ وحازت جائزة البوكر العالمية عن الرواية العربية عام ٢٠١٢. وهي عمل متميز ولامع بحسب نقاد لجنة التحكيم.  تتميز ” بتصوير قوي لهشاشة الوضع الانساني”.

فهي لا تشرح فقط معاناة حنا الذي أعتقل بالخطأ او بسبب الفساد والرشوة، وإنما معاناة كل المعتقلين في السجون المختلفة بدول البلقان وعملهم الشاق اليومي في ظروف لا انسانية ومناخية قاسية لا ترحم. لكنهم صمدوا على نحو بطولي يحدوهم الامل والايمان العميق بالعودة الى بلادهم وجبالهم يوما ما. عملوا في قطاف المحاصيل وبناء الجسور على الانهار والجدران على الطرقات. سُخّرت طاقاتهم لخدمة السلطات العليا التي وعدتهم بالعودة او بتخفيف مدة العقوبة، ولكنها غدرت بهم في النهاية.

 منهم من لقي حتفه في السجن بسبب الطبيعة القاسية ومنهم من استطاع الصمود لفترة اطول.

هناك في ظلمة وبرودة السجن نسجت تدريجيا خيوط التآلف والتعاطف بين السجناء وبين الدروز وحنا المسيحي.  سقطت كل الحدود الطائفية. تجلت المشاعرالانسانية فقط بين اشخاص جمعهم بؤس المكان ووحدة المصير. هنا بالضبط هو مغزى وجوهر الرواية، التآلف والتآخي الذي يجمع ويوحد بين المتقاتلين والمتناحرين عندما يتم وضعهم في مكان واحد وهذا دليل كاف على عبثية الحروب والتقاتل. ففي السجن لا يعود هناك اهمية للدين او الهوية، تصبح كلمات المواساة وشعورهم بالتوق الى الحرية ودفء المنزل والخوف من المصير المجهول هو ما يشدهم لبعض. 

” قضوا في الرحلة الى حبس الهرسك تسعة.  قتلهم الاعياء والجفاف.  نجا حنا يعقوب لان قاسم عزالدين حمله كالخروف على كتفه.  وقعت عليهم امطار الخريف في الوادي.. أنهكهم العطش والجوع…. عبروا جسرا يعلو جدولا عميقا والجنود منعوهم من النزول للشرب.. داخوا من سماع الخرير بينما الشمس تلطم رؤوسهم وتبقّع عيونهم بالكدمات..”

رواية تلامس القلب وتشد انتباه القارئ منذ السطور الاولى. فيها وصف حي للطبيعة البلقانية من جبال وثلوج وانهار وبرودة الطقس وفيها اضاءة على بعض من معتقدات وعادات الدروز و على الخلفية التاريخية للإمبراطورية العثمانية و اوروبا الشرقية في تلك الحقبة. قراءة تاريخية ماضية بلغة حساسة واسلوب سردي واضح ومشوق تميز به الروائي الذي ولد عام ١٩٧٢ في بيروت ودرس في الجامعة الاميركية. عاصر الحرب الاهلية اللبنانية وعاش تفاصيلها ومفاعيلها.  هو اول روائي لبناني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية عن “دروز بلغراد”. كما حاز على الجائزة الادبية عن مركز القلم الدولي في اميركا عن روايته ” الاعترافات”. ونالت روايته الاولى “سيد العتمة” جائزة الناقد للرواية وكان حينها في العشرين من عمره.  وصفه المؤرخ الراحل كمال الصليبي بأنه “حكواتي بالفطرة” ودعا الى قراءة اعماله مرة تلوالاخرى، كما صنفه على انه واحد من اهم كتّاب التاريخ.

اقتباسات من الرواية:

” لماذا لا تقولوا لراسم باشا من اكون؟ قولوا له كي ارجع الى بيتي.

اشكر ربك انه لا يعرف من تكون.  إذا قلنا له هذا مسيحي سيقطع رقبتك.

انا مسيحي من بيروت، لست من بلد الصرب.

لم يضحك نعمان، اراد ذلك لكن الحزن الفظيع في الوجه الراقد قربه أعجزه..”

” بينما يغلي عظما في القِدر، نظر الى ذراعه الزرقاء وقال لنفسه: اسمي سليمان، اسمي حنا،

الطباخ عطف عليه واعطاه ما يزيد عن حصته خبزا، ابكته هذه الخبزة الزائدة.  ذكرته انه ليس بهيمة.”

خطرَ لي وأنا أودّع آخر صفحات هذه الرواية، وكنت أتمنى أن تطول أكثر ،السؤال التالي: هل نحتاج الى البؤس والألم كي نكتشف جوهر انسانيتنا ونُسقطُ عن كواهلنا ما حمّلناه لنفسنا بنفسنا، أي الطائفية والفتن والبغضاء؟ الأكيد لا، يكفي أن ننظر بعمق ومحبة الى جوهر الانسان كي يصبحَ لون الكون وكلّ ما فيه أجمل. 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button