آخر خبرافتتاحية

الرئيس العراقي برهم صالح من الجبل الأشم الى المستقبل الأخضر  

 سامي كليب

 مقابل كل مظالم التاريخ والحاضر التي تعرّض ويتعرّض لها الكُرد عبرَ مسيرتهم الطويلة وحلمهم الذي لم ولن ينقطع، أفادتهم مغترباتُهم القسرية، وتَقلُّب السياسات حولَهم وعندَهم، في تعميق ثقافتهم وتوسيع آفاق معارفِهم والاحتكاك بدول وشعوب وثقافات وحضارات مختلفة، فكان أن برز بينهم عددٌ من القادة والسياسيين والمفكّرين والمنظّرين والأدباء، اتقنوا فنون السياسة والحوار بقدر إتقان قسم كبير من شعبهم المنتشر في دول متعددة، صنوف القتال في المناطق الوعرة.

لعلّ الرئيس العراقي الحالي د. برهم صالح، واحدٌ من هؤلاء القادة، الذين نشأوا وترعرعوا في منطقة الجبال الشامخة والوديان الخضراء الحافظة جولات وصولات من الحروب والبطولات والحرائق والدماء، بقدر ما حفظت مجلدّات من قصص الكرامة في سياق البحث عن استعادة هوية وثقافة كادتا تضيعان.

ابن السليمانية ولد قبل 61 عاما في تلك المنطقة التي قال فيها الشاعر العراقي الفذ محمّد مهدي الجواهري:

قلبي لكردستان يُهدى والـــفم/    ولقد يجود بأصـغـريـه الـمـعـُـدم
يا موَطنَ الأبـطال حيـثُ تـناثرت/ قـصصُ الـكـفاح حـديـثها والأقـدمُ
شعب دعائمه الجمـــاجم والــدمُ/     تـتـحـطـم الدنـيا ولا يتحـَطـّمُ

كنتُ قبلَ فترة قصيرة في زيارة الى بغداد، وكان الرئيس العراقي خطيبا في أحد المنتديات، فلفتني صوتُه الجهوري ولغته العربية الفُصحى في زمنٍ صار بعض العربِ يخجلون من لغتهم، ويلحنون بنطقها وقواعدها، كما لفتتني دماثتُه في الإجابة على أسئلة أحد الصحافيين، وحنكته في تدوير الزوايا ليقول ما يريد وما يجمع لا ما يفتن.  ويبدو أن تأثير والده القاضي كان كبيرا في هذا المجال اللغوي والدبلوماسي، وكذلك القرآن الكريم، أما والدته التي كانت اقل عِلما فإنها لم تكن أقل نضالا لأجل الحريات وحقوق المرأة ولا أقل تأثيرا على ابنها الذي حين ذهب لإخبارها بأنه ومن على موقعه كرئيس لحكومة  الاقليم نجح مع الرئيس الراحل والزعيم الكردي البارز ( رحمه الله) جلال طالباني في ادخال 4 من القضاة النساء الى سلك القضاء، قالت :” فقط أربع؟”. ذلك أن المرأة في النضال الكردي، توازي الرجال، وفي بعض المرّات تفوقهم إقدامها وشجاعة، فكيف لا تحظى اليوم بأهمية خاصة واحترام كبير ودور جيد في مؤسسات الدولة؟

فلسطين وسورية

في خطابه الأخير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لم ينسَ الرئيس العراقي سورية وفلسطين واليمن، قال بلغة اليقين:

  • ان استمرار الأزمة السورية وتداعياتها الإنسانية الرهيبة بات غير مقبول، ونُذكّر ان بؤراً خطيرة للإرهاب تنشط باستمرار وتعتاش على ديمومة هذه الازمة، وتهدد الشعب السوري وتهدد بلدنا وكل المنطقة… وقد آن الاوان لتحرّك جاد لإنهاء معاناة السوريين يستند الى احترام حقهم في السلام والحرية، واستئصال بؤر الإرهاب النشطة هناك.
  • يؤكد العراق، موقفه بضرورة إيجاد حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، فلا يمكن ان يستتب السلام في المنطقة بدون إقرار وتلبية كامل الحقوق الشرعية والمشروعة للشعب الفلسطيني في دولته المستقلة.
  • إن استمرار الحرب في اليمن وتداعياتها الامنية والانسانية مبعث قلق يستدعي التوصّل لحل يحقق الامن والسلام لمواطنيه ولدول المنطقة

الكلام عن سورية في الأمم المتحدة، نابعٌ من قناعة عميقة وراسخة عند الرئيس العراقي بضرورة طي ملف هذه الحرب الشرسة التي تقاطعت فيها كل دول العالم وشارك فيها كل الإرهاب العالمي الذي أدمى سوريا والعراق على السواء، وهو كان قد عبّر عن موقف مماثل في خلال قمة بغداد للشراكة والحوار التي عُقدت مؤخرا بلا حضورٍ سوري لعدم إحراج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحد المساهمين بهندسة تلك القمة والتي حضرها مسؤولون خليجيون وإيرانيون وأتراك وغيرهم. فحينها قال برهم صالح ” إن سورية هي الحاضر الغائب في هذه القمّة” وسرت معلوماتٌ شبه مؤكدة حول عزم الرئيس العراقي عقد قمة مع نظيره السوري بشّار الأسد على الأرجح بعد الانتخابات العراقية المقرر اجراؤها في 10 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، كما كانت ثمة محاولات لجمع قيادات رفيعة سورية وتركيا على أرض العراق.  

ولا ينسى صالح كما الكثير من القادة الكُرد وفي مقدمهم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وزعيمه التاريخي والمناضل الكبير جلال طالباني فضل دمشق عليهم حين كانت تدعمهم وتستضيفهم في خلال الفراق البعثي بين العراق وسورية، وهي كادت تتحمّل وزر حرب مع تركيا بسبب استضافتها لفترة غير قصيرة مقاتلي حزب العمّال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد.

أما فلسطين، فأن برهم صالح، حرص في الأسابيع الماضية على المجاهرة برفض وإدانة ذاك المؤتمر الهجين والغريب للتطبيع في كردستان، وشدّد غير مرّة على أن لا تطبيع مع إسرائيل قبل حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم، وهو موقف متقدّم جدا في زمن التراجع العربي عن المجاهرة بدعم القضية.

كان لا بُدّ من هكذا موقف واضح وصارم من رئيس العراق الكردي المنشأ والعرق، في وقت صار البعض يتحدث عن علاقات كردية إسرائيلية، ويجد صدى لذلك في الاعلام الإسرائيلي الذي هلّل كثيرا لذاك المؤتمر المسخ الذي تبيّن أن من فيه لا يمثلون شيئا.

تجد الإشارة هنا الى أن الإذاعة الإسرائيلية كانت قد خصّصت في خلال انتخاب برهم صالح رئيسا للعراق، برنامجا كاملا تروي فيه علاقة أقامها حين كان ممثلا لحزبه في الولايات المتحدة الأميركية مع جمعيات يهودية ومع مؤتمر ” الايباك” الموالي لإسرائيل.

 وقال المستشرق والمؤرخ موطي زاكين “ككل حركة تدرك أهمية الولايات المتحدة، انتدب الاتحاد الوطني الكردستاني برهم صالح لواشنطن، بعد انتهائه من انجاز الدكتوراه في بريطانيا، من أجل توثيق العلاقات بين الجانبين، كنت حينها في أوج إعداد بحث عن الكرد ، وقد عمل على إقامة علاقات مع أصحاب النفوذ في أميركا، ومن ضمنهم يهود الولايات المتحدة، ما أدى إلى اطلاعه على نشاطات لوبي ‘أيباك’ المؤيد لإسرائيل، وأذكر أن المندوب التاريخي للوكالة اليهودية في واشنطن مايكل انكينوفيتش، نجح بالحصول على تذكرة مخفّضة السعر لبرهم صالح، عبر بطاقة الطالب الجامعي التي كان يحملها آنذاك، من أجل المشاركة في مؤتمر ‘أيباك’ في العام 1990، وبالفعل، حضر صالح هذا المؤتمر واكتسب العديد من العلاقات”.

 لكن  زاكين  نفسه المتخصص في شؤون الأقليات في الشرق الأوسط، وله دراسات عديدة عن تاريخ الكرد وكردستان،  سارع الى التوضيح بأن “العلاقة مع يهود الولايات المتحدة كانت مهمة بالنسبة لبرهم صالح، ولكن لا أعتقد أن العلاقات مع إسرائيل كانت مهمة له”.

الواقع أن برهم صالح، الذي هُرّب من العراق بعد خطاب له عن حقوق الكرد عام 1977 وكان ما يزال في مقتبل الشباب، عاش ودرس الهندسة في بريطانيا ( وليس الطب كما كان يريد والده)، ثم انتقل الى أميركا بطلب من طالباني نفسه، ويقول أحد عارفيه أنه كان  من الطبيعي أن يستغل وجوده هناك لنسج علاقات مع مختلف اللوبيات المؤثرة في أميركا، وهذا ما تفعله أصلا معظم الدبلوماسيات العربية، ذلك أن واشنطن التي كما معظم الدول الغربية كانت تدعم الرئيس السابق صدّام حسين، لم تلتفت كثيرا الى قضايا الكرد الا بعد أن قرّرت طرد القوات العراقية من الكويت والبدء بمسيرة التحولات الكبرى ضد النظام العراقي.

واذا كان برهم صالح قد نفى مرارا أي علاقة مع إسرائيل، وكرّر عشرات المرّات موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، فهو أيضا ومن منطلق مؤسساتي يؤكد على الدستور والقوانين العراقية وعلى القرار المركزي في بغداد لجهة عدم فتح أي علاقة تطبيع مع إسرائيل في المدة المنظور. وهو مقتنع تماما بذلك.

ماذا عن إيران؟

 إذا كان المرء يتأثر كثيرا بما حفظته ذاكرته من مشاهد وقصص الطفولة والشباب، فلا شك أن الوسطية التي يتحلى بها برهم صالح الذي الوجه الُمبتسم في معظم الأوقات والعينين الذكيتين خلف نظّارتيه، ليست وليدة الصدفة، ولا شك أن ليبراليته ليست أمرا عابرا، وانفتاحه على الحوار ليس فولكلوريا، فهو غالبا ما يذكر ” فضل أهل الجنوب العراقي على الكُرد وعلى والدي” ذلك أن والده الذي تعرّض لضغوط كثيرة من قبل النظام السابق، نُفي الى منطقة السماوة، ولاقى من أهل الجنوب ( الشيعة) افضل المعاملة والاحتضان.

لكن الانفتاح على كل دول الجوار الخليجي والإيراني شيء، والتنازل عن السيادة شيء آخر، ولو نشر الرئيس العراقي يوما مذكّراته التي يحرص على تدوينها يوميا على الكومبيوتر الذي تعمّق في دراسة هندسته في بريطانيا، لربما ذكر ذاك اللقاء الصعب والهام والحامل رسائل عديدة في طهران بينه وبين الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد. فوفق رواية مسؤول إيراني، ما كاد نجاد يُطلق بعض الاتهامات عن علاقة العراق والكرد بأميركا وتسهيل تغلغلها، حتى وقف برهم صالح في مجلس الرئيس الإيراني الذي استقبله فجرا، وقال كلاما عالي النبرة حادّا و مدافعا عن بلاده وعن الكرد، وقائلا إن طهران هي التي ساندت صدام حسين لاحقا، وهي التي نسجت خيوطا مع أميركا، بينما الكُرد عانوا الأمرّين من الجانبين سابقا.

ومن منطلق مقولة أحد شعراء الكُرد بأن ” الشامَ سُكّر، لكن الوطن أحلى” فإن برهم صالح ينطلق من ركائز وطنية عراقية، فيقول إن مستقبل العراق الموحّد والديمقراطي والخالي من الفساد هو القضية، وأن مستقبل الكرد لا يُقرّر في طهران ولا أنقرة ولا واشنطن وانما في بغداد. وهو في هذا نسج علاقات ممتازة مع الخليج وإيران وأميركا وروسيا على السواء، ويدرك أن الشأن العراقي حاليا مرتبط عضويا بالمحيط الاقليمي وبإيران.

هموم الحاضر والمستقبل

لعلّ المتابع بدقة لخطابات وتصريحات ومقابلات الرئيس برهم صالح، يلمس عند الرجل، همّين أساسيين، أولهما تقوية الداخل العراقي بالديمقراطية الحقيقية والمشاركة الفعلية والشفافية ومحاربة الفساد وإقامة الحكم الرشيد، وثانيهما بأن ينتقل العراق من ساحة لحروب أهله وحروب الآخرين على أرضه الى مساحة لقاء وتعاون بين دول المنطقة، وهو لذلك ساهم مساهمة كبيرة في أنجاح اللقاءات الإيرانية السعودية التي تستمر بوتيرة جيدة وفق اعتراف البلدين في الأيام الماضية.

لعل نجاح العراق في عهد برهم صالح ورئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في جمع إيران والسعودية، سيساهم في توسيع دائرة المصالحات والتسويات في المنطقة والتي باتت أيضا حاجة دولية، ويستطيع الرئيس العراقي الكردي الأصل أن يلعب مثلا دورا مهما في تقليص الهوة بين الدولة السورية والكرد خصوصا ان رياح الانسحابات الأميركية تهبّ بقوة، وأن العلاقة العراقية مع سورية وتركيا وإيران وأميركا وروسيا ممتازة.

الرئيس الثامن للعراق، الذي بدأ حياته ناشطا سياسيا في صفوف الكرد، ودخل السجن، وعرف المنافي، وخبر الإدارات من خلال عمله في بريطانيا بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الإحصاء وتطبيقات الكومبيوتر في مجال الهندسة من جامعة ليفربول عام 1987 ، وأصبح ممثل حزبه في الولايات المتحدة ما بين 1993 و2003، ثم أول رئيس للحكومة العراقية المؤقتة عام 2004، فوزيرا للتخطيط في الحكومة الانتقالية، ونائب رئيس وزراء في حكومة نوري المالكي، ثم رئيس حكومة إقليم كردستان في العام 2009 ، فرئيسا للعراق، خّبر النضال والإدارة والسياسة والعلاقات الدولية في كل مجالاتها ودهاليزها، ولذلك فهو أتقن لغة التسويات وأدرك أن خيرا المواجهة يؤدي الى خسارة الجميع كما كان الحال حين تقاتل الكرد العراقيون فيما بينهم.

وقد وضع برهم صالح منذ فترة غير قصيرة نصبَ عينيه رفع المستوى العلمي والاقتصادي والاجتماعي في بلاده، وكانت الجامعة الأميركية في الإقليم مشروعه الذي يفخر به منذ أن حدّثه والده القاضي عن أهمية الجامعة الأميركية في بيروت، وهو يجاهر بضرورة محاربة العالم للفساد ونهب الأموال كما حارب الإرهاب، ويقول إن النفط العراقي وفّر للخزينة العراقية منذ العام 2003 أكثر من تريليون دولار لكن ما نُهب منه الى الخارج قد يفوق 150 مليارا يعمل لإعادتها وسط ورشة إصلاحية كبيرة. ربما مافيا الفساد العراقية كبيرة ومتجذرة كما هي الحال في لبنان، ومهما حسُنت النوايا فإن تفكيك تلك المافيا ليس بالأمر اليسير لا بالنسبة لصالح ولا لغيره، لكن ثمة محاولات جدية تجري لاقامة شبكة عراقية دولية لتطويق هذه المافيا التي تثرى وتُفقر العراق كما لبنان.

من يزر الرئيس برهم صالح في مكتبه الرئاسي الأنيق كأناقة ملبوسه وكلامه، سيجد على الحائط لوحة رخامية جديدة زرقاء اللون معلّقة على أحد حيطانه، وهي على ما يبدو هدية من الشباب العراقي الذي انتفض ضد الفساد والمحاصصة، والذي يقول صالح إنه لا بد من تلبية مطالبه بالإصلاح خصوصا ان أكثر من 60 بالمئة من العراقيين هم تحت سن 25 عام.  كما أن الرجل يطمح لانعاش وادي الرافدين ويردد شعارا محبّبا لديه يقول:” إن مستقبل العراق يكمن في ماضيه الأخضر”.

أما بالنسبة للبنان، فالرئيس العراقي كما معظم أهل هذا البلد العريق الذي يُعتبر أحد أقدم الحضارات الانسانية العالمية على الاطلاق، إن لم يكن الأقدم، يضع لبنان واللبنانيين في قلبه، وعمل ويعمل مع رئيس الحكومة الحالية الكاظمي في العلن وخلف الكواليس لتقديم مساعدات وتسهيل وصول ما يُبلسم جراح الوطن من مساعدات طبية وغذائية ونفط، وله كما كان لوالده الراحل والذي لم يستطع حضور مأتمه بسبب المنفى، علاقات صداقة كثيرة مع اللبنانيين.

الرجل الهادئ الدمث، هو ككل سياسي في الوطن العربي، أصاب كثيرا وفق محبّيه وأخطأ أيضا وفق منتقديه، لكن لا شك أن صالح الذي لم يكن يرغب بالعمل في السياسة وهو في مقتبل العمر، حقّق في خلال ولايته، مناخا من التسويات الجيدة محليا وإقليميا، وما زال لديه الكثير اذا ما عاد رئيسا للبلاد، ولا شك ان الكُرد من خلاله قدموا نموذجا جيدا في الانفتاح والليبرالية والوطنية والوسطية، يحتاجها مستقبل العراق أكثر من أي وقت مضى. فهل يعود؟ ربما، فحوله تتقاطع تسويات كثيرة محلية واقليمية ودولية والدستور العراقي يسمح له بولاية ثانية.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button