الحاكم، رواية الحب والتاريخ الفاطمي ليوسف زيدان
سامي كليب
الفا
لا شك ان الكاتب المصري الشهير د. يوسف زيدان يخطو في روايته الجديدة الحاملة عنوان ” حاكِم، جنون ابن الهيثم”، خطوة جديدة صوب دائرة الخطر، ذلك أن ما يقوله في القسم الأول منها على لسان شخصيات هذه الرواية البديعة يكسر محظورات ومحرّمات كثيرة تتعلق بالعادات والموروثات والدين، ثم إن عودَته التاريخية بقالب أدبي الى أحد أكثر الشخصيات التي حكمت مصر إثارة للجدل أي الحاكم بأمر الله في أواخر العهد الفاطمي، هي بحد ذاتها مغامرةٌ لا يجرؤ على خوض غِمارها الا من تعمّق في قراءةِ التاريخ، ونبشِ مخطوطاتٍ قديمة. وهو في سعيه هذا بدا راغبا في تصحيح الكثير من الخلل والتشويه والبدع والمغالاة والتسطيح، وهذا دأبُ يوسف زيدان في معظم مؤلفاته التي بلغت مع هذا الكتاب الرقم الخامس والسبعين.
في هذه الرواية الجديدة للأديب المصري العالمي الذي تُرجم الكثير من أعماله الى معظم لغات العالم، فنال جوائز كثيرة، وأثار جدلا أكثر، نلمس منذ السطر الأول مسألة الشك. ففي التمهيد لقصة الفتى الأسمر النحيل الهادئ راضي ابن قرية ” نجع العزوة” في الصعيد المصري، الذي هاجر بكل موروثاته الاجتماعية والأخلاقية والدينية الى القاهرة لإكمال علومه ووقع بحب زميلته في الجامعة، أمنية المتحرّرة من كلّ ما يُكبّل راضي، نقرأ البداية التالية : انتبهوا جيدا ” عصرَ يوم الأربعاء المصادف في ظن الناس للرابع والعشرين من شهر تشرين الأول ( أكتوبر) سنة 2018 للميلاد المُختلفِ توقيتُه، المشكوكِ في حدوثِه”…
هذه العبارات الثلاث أي ظن الناس، والمختلف، والمشكوك…هي في الواقع العامود الفقري لرواية حاكم، التي تبدأ من الحاضر وتغوص في التاريخ الفاطمي، وتُعلّمنا الكثير عن أحوال مصرَ وجمالها وسحر الطبيعة فيها وويلاتها وجور الناس ضد الناس. لكن في هذا الذهاب والإياب الى التاريخ ومنه، يدور الانسان في حلقة مُفرغة بين الشك واليقين وبين الفتن الدينية والمذهبية وعلاقتِها بالسياسة والطمع في السلطة والمال، وبين الغرائز الفطرية والحب العميق، ولن تستقرَّ الأحوال الا حين يُدركُ الانسان ان الله ما فرّق بين البشر، ولذلك نجد في الصفحة الأخيرة حِكمةَ الخاتمة على لسانِ مُطيع الذي جاور الحاكم بأمر الله على مقاعد الدراسة وآخاه، فيقول:” رحم الله جميع المُسلمين والنصارى واليهود وأهلِ الملل والمذاهب والديانات”. وهي حكمة ستُثير لا شك كثيرا من الجدل حول وضد يوسف زيدان، لان البشر اختلفوا أيضا على من تحلّ عليهم الرحمة ومن يُحرمون منها.
أمنية التي أحبها راضي حتى الوله، لا تُريد ان تُخبرَه عن دينها، وتطلق بدلا من ذلك العنان لشرحِ فهمها للحياة وهو ما يهزّ كيان راضي لأنه يمسُ قناعاته المتوارثة.
فحين يُخبرها راضي عن أن الأسى كاد يَغلِبُهُ لولا العناية الإلهية، تُسارع الى سؤاله:” يعني أيه العناية الإلهية.
وحين سألها عمّا تود ان تتعمّق فيه من أنواع الدراسات التاريخية، قالت:” التاريخ القديم جدا. فسألها: يعني أيه القديم جدا، تقول تاريخ ما قبل الحضارات، فيضيف ” آه تقصدي نشأة الحضارات؟” لكنها تشرح ما يزيد صدمته قائلة :” لا ، اقصد ما قبل الحضارات، شوف يا رضي، احنا دايما نتجاهل حاجات مهمة في التاريخ، مع إنها محتاجة وقفة، فنحن على سبيل المثال نبدأ بالتاريخ المصري القديم بالملك مينا موحّد القطرين، ونكتفي بإشارة سريعة الى ما كان قبله من زمن تأسيسي، نسميه اجمالا عصرَ ما قبل الأسرات، ونتجاهل أنه كان قبل موحّد القطرين، قطران أو مملكتان، يحتاج ظهورُهما الى حيز الوجود زمنا طويلا ربما امتد لآلاف السنين، وكذلك نبدأ تاريخ العراق بالممالك السومرية المبكرة، وتاريخ الصين بالإمبراطوريات الأولى، ولا يمكن فهم التاريخ الإنساني، الا بعد دراسة البدايات الأولى والتاريخ القديم جدا، او ما يمكن ان نسمّيه تاريخَ ما قبل التاريخ.
قالت أمنية إن لها معتقدها الخاص ولكنها لا تحب الكلامَ عنه، فزادت حيرةَ راضي الذي اعتقد انها بمجرد ان مارست الحب معه فهي ستقبل بالزواج منه بينما هي تفرّق بين الحب والزواج والغرائز، وقال لها كي يريحَ نفسه وتاريخَه وعاداتِه وتدينَه:
ما تقولي وخلاص يا أمنية، انتِ مؤمنة بالإسلام؟
- أنا مؤمنة بكل الأديان
- تبقي غير مؤمنة بأي دين…
- إن الديانات نوعان – تقول أمنية: فإما هابطٌ من السماء عبر الوحي والالهام والكهانة، أو صاعدٌ من الأرض الى الاله بنوع من العرفان أو الغنوص (أي المعرفة المُباشرة بلا وسيط ولا رسول ولا نبي).
كل هذه المقدمات في قصة امنية وراضي، هي مداخل الى أواخر العصر الفاطمي أو بالأحرى الى مرحلة الأمير منصور الذي لُقّب باسم الحاكم بأمر الله، والفاطميون يقول مُطيع ومع انهم شيعة لم يكونوا كالشيعة الامامية، فالشيعة الامامية يعتقدون باثني عشر إماما من ذرية علي بن ابي طالب، بينما يقف الفاطميون بهذه الامامة عند إسماعيل بن ِجعفر الصادق.
فحين يدور الحديث بين راضي واستاذه الذي يريد الحصول من منزل أجداد راضي على وثائق تاريخية عن العهد الفاطمي لم تُنشر يقول:” ان عملية الطمس المتعمد للتاريخ الفاطمي على يد الملوك الايوبيين ومن بعدهم سلاطين الممالك، وتدميرَ المكتبات الفاطمية بحجة مواجهة المد الشيعي، والحساسيةَ المُفرطة تجاه التشيع، كانت أهم العوامل التي أدّت الى إخفاء واختفاء المصادر والكتابات والوثائق المعاصرة للفاطميين”.
من خلال الرواية نفهم ان الحاكم بأمر الله كان كوالده العزيز بالله أبي المنصور أسمر المحيا، اصهب الشعر، أشهل ( أي ان لون عينيه مختلط بين الأسود وشيء من الزرقة) وطويلَ القامة وغزير الشعر.
يبدو يوسف زيدان من خلال كلامه عن الحاكم بأمر الله أكثر ميلا للتخفيف من غلواء ما قيل ضده، فحين تقول مثلا زوجةُ مُطيع:” انت تدافع عن المنصور الحاكم لأنه صاحبُك، مع انه غدر بكل الذين حوله، وقد يغدر بك أنت”
يقول مُطيع: كان حُسام ينقل لي دوما ما يدور على ألسنة الناس في القاهرة من أقاويل عن الحكم أغلبها شائعات ليس لها من الصحة نصيب.
والحاكم كان رقيق المشاعر، فهو يطلب من مُطيع ان يناديه باسمه ويدعوه لتناول الطعام معه، وهو الذي زهد بالمنصب فما عاد يضع العمامة على راس وانما فوطة، وما عاد يركب الحصان وانما الحمار، وغالبا ما يخرج لوحده بلا حراسة، وهو الذي بنى مكتبة الحكمة ومنع كلّ ما من شأنه ان يعزز الفتنة بين السنة والشيعة وهو الذي كان يؤم المصلين في كل المساجد دون تمييز، وهو الذي جاء بالعلاّمة الحسن بنِ الهيثم ليبني سداً لنهر النيل، وهو القائل في شعره:
أصبحتُ لا أرجو ولا أتقي
سوى ألهي، وله الفضلُ
جدي نبيّي وإمامي أبي
وديني، الاخلاصُ والعدلُ
لكن يوسف زيدان لا يجزم بشيء فهو اذ يوضح ويُنصف في مكان، يترك أيضا مجالا للشك من خلال الروايات التي قيلت حول أسباب تفكك الحكم وارتفاع نسبة الجور والقتل والنفور الذي وقع بين الحاكم بأمر الله واخته ست الملك وحول ما تعرض له المسيحيون والكنائس، وحول اختفاء الحاكم والشبهات بشأن اختفائه او قتله.
الواقع ان يوسف زيدان في مؤلفه الجديد هذا، ينقلنا الى تلك المرحلة الصعبة من تاريخ مصر وما تخللها من آمال وآلام، ومن جفاف او فيضانات، ومن رفاهية أو جوع، وينقل لنا صورا خلابة عن القاهرة وضواحيها وعن الاهرامات وأسرارها وعن الناس وعاداتهم وعن المزارعين ومواسمهم. وعلى معهوده في كتبه السابقة، يغوص في التاريخ، ويمحص في الوثائق، ويدقق في الروايات، ويؤكد مرة جديدة ان جلّ ما حصل في تاريخنا البشري عرف المكائد والفتن الدينية والمذهبية والطمع في السلطة والجشع في المال، وان التاريخ يكرّر نفسه، فما شهدناه في عصرنا الحالي من فتن مذهبية ومن تلاعب على التفريق بين الشيعة والسنة وبين المسيحين والمسلمين واليهود ما هو الا تكرارٌ لما عرفناه دائما عبر العصور.
وأما شخصية الحسن بن الهيثم، فتبدو زاهدة بالسلطة والمال والمناصب والنساء والمتع الدنيوية، ذلك ان هذا العلامة والفيلسوف والعالم اختار الغرق في مؤلفاته وقارب الصوفية في طريقة عيشه واعتزاله، وما طمِع من هذه الدُنيا الا بمزيد من الوقت كي يُنهي مؤلفاته، وكلّما شعر بنار الفتن اصطنع الجنون فكان العاقلَ الوحيد في عالم مجنون.
رواية حاكم، تشدّنا بإضاءتها على تاريخ مشكوك في الكثير مما قيل عنه وحوله، وتجذبنا بلغة خاصة عميقة وسلسلة تنساب كالعشق، وتهز في دواخلنا الكثير من المُسلّمات ليكون الشكُ سبيلا الى اليقين، وتتلاعب بنا بين قسوة العقل وسحرِ الجنون.
ومهما اختلف النقّاد والمؤرخون وأصحاب المذاهب حولها، فهي لا شك تحفة أدبية تضاف الى رصيد يوسف زيدان الغني والساحر والعميق والمثير للجدل.