آخر خبرافتتاحية

جورج قرداحي وأمراضنا الكثيرة. ما الحل؟

سامي كليب 

كشفت قضية الوزير جورج قرداحي، مرّةً جديدة حجم الأمراض الاجتماعية في واقعنا العربي، وقصر النظر، وإسفاف الإعلام، وتملّق الساسة، وضيق أفق الجماعة السياسية في اجتراح حلول، كما كشفت عن هبوط الأخلاق الى أدنى مستوياتها، وعن انقسام لبناني حاد بين محورين، فضاعت كالمعتاد حقيقة الأمور خلف القشور.

وأمام هجمة الجيوش الالكترونية التي يتبارز أهلها في القدح والمدح والتملّق وتعميق الفتن، هجم الضبابُ يحجب الحقيقة ويعمّق الشرح تماما كهجمة الذباب عبر وسائل التواصل ( أو قل التقاتل الالكتروني)، فكاد جورج قرداحي يُصبح قاتلَ الأنبياء عند البعض، وبطلا مغوارا عن البعض الآخر، لكنه في الواقع لا هذا ولا ذاك ولا يريد ان يكون هذا ولا ذاك.

إن عارفي الرجل يُدركون أنه أكثر أبناء جيله تعلّقا تاريخيا بدول الخليج، وإن الجزء الأكبر من شهرته جاء من عمله في مؤسسات خليجية، وأنه حتى يوم تعيينه وزيرا كان في الامارات يوقّع عقودا إعلانية وعقود عمل وربما حصل على الإقامة الذهبية، وحتى حين جاهر بالدفاع عن سورية، سعى لإبقاء كل الخطوط مفتوحة مع الخليج حيث كان لحضوره الأنيق ولغته الفصيحة ودماثة أخلاقه الدور الأكبر في نجاحه في برامجه خصوصا ” من يربح المليون” وبعده ” المسامح كريم”.  وحين سُئل مرة عن سبب تصريحاته المتعلقة بضرورة ضبط الاعلام اللبناني وتصحيح المواقع الالكترونية، أعطى مثالا الامارات وما تفعله بالمواقع والواتساب وغيرها كمثال يُحتذى. ولو كان غير ذلك لعمل في الاعلام الإيراني وما أكثره.

لكن جورج قرداحي ومنذ اختار ان يعمل في السياسة، وبدا أقرب الى الرئيس ميشال عون بداية ثم الى زعيم المردة سليمان فرنجية وبينهما الى الرئيس السوري بشار الأسد، خرج عن دور الاعلامي الى دور السياسي او الناشط، ووضع بالتالي نفسه في موقع مديح البعض واتهام البعض الآخر، حتى وصوله الى موقع المسؤولية في حكومة تراها السعودية صنيعة حزب الله، فكان طبيعيا ان يُنتظر داخليا وخارجيا عند اول منعطف. ولو لم يصبح وزيرا لما اثار احد قضية تصريحه حتى وهو يعمل في الخليج.

من يدقّق ببعض أسماء “الحريصين الجدد” على الخليج، يعرف أن بينهم كثيرين قالوا كلاما في العلن او في الكواليس أقسى بكثير مما قاله قرداحي، ضد الخليجيين وبشأن اليمن ، وأن بينهم من أتقن لعبة التملّق لكل من كان أو صار له تأثير على لبنان من الخارج، إقليميا كان أم دولياً، هؤلاء انبطحوا أمام الجميع وعند أقدام من هبّ ودب، وهم لا يفرّقون بين العروبة الصادقة التي تتطلب إعادة نظر عميقة مع العمق العربي للبنان، وبين استخدام هذه العروبة كشعار للكسب والمناصب، وحين تأتي المناصب من حزب الله يسارعون الى مغازلته.

وفي المقلب الآخر، باتت أي مشكلة مع الخليج، تدفع جيوشا أخرى لشن حملة شعواء على السعودية والخليج لا بل وعلى معظم الدول العربية، وفي أعماق هذه الجيوش ومحرّكيها قناعة بأن العرب والعروبة تهمةٌ فلا بأس أن تُشرّع الأبواب لكل طامح وطامع وغاز ولكل الصراعات الاقليمية ولكل التنافس الدولي. لا بل ان مجرد النقد الذي يصدر عن مقاومين معروفين بعروبتهم وتاريخهم مثل اسامة سعد صار عرضة لهجوم قاسٍ.

ليست القصة اذاً تصريحا قديما لجورج قرداحي، فهذه نقطةٌ بسيطة افاضت الكأس الملآن بسوء الفهم والصراعات المستحكمة بين محورين. عناوين الصراع هي التالية:

  • دور حزب الله الذي كبر أكثر مما كان متوقّعا في لبنان والاقليم.
  • دور إيران الذي يعتبر قسمٌ من العرب أنه توسّع أكثر مما ينبغي وأنه يحمل مشروع هيمنة وتشييع محميا بالصواريخ.
  • حربُ اليمن التي تحمّل السعودية والإمارات ومصر وغيرها حزب الله مسؤولية كبيرة فيها ليس فقط لجهة المساهمة في تدريب أنصار الله الحوثيين، وإنما أيضا لحثّهم على عدم التفاوض قبل السيطرة على مآرب التي تشهد كل يوم سقوط عشرات أو ربما، في بعض الأيام، مئات القتلى لأنها معركة حسم الحرب.
  • استراتيجية جديدة في السعودية يقودها ولي العهد الأمير محمد سلمان، لا يفهمها كثيرون، بحيث تُركّز على جذب كل الداخل السعودي ( وهو نجح في ذلك وجذب بعمق المجتمع الشاب الذي يشكل أكثر من 70 بالمئة من الشعب السعودي ) دون الاهتمام كثيرا بما يحصل في الخارج، وتنويع العلاقات الدولية للتفلت من القبضة الأميركية والتوسع أكثر صوب الصين وروسيا والهند وغيرها. وقناعة الأمير أن كل ما فعلته السعودية في لبنان لم ينفع، وان كل المال ضاع، وان الحزب سيطر، وان سعد الحريري ما عاد مرغوبا به الا اذا اعاد فتح النار بقوة على الحزب واستعاد تشكيل الجبهة ضده مع حلفائه السابقين، وان القوات اللبنانية أقرب الى الرياض حاليا من أي طرف سُنّي آخر.

تُريد السعودية إنهاء حرب اليمن، وتأمل في أن يوصل تفاوضها مع إيران الى نتيجة مقبولة من الجميع، وتُريد نقل معركة اليمن الى عقر دار حزب الله الذي تحمّله مسؤولية تعزيز الدور الإيراني ليس في لبنان فسحب وإنما أيضا في العراق وسورية واليمن، فتسعى لمشاغلته بمشاكل داخلية تثنيه عن التدخل هنا وهناك، وتحدّ من حركته على أمل تطويقه انتخابيا وتشجيع أشرس خصومه ضده في الداخل وفي مقدمهم حاليا ” القوات اللبنانية”.

الواقع أن لبنان حاليا عالقٌ بين مطرقة وسندان، فكل حكومة ستُشكّل في ظل النظرة السعودية الراهنة للبنان، تعني أنها حكومة خاضعة لحزب الله، والنفور كبير مع العهد ممثلا بالرئيس ميشال عون رئيس التيار الوطني جبران باسيل، والخذلان من الأطراف الأخرى كبير، ودول الخليج غالبا ما تتضامن مع السعودية التي كانت وما زالت حجر الرحى هناك رغم التقدّم الكبير لدور الامارات (المنافس ضمينا لها).

 وفي المحور الآخر، ثمة قناعة بأن رياح المنطقة كلها ستهب في الاتجاه الإيجابي خصوصا عشية الانسحابات الأميركية، وبعد شبه انتهاء الحرب السورية، ومع جنوح الحرب اليمنية عسكريا لصالح المحور، وبعد أن اصبح الحزب حجر الرحى في السياسة الداخلية اللبنانية.

والى قضية مأرب وتأثيرها على لبنان، فالجديد في هذا الواقع المعقّد والذي يزيد فقر وقهر اللبنانيين وانسداد افق الحلول أمامهم، خصوصا بسبب تبعية معظم الشعب لجماعة وأحزاب وزعامات سياسة أكل الدهر عليها وشرب، فهو ترسيمُ الحدود البحرية وربما البرية مع لبنان، ذلك أن موافقة حزب الله على ما ستقبله الحكومة اللبنانية، له ثمن في السياسة الداخلية، ومن يعرف براغماتية الاميركيين والفرنسيين، يُدرك أن تقارب باريس الكبير مع الحزب، ومغازلة الأميركيين لرئيس مجلس النواب نبيه بري، يُقلقان الآخرين في الداخل من أن يكبر دور الشيعة في لبنان على حساب الأدوار الأخرى القلقة او المنكفئة أو المغامرة.

على ضوء كل ذلك، يُصبح تصريح جورج قرداحي، أمرا عابرا خلافا للتصريح العنصري السابق الذي قال فيه وزير الخارجية السابق شربل وهبة عن أهل الخليج بأنهم ” بدو” ( وذلك حين لم يضبط اعصابه أمام استفزازات ضيف خليجي في حوار تلفزيوني)، رغم أن اهل الخليج تقدموا بالعلم والتكنولوجيا والعمران والزراعة والصناعة بما يفوق بأضعاف مضاعفة وضع لبنان، ورغم ان كل البشرية أصبحت في عصر البداوة كما يقول الكاتب الفرنسي العريق جاك أتالي بعد ان كسرت الحدود وطغت العولمة وزاد الترحال بين الشعوب بحثا عن رفاهية العيش.

وهنا يبقى السؤال المركزي، هل مقاطعة لبنان عربيا، تؤلب فعلا اللبنانيين ضد الحزب وإيران فيفرز نتائج انتخابات صادمة لطهران كما حصل مؤخرا في العراق، أم يترك الساحة اللبنانية فارغة لحضور إيراني قوي ولدور أكبر للحزب؟ فحين ترك العرب مثلا دولة عربية بعيدة هي جزر القمر في عهد الرئيس عبدالله سامبي، غزته المؤسسات الاقتصادية والتربوية والتعليمية والثقافية الإيرانية وكاد يُصبح فارسي اللسان.

لبنان كان وما زال أحد الشرايين الأساسية النابضة في قلب العرب والعروبة، وتحمّل عن الجميع تاريخيا أثمان الحروب والصفقات خصوصا مع إسرائيل وتحمّل بقدراته المحدودة لجوء الفلسطينيين ونزوح السوريين وغيرهم، ولو خيّر الكثير من ناسه بين العمل في الخليج أو في أي منطقة في العالم، سيختارون الخليج.

 لذلك فلبنان حاليا أمام احتمالين بعد ان تنتهي قريبا قصة جورج قرداحي العابرة، فإما تصحيحٌ عميق للعلاقات العربية اللبنانية  بقناعة حقيقية من الجانبين، ووضع كل الملفات على الطاولة لحلّها لا لتعميقها ( خصوصا مع أجواء التفاوض الإيراني السعودي) أو ان مشاكل الداخل ستكبر والإرهاب سيطل برأسه مجددا كما حصل في الأسابيع الماضية  في العراق وسورية. فلبنان رغم صلابة قتاله ضد إسرائيل، الاّ أنه اكثر الساحات هشاشة في الوقت الراهن، وانهياره الكامل سيؤثر على العرب والمنطقة بقدر تأثيره على لبنان. ولذلك سارعت واشنطن وفرنسا ودول غربية الى محاولة احتواء ما حصل ودعم ميقاتي في البقاء على رأس الحكومة.وهذه الدول لا ترغب ابدا بانهيار الحكومة وقد شارفت على توقيع ترسيم الحدود.

لا بد لإحدى العواصم العربية الحريصة على بيروت والعرب، أن تعقد على أرضها لقاء مصالحة ومصارحة حقيقي، كما حصل في قمة بغداد الأخيرة. فالأمور لا يمكن ان تستمر على ما هي عليه، والحل لا يكون بإغراق لبنان بحرب بين محورين كما حصل في دول أخرى.  وربما الأهم من المصالحة الخارجية، هي تصالح اللبنانيين بين بعضهم والاتفاق على الانتماء الى الوطن، كي لا تبقى كرامتهم جميعا معلّقة على أبواب العالم كمتسوّلين لا كأبناء حضارة ضاربة جذورها في عمق التاريخ وفي آلاف السنين ولا كأبناء أجمل الأوطان ، فكفى عنتريات من كل الجوانب. وكفى تملّقا وفتنة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button