آخر خبرافتتاحية

لبنان على ضفاف النيل أجمل

القاهرة-سامي كليب 

تردّدت كثيرا حين اقترحت علي الصديقة العزيزة ابنة طرابلس الفيحاء والناشطة في المجالات الاجتماعية والثقافية السيدة آسيا قاسم، أن أشاركها مؤتمر هذا العام الذي تنظمه في القاهرة تحت مظلة المنتدى الاجتماعي للثقافة العربية. فلا أوضاع لبنان الضاغطة من كل الاتجاهات تسمح بالمغادرة، ولا النفسيات الجماعية القلقة من ظهور المتحوّر الجديد لفايروس كوفيد 19 ( كورونا) تشّجع على مغامرة السفر والاختلاط بالكثير من الناس. لكن صورة المؤتمرات السابقة التي عقدناها في دول مختلفة وكان آخرها في سوتشي الروسية قبيل كورونا، بقيت في ذاكرتي مضيئة باللقاءات الغنية والحوارات العميقة والفرح الثقافي والبهجة الفنية، فحزمت حقيبتي وتوجهت إلى قاهرة المعز المحروسة.

تقاطرت وفود من مختلف الدول العربية، أصدقاء كثيرون جاؤوا من البحرين وموريتانيا والجزائر والكويت وعُمان ولبنان ومصر والإمارات وفلسطين والأردن وغيرها. كانوا من قطاعات مختلفة اقتصادية ومصرفية واعلامية وسياسية وثقافية وفنية، وكأنما الرغبة الدفينة عند كل منهم، تقول بأن لا مستقبل لنا كعرب إلا باللقاء والحوار والتكامل والتفكير بمستقبل نهضوي علمي فكري تكنولوجي مبني على المحبة والحوار والسلام.

غريب فعلا كيف تتسلل كل مشاعر الأخوة بيننا في كل مرة نلتقي لمؤتمر. وغريب أكثر من يقول إن العرب لا يتشابهون وانهم امم متفرقة. ها اننا جميعا نتبادل اجمل المشاعر واعمق الحوارات وانبل المحبة عند ضفاف النيل في الليالي المقمرة . لم تفرقنا إلا متاهات السياسة وغباء الفتن وأطماع داخلية وخارجية. فما يجمعني بكريمة الجزائرية ومحمد الموريتاني ونبيل وحسين وشيرين البحرينيين وعبدالله الحوسني العماني ونوال الكويتية وسوسن الفلسطينية وعبدالله الإماراتي، وبوسي ويوسف ومحمد المصريين أعمق واعرق وأجمل من كل الخطابات البالية التي أرادت تفريقنا نحن العرب عن بعضنا البعض بذرائع واوهام ومتاهات مشاريع مشبوهة.

كان النيل العظيم منذ وصولنا إلى الفندق المطلِّ عليه، يبعث في نفوسنا بهجة لا يدرك سرّها إلا خالق هذا الشريان المائي الذي كادت الأطماع الإثيوبية بشأنه تشعل حربا قبل أن تغرق إثيوبيا بحربها الأهلية الضروس. وراحت الاغاني المصرية الشعبية الحديثة تصدح من فوق المراكب، وتمتزج بالأنوار المتعددة الألوان لتضفي على الليل القاهري شيئا من السحر وكثيرا من البهجة ودهشة السمع والنظر.

كيف حال لبنان؟ يبادرنا الأصدقاء العرب، وفي السؤال حزن حقيقي على وطن سرعان ما يطرحون مطولات عن جماله وحيوية شعبه وسحر الضيافة والطبيعة والناس فيه. جميعهم كان يزور لبنان تقريبا مرة واحدة في العام، وجميعهم لا يعرفون تماما لماذا انهار حتى يكاد يلامس العدم، وجميعهم يمنّي النفس بأن تعود بلاد الأرز مقصِدا للعرب حيث لا بديل عنها. وحميعهم يطرح السؤال الابدي : لماذا فعلتم هذا بزهرة الشرق وعروس العرب.

ماذا نقول؟ وبماذا نجيب ؟ هل نقول أن ثمة جماعة سياسية-مالية حكمت هذا البلد منذ استقلاله حتى اليوم، فباعت قرارها للخارج وقتلت الدولة والسيادة؟ أم نقول إن هذه الجماعية وما ولّدته من تبعيات شعبية عمياء حوّلت جزءا كبيرا من الناس إلى قطعان يسيرون إلى موتهم خلف زعيمهم وقائدهم ورئيس قبيلتهم ويدعون له بطول العمر وهو يساهم في تقصير اعمارهم وقطع ارزاقهم وتعميق استعبادهم ؟ أم نشرح أن لبنان، وعلى جري تاريخه المديد، سرعان ما يتحوّل بسبب جغرافيته إلى ساحة لصراع أو صفقات المحاور كلّما احتاج محورٌ إلى ساحة والى دماء أبرياء؟

يستقبلنا سفير سلطنة عمان القادم من عالم وزارة الإعلام إلى سفارة القاهرة. يبدو السيد عبدالله الرحبي واسع الثقافة والقلب. يشرح لنا كيف سعت السلطنة كما في كل الأزمات السابقة إلى اعتماد خيار الحكمة حين طرحت مسألة معاقبة كل لبنان خليجيا بسبب تصريح الوزير جورج قرداحي، لا تحبذ السلطنة أصلا القرارات الانفعالية ولا المجابهات والقطيعة، فهي عاشت سابقا مشكلة مقاطعة مصر، ثم قطر ، ثم إيران،  والآن لبنان وغيرهم، وفي نهاية الأمر يعود الجميع إليها للعب دور الوساطة.

ينهض السفير من مكانه ليقدّم لنا مشروبا عمانيا لذيذا صنعته السيدة عقيلته، تختلط فيه نكهات كثيرة من التوابل التي كانت مع البخور سببا في شهرة سلطنة عمان المتنامية الأطراف في القرون الماضية، حيث ربطت تجاريا بين البحار والمحيطات والقارات من الهند إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى الخليج فالشرق الأوسط وأوروبا والعالم قبل أن يأتي الاستعمار البريطاني بشركة الهند ليقطع طريق التجارة العمانية ويضيّق مساحتها لصالح جيرانها.

على طاولة ضيافة السفير كثيرٌ من الصحون، بعضها فيه الرُطب ( التمر بعد نضوجه)، وبعضه الجوز واللوز، وبعضه الثالث فطائر رقيقة مزدانة بالعسل العُماني. وخلف الطاولات ابتسامة الترحيب منه ومن السيدة عقيلته، وخلفها ايضا امل بأن تعود الأمور إلى مجاريها في لبنان وان تحل العقدة الحالية لانها بالأصل ليست ذات أهمية كبرى. فكل من التقيناهم في القاهرة من عرب الخليج الى مثقفي مصر وفنانيها واعلامييها، يستغربون أن يؤدي تصريح الوزير إلى هذا التأجيج، ويقولون إن كل ما عُرف تاريخيا عن جورج قرداحي هو أنه محب للخليج وان العرب أحبوه كثيرا في برامجه الناجحة والتي كانت القناوات الخليجية وراء إطلاقها وأنه على الأرجح كان الذريعة لتفجير الغضب الخليجي من حكومات لبنان التي يتهمها بعض العرب بأنها خاضعة لحزب الله، لكنك ستسمع ايضا من يقول انه كان على جورج قرداحي وهو المعروف باختيار كلماته، الا يكرر حين صار وزيرا ما قاله قبل الوزارة وان هذا كان خطا.

يتعمق الحديث أكثر مع السفير العماني إلى التاريخ والجغرافيا والدين والمصالح وإيران، ولكنه يصب في مجمله في خانة الأمل بشيء من الحلحلة الإقليمية والدولية التي قد يفيد منها لبنان ، خصوصا مع عودة إيران والدول الغربية وروسيا والصين إلى فيينا للتفاوض. وكم كانت الصدفة جميلة أن نشارك سفير عمان عشية مؤتمرنا افتتاح نادي ثقافي باسم البحار العماني أحمد بن ماجد، انطلاقا من فكرة أن أحياء الثقافة العربية سبيل لنهضة المجتمعات وهذه كانت فكرة السلطان الراحل قابوس بن سعيد الذي أسس اول أوركسترا سمفونية واول دار أوبرا في الخليج.

الصورة نفسها تنعكس في كلام سفير الأردن في القاهرة أمجد العضايلة الذي عمل طويلا مديرا لدائرة الإعلام في الديوان الملكي وسفيرا لبلاده في روسيا وتركيا قبل أن يحط رحاله في القاهرة. استقبلنا مباشرة بعد انتهاء لقاء ثلاثي جمعه مع زملائه من العراق ومصر.  كان طبيعيا ان نبادره إلى السؤال عن الاتفاق لجر الكهرباء الأردنية والغاز المصري إلى لبنان، فسارع إلى التأكيد أن الأمور تسير على نحو جيد وبسرعة مقبولة وان مطلع العام سيشهد انفراجات في لبنان على مستوى الكهرباء بعد حل قضية الثمن المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي .

“لبنان عزيز وغال على كل العرب” يقول سفير الأردن، وما من اجتماع عربي هذه الأيام إلا ويكون لبنان حاضرا فيه،  وبغض النظر عن نظرة البعض إلى هذا الطرف أو ذاك داخل لبنان، فنحن على قناعة تامة بضرورة مساعدته وإنقاذه وتقديم ما يلزم لاستعادة نهضته”. لكنه يبدو أقل تفاؤلا حيال مستقبل التفاوض الاميركي الإيراني ويعتبر أن الأمور ما تزال معقدة.

نرتشف قهوتنا الشقراء اللون في الفناجين الكرتونية عند السفير العضايلة، وهو يشرح لنا عن آفاق التعاون بين العراق ومصر والأردن حاليا لتعزيز المشاريع الاقتصادية والتنموية على امتداد المنطقة، ويقول إن عودة البوابتين السورية والعراقية مهمة جدا لإنعاش هذه الدول خصوصا ان الأردن كما لبنان عانى كثيرا منذ الحرب العراقية ثم السورية. وحين نسأله عن سبب هذه الثلاثية في الحلف العراقي المصري الاردني ولماذا لم تشمل لبنان، يضحك ويقول: هذا ليس حلفا وإنما هو مشروع تكاملي وهو مفتوح للجميع ولكن على اللبنانيين أولا أن يتفاهموا ويوحدوا قراراهم، فلا أحد يستطيع مساعدتهم إن لم يساعدوا أنفسهم.

في مصر أكثر من ٦ الآف طالب أردني، القسم الأكبر منهم يدرس الطب، لكننا فهمنا من سفير الأردن أن ثمة عملا جار حاليا بين الدول الثلاث لتعزيز دراسة التكنولوجيا وتوفير تمويل لتطوير هذا القطاع الحيوي الذي بدونه وبدون تعزيز العلوم الحديثة عند العرب، فإن المستقبل العربي سيبقى مروهونا للخارج .

كان حفل افتتاح مؤتمرنا في القاهرة لافتا في حضور كثير من السفراء العرب وممثل لسماحة مفتي الجمهورية المصرية وممثل لغبطة أنبا الأقباط وكان بين الحضور ممثلون لتيارات غربية، وهذه من الحالات النادرة التي نراها اليوم على امتداد الوطن العربي حيث الفتن طغت على التآلف والحروب الأخوية قتلت مشاعر السلام. ولم تكن السيدة قاسم مخطئة حين شبّهت وضع لبنان اليوم بقصة يوسف وإخوانه حين رموه في البئر.  ولم يكن السفير العماني  مخطئا أبدا حين قال ” كلما ابتعد العرب عن بلد عربي جاء من يأخذه منهم “. صحيح أن في لبنان أخطاء كثيرة، وصحيح أيضا أن بعض التصريحات اللبنانية أساءت إلى دول عربية، وصحيح أن الإعلام لعب أدوارا تاجيجية بين المحاور، لكن الصحيح أكثر أن لبنان الذي تحمل كثيرا عن العرب من الحروب واللاجئين والنازحين،  والذي فتح قلبه لكل عربي زائر أو مقيم أو سائح أو لاجيء أو معارض أو رجل أعمال، لا يستحق كل هذا العقاب الجماعي. وهذا بالضبط ما تحاول دول عربية وبينها مصر التي استضافتنا أن تقوله اليوم بصوت أعلى من السابق .

لا شك أن لبنان عند ضفاف النيل يبدو اجمل وان مستقبله يبدو أقل تعقيدا رغم كل الضباب الحالك في سمائه هذه الأيام، فبدون عودة العرب إلى العرب، ستغرق الدول العربية الواحدة تلو الأخرى في مشاكل متنقلة ومستعصية.

——————————-

البقية غدا

 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button