شباب 20

تازة.. مدينة التاريخ والنور والزهر المعطر.

ايمن المرابط-الرباط

حين زرت مدينة فاس قبل أسابيع، لم أجُل في كل معالمها لأن زيارتي كانت خاطفة، عدت إليها مجددا، قصدت مكانا واحدا هذه المرة، ساحة الصفارين المشهورة بصنع النحاس والأواني النحاسية  وبيعها، ساحة تسافر بك إلى القرن الثالث عشر، زمن الدولة المرينية، هي متحف مفتوح على السماء، يعبق بالتراث والعراقة والأصالة، والنحاس هنا يقاس عمره بالعقود وربما بالقرون.

تمتلئ الساحة بصوت الضربات والطقطقات على النحاس، وتمتزج روائح الدكاكين بعضها مع بعض وهي تفوح من الكؤوس والمقالي والطناجر وكل أواني المطبخ التقليدي العريق، وقبل الزيارة، أحد أصدقائي، وهو فاسي الأصول، قد قال لي ناصحا “حين تصل إلى ساحة الصفارين، أغمض عينيك وأنصت للضجيج، لا تنزعج منه، استمتع به وبصوت الضربات على النحاس، ستشعر أنك في القرن الثالث عشر”، وذلك ما فعلت، بعد أن اشترت والدتي بضع كؤوس نحاسية عليها نقوش مزينة وأواني أخرى، جلست عند صاحب المحل، وجدته فاسيا أصيلا، متمسكا بالصنعة والحرفة التي ورثها عن أجداده وأجدادهم، أما المحلات هنا، التي تصدر منها الطقطقات كالموسيقى فأصغرها عمرا يبلغ مئة عام فما فوق، وفي المدينة مدرسة الصفارين، تلك المنارة العلمية التي بناها المرينيون في أوج حكمهم ولا تزال شاهدة على تلك الحقبة الذهبية  ببابها الخشبي الكبير وسورها وصومعة مسجدها، وبالمخطوطات العلمية التي لا تزال تحتفظ بها خزانتها، مثلها مثل كل المدارس العريقة وجامعة القرويين التي جعلت فاس عاصمة العلمية للمملكة المغربية.

في الحقيقة، لم تكن فاس هي وجهة رحلتي هذه المرة، بل مدينة أخرى يمكن أن نسميها “توأم فاس” لا تقل تاريخا وعراقة عنها، هي مدينة تازة، استغرق وصولي إليها من فاس حوالى ساعة ونصف، الطريق إليها كلها مروج خضراء ساحرة  وجبال الأطلس المتوسط تراها في الأفق شامخة، موقعها الجغرافي يفصل جبال الريف “شمالا” عن جبال الأطلس المتوسط “جنوبا” و”غربا”، وهي بوابة نحو منطقة الشرق المغربي، وتختزن تراثا ضخما بين أسوارها وأزقتها ومنازلها العتيقة ومسجدها الأعظم الذي يضم واحدة من عجائب الزمن وهي الثريا النحاسية، وقد كان لي فيها ذكريات ألهبت حواسي، وما زالت تعبق بها ذاكرتي حتى اليوم.

كان يوم الجمعة حين وصلت لتازة، هي مدينة منقسمة إلى “مدينتين”، تازة العليا وتازة السفلى، حالها كحال كل المدن التاريخية الكبيرة المنقسمة إما إلى قسمين كمدينة فاس “فاس البالي” و”فاس الجديد”، أو إلى منطقتين غربية وشرقية كالقدس وبيروت وحلب، أو إلى ناحيتين الجديدة والقديمة كمدينة سلا المجاورة للعاصمة الرباط، وهذا التقسيم لمدينة تازة هو على أساس جغرافي محض، والمدينة العتيقة لتازة مع بعض الأحياء الجديدة هي المسماة بتازة العليا، أما السفلى فهي الجزء الحديث والمُحدث منذ حقبة الاستعمار الفرنسي إلى اليوم، والذي تتزايد مساحته بفعل المد العمراني والإسمنت على حساب الأراضي الفلاحية المجاورة.

توجهت فورا نحو تازة العليا، لم أكلف نفسي عناء التجول في أحياء تتكاثف العمارات السكنية وتملأها السيارات والحافلات بصوتها المزعج، بل هدوء ونسيم عليل يملآن المكان، أخذت أشاهد الجبال المزينة بأشجار الزيتون المتراصة. هنا، باب قريب مني، هو باب الريح، فالمدن الضاربة في القدم كلها لها أبواب، دخلت إلى أول زقاق، خطوت أولى خطواتي في هذه المدينة، شعرت أنها تشبه مدنا كثيرة زرتها من قبل، أو عشت فيها لحظات كثيرة كالرباط وسلا، عبر زنقة “سيدي بن الفتوح” الضيقة توجهت نحو “قيسارية” المدينة أي “السوق الكبير”، في الجانبين محلات ودكانين صغيرة تظهر عليها علامات القدم،  وصلت إلى السوق، محلات مختلفة بأبواب خشبية وسقف خشبي منقوش لامع بدا لي حديث العهد، بحثت عن اسم الزقاق الذي وصلت إليه، لأجد “زنقة العطارين” وبعدها “زنقة الطرافين” ثم “الحرارين”…، بهذه الأسماء تُميَّز عراقة المدن وأزقتها وأسواقها، كل اسم له تاريخ وحكاية ويأبى أن تكون له نهاية، وتازة لا تقل أصالة وتاريخا عن المدن الكبيرة بحجم تاريخها الضارب في جذور الحضارة الإنسانية لا بمساحتها.

واصلت الخطى في السوق المظلل بسقفه الخشبي وبدأت تلوح في الأفق الأزقة الضيقة، شعرت أنني أتعمق في المدينة العليا بفضول طفولي يزداد شيئا فشيئا، المنازل هنا بأبوابها الخشبية شاهدة على فترات ذهبية مرت بها وعائلات عاشت فيها، استوقفتي واجهاتها ونوافذها يخال إليك أنها مهجورة، لكن روائح “الكسكس” المنبعثة من نوافذ المطبخ تؤكد استمرار الحياة في هذه المنازل، فيوم الجمعة هو يوم طبق الكسكس عند المغاربة، ثم وجدت نفسي في “زنقة الأندلس”، حيث رأيت الرجال المرتدين الجلباب  يسرعون الخطى نحو المساجد لتأدية صلاة الجمعة، فيما النساء يسرعن بأياديهن في فتل الكسكس وطبخ الخضر ليكون الطبق جاهزا فور عودة المصلين، استرقت السمع إلى نوافذ أخرى يصدر منها  الطرب الأندلسي والسماع والمديح، ولم تخف علي رائحة البخور والعود الممزوجة مع رائحة الكسكس وكأن الجارات في هذه الحارات يتنافسن في من تصدر من بيتها أزكى رائحة وعطر، ربما قد يكون الأمر كذلك، الجميل هو هذا الجو الروحاني المحض الذي سافر بي إلى عوالم أخرى، استحضرني وصف الكاتبة الروائية العظيمة “رضوى عاشور” في ملحمتها “ثلاثية غرناطة” حين تصف في إحدى صفحاتها أجواء يوم الجمعة في غرناطة بعد سقوطها، إن جزءا كبيرا من تاريخ غرناطة  انتقل إلى تازة، وما أراه اليوم هو ذلك التاريخ بعينه وبتفاصيله الكاملة.

العلاقة بين تازة والأندلس عريقة وواضحة، وفي تازة حتى يومنا هذا، العديد من الأسر التازية التي تعود أصولها المباشرة لمدن أندلسية و نجد من بين هذه الأسر والعائلات، عائلة الخصاصي الأندلسي وعائلة بن سودة حيث يقال إن أصولها قرشية تعود لبني مرة واستقرت في غرناطة قبل أن تستقر في فاس وتازة وهم أهل بيت صلاح وعلم، وبيت المالقي ينسبون إلى مدينة مالقة، ومنها هاجروا مباشرة إلى مدينة تازة، وعائلة القرموني: ينسبون لقرمونة، ومنها هاجر أسلافهم إلى تازة، وعائلة البريهي  الذين ينسبون لقبيلة البريهي اليمنية الأندلسية، قبل أن يهاجروا كغيرهم إلى تازة.

وهناك، رأيت أمامي “مسجد الأندلس” وصومعته الناصعة البياض، لاشك أنه معلمة تاريخية متجذرة في القدم وذاكرة حية على قدوم العائلات الأندلسية في القرون الفائتة لهذه المدينة. واصلت المسير بين الأزقة الضيقة بعضها لا يمر منه إلا شخص واحد فقط ولا تزال روائح الطبخ تملأ المكان وتُشعر المارة بالجوع والرغبة في الأكل. خرجت إلى ساحة كبيرة بها معلمة تازية بارزة هي “دار السماع”، دار تازية عريقة تديرها “الجمعية التازية لفن السماع والأمداح النبوية”، يتعلم فيها الكبار والصغار أصول هذا الفن الراقي وتخرج منها أصوات شجية وندية، كما تستضيف في كل سنة مهرجانا دوليا لموسم “تقطير ماء الزهر” هذه المناسبة التي جعلت من تازة قبلة للعديد من السياح والزائرين المولوعين بحب المدينة.

يعد تقطير الزهر عادة عريقة دأب عليها سكان مدينة تازة الذين لا يزالون يحافظون على هذا الموروث من خلال الاحتفال به مع حلول فصل الربيع من كل سنة، حيث تكتسي أشجار النارنج وشاحا أبيض بتفتح نبتة الزهر، فتفوح رائحتها في المنازل والشوارع، إيذانا ببدء عملية الجني وانطلاق موسم التقطير. تبدأ عملية تقطير الزهر، بوضوء المرأة والصلاة للتيمن والبركة، ودعوى الزوجة زوجها لحضور بداية العملية. يترافق ذلك بجملة من الاجراءات وطقوس تدبير خاصة تهتم بطهارة المكان، مع إقدام أهل البيت على اطلاق البخور مما يعتقد أنه مطهر وحافظ لقدسية هذه العملية ونجاحها.

تشترك في عملية التقطير سيدتان ترتديان زيا تقليديا نظيفا. وتشمل الترتيبات الأولية قراءة الفاتحة ثم الصلاة على النبي وذكر الله والدعاء، وإسدال ستار حاجب لعملية التقطير برغبة رمزية في حمايتها.

يجري الفعل باستخدام آلة القطارة، التي ترتكز على وحدة تحويلية، تتركب من الأواني النحاسية، ومصنع تقطير الزهر الذي يشمل “البرمة” حيث يسكب الماء وتوضع حبات الرنج ونبتة الزهر، يعلوها الكسكاس الذي توضع فيه حبات الزهر، ثم الرأس حيث يتم سكب الماء البارد فيصعد البخار إلى القبة، وينساب روح الزهر عبر أنبوب لينسكب قطرات صافية تتجمع في زجاجات الحفظ، وترافق هذه الممارسة الطقوسية احتفالية خاصة يميزها الإنشاد والزغاريد وترديد الأمداح النبوية.

بعد توقف قليل، انطلقت صوب معلمة أخرى، “المسجد الأعظم”، أكبر مساجد المدينة والمملكة، صرح ديني عريق يحظى بمكانة عظيمة لدى الساكنة والعلماء وأهل الذكر، ما يزال شاهدا على حضارة وعمق تاريخ تازة٬ ويعدّ من أهم المعالم التاريخية منذ أن بناه الموحدون في أوائل القرن السادس الهجري، غير أنه لم يبد على الشكل الذي عليه الآن إلا في عهد المرينيين الذين أتموا الشطر الثاني منه بإضافة ست بلاطات وقبة مشرفة على المحراب، تعدّ من أبدع القباب تصميما وزخرفة وأجملها رونقا وفتونا، ولا يمكن ذكر هذا المسجد من دون الحديث عن الثريا التي تتوسّطه، وتعتبر ثاني أكبر ثريا في أفريقيا بوزن يفوق ثلاثة أطنان من النحاس، ويزيّنها أكثر من 500 مصباح. ويعود صنع هذه الثريا وتعليقها إلى العهد المريني، وتحديدا عهد السلطان يوسف أبو يعقوب، وذلك في أواخر القرن الـ13 للميلاد والسابع للهجرة. تكفي زائري هذا المسجد التاريخي  قراءة الأبيات الشعرية التي نقشت فوق الثريا، للاطلاع على تاريخها بشكل مختصر، حيث تقول:

يا ناظِراً في جَمالي حقق النّظَرا

ومتّعِ الطَّرْف في حُسْني الذي بَهَرا

أنا الثُّرَيـا التي تازا بــي افتخرت

على البلاد، فما مثلي الزمانَ يُـــرى

أُفرِغتُ في قالب الحُسن البديع كما

شاء الأمير أبو يعقوب إذ أمَـــرا

في مسجد جامعٍ للناس أبدَعهُ

مَلْكٌ أقام بعون الله منتصِـــــرا

حين دخلت المسجد شعرت برهبة المكان وقدسيته، به فناء شاسع مزين بأشجار النارنج المُزهرة والمثمرة، وأرضية مزينة بقطع الفسيفاء مختلفة ألوانه، سألت أحد المصلين عن مكان الثريا، دلّني إليها فورا وقال لي بابتسامة لطيفة “تمتع بها”، فهم أن زيارتي للمسجد هي لأجل هذه الثريا، وفعلا حققت النظر وانبهرت بعظمة ما أراه، أقف أمام ثمانية قرون من الزمن مجسدة في النحاس المنقوش بإتقان منقطع النظير وضخامة الثريا تشهد على عظمة حضارة دولة وصلت لقمة الرقي والازدهار والجمال، تعلقت روحي بها فورا وبقي قلبي معلقا أيضا بين المصابيح التي كانت في السابق كؤوسا نحاسية، ولاشك أن أرواحا أخرى معلقة هنا، مر أصحابها بين جدران المسجد وصلوا فيه تحت نور الثريا العظيم.

بعد الصلاة أكملت المسير عبر الدروب الضيقة، من “درب السلاوي” إلى “درب بوشجرة” ودروب أخرى، لكن ما حز في نفسي داخل تازة، هو الإهمال الواضح الذي تعاني منه منازلها ومعالمها، تُركت لوحدها تصارع الزمن وعوامله، شامخة وصامدة أمام جبروت النسيان الذي طال بعضها، تكاد تصرخ بصوت عال في وجه أبنائها، كما لا يُلاحظ أي أثر للسياحة الدولية كما هو شأن مدن عتيقة أخرى كفاس والرباط وشفشاون ومراكش، وتازة لا تقل عن هذه المدن في شيء، هي التي قال فيها لسان الدين بن الخطيب  مقولة شهيرة تردّدها الألسن حتى الآن، وهي عبارة من “مدينة تازة إلى قرية فاس” التي مهّد بها لانتقاله من وصف مدينة تازة إلى نظيرتها فاس، مما يعني أن المدينة المنسية اليوم، لم تكن تقلّ شأنا ولا بهاء عن العاصمة التاريخية للمغرب، ومعالمها هي جزء كبير وذاكرة حية  بارزة في تاريخ الحضارة الإنسانية العالمية، وتستحق الاحتفاء، والاعتراف بها على الصعيد الدولي لا الوطني فقط، وفاء لمن بنوها وعاشوا فيها وجعلوا منها قبلة للعلم والمعرفة والصناع والمبدعين. وهي اليوم، لوحة حضارية متكاملة ساحرة وآسرة للقلوب.

اختتمت جولتي في تازة بالوصول لباب الريح، باب شامخ يشرف على كل “تازة السفلى” والجبال المحيطة بها، منظر بانورامي فاتن لا يُرى إلا في تازة، هذا الباب ببرجه العتيد  المحصن حمى المدينة لقرون عديدة من الأطماع الخارجية والهجمات العسكرية التي تعرضت لها المدينة، وبموقعه الاستراتيجي كما المدينة، فإن كل الدول المتعاقبة على المغرب كانت تضمن سيطرتها على المملكة بالسيطرة على تازة وأبوابها.

خرجت من المدينة وأنا أعلم أن كنوزا أخرى لا تزال مخبأة تقاوم هي الأخرى الزمن والنسيان والعمران الحديث الذي يغزو ضواحيها ومروجها الخضراء المحيطة بها، تحسرت على سرعة مرور الوقت الذي حال دون إكمال جولتي، تركت روحي معلقة بين كؤوس الثريا التي استمدت منها النور والمحبة والعشق، فيما علقت بأنفي روائح طبق الكسكس التي ملأت المكان، لاشك أنه طُبخ بحب وشغف وهيام وإلا لما انتشر عطره مع بخور العود والزهر من النوافذ، أما الزهر و ماء الزهر المُعطر فقد جلبتها معي لأتذكر بهما عطر المدينة حين أشتاق لها..

 

الكاتب

أيمن المرابط : إعلامي وباحث جامعي

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button