آخر خبرمقال اليوم

خطابا بوتين وبايدن عودةٌ الى موروث الحرب الباردة ولكن..

خطابا بوتين وبايدن عودةٌ الى موروث الحرب الباردة ولكن.. 
 هادي جان بو شعيا  
توقّع كثيرون ألا يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الكلمات المناسبة في خطابه الأخير عن حالة الأمة، بعد مضي عام على إنطلاق حربه على أوكرانيا. إذ سرقت زيارة الرئيس الأميركي جوزف بايدن لنظيره الأوكراني فولودومير زيلينسكي في كييف الاثنين الأضواء من بوتين من جهة، وتحوّلت العملية العسكرية الخاصة التي قادها سيّد الكرملين إلى انتكاسة كشفت مكامن ضعف خطيرةً في بنية الجيش الروسي وعتاده. 
لكن جراب بوتين لم يكن فارغًا تمامًا، بل رمى بورقة تعليق المشاركة في معاهدة “نيو ستارت” المبرمة مع الولايات المتحدة الأميركية والخاصة بخفض الأسلحة النووية ومنع انتشارها.  وذلك فيما قُوبِلَت ورقة بوتين تلك بتجاهل تام من قبل بايدن، في خلال كلمته في وسط العاصمة البولندية وارسو، والتي وصفت بالتاريخية وأعقبت كلمة بوتين ببضع ساعات فقط. 
أكد بايدن على وقوف بلاده الراسخ مع أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، منوّهًا بأن حسابات بوتين التي بنى عليها قرار غزو أوكرانيا كانت خاطئة تمامًا، وعلى رأسها رهانه المعقود على تفكّك دول حلف شمال الأطلسي “الناتو”. 
لم يخلُ خطابا بايدن وبوتين من التفاصيل الكثيرة التي أدلى بها الرئيسان في يوم حاسم لصراع يبدو غير متكافئ على زعامة العالم. 
 “الاحتباس” الاستراتيجي  
يضاف إلى ذلك أن الخطاب يتسم في مضمونه بالرمزية أكثر من المحتوى الاستراتيجي، الأمر الذي يفرض سؤالاً جوهريًا مفاده: هل قدّم بوتين رؤية جديدة بعد مرور عام على المعارك الطاحنة و”العبثية” في أوكرانيا؟! ما يتطلب الاستعانة بأدوات التحليل النقدي للخطاب كافة، خصوصًا أن واشنطن تدرك تمامًا أن بوتين يعاني من حالة “الاحتباس الاستراتيجي” بمعنى أوضح أنه لم يعد لديه خيارات كثيرة، ما يفسّر ربما الانسحاب الروسي من اتفاقية “نيو ستارت”. 
لا شك أن الولايات المتحدة ستقبل مرغمةً بهذا الانسحاب ولن تدفع باتجاه زيادة الضغوط على الرئيس الروسي، ما قد يؤدي إلى كارثة نووية، بُعيد إعلانه عن وضع المنظومة الاستراتيجية النووية الجديدة في حالة تأهب قتالي. كما يستعين بوتين مجددًا، وبعد مرور عشرة أشهر، بلغة التهديد والوعيد النووي. 
 المناورة وإدارة الصراع  
في المقابل، تكتفي واشنطن اليوم بالتريث ومراقبة ماذا يدور في ذهن سيّد الكرملين في هذه المرحلة. وكيف ستنعكس ميدانيًا على الاستراتيجية العسكرية التي يبدو أنّها لن تشهد تغييرات تذكر. وعليه يمكن الجزم بأن الخطاب يستخدم النبرة التي تستند إلى المناورة. الأمر الذي يترجم عمليًا بمرحلة إدارة الصراع وليس البحث عما هو أكثر من ذلك. 
كما ينبغي أن يتم إسقاط التشبيه ذاته على خطاب بايدن في وارسو، حيث لم يقدّم أو يرسم بعدًا آخر، ما يشي بأن الكرملين والبيت الأبيض يجدان نفسيهما مرغمين على إدارة المرحلة التي تتسم بالأَنَفة السياسية والتي تبدو في ظاهرها قوية، غير أنها ليست ذات محتوى استراتيجي حقيقي. 
ولعلّ القيمة الحقيقية الوحيدة، عند إجراء قراءة متأنية لكلا الخطابين، تؤكد على أنَّ الرهان على حدوث تقارب أو انفراجة يفضيان إلى نتائج ملموسة، من شأنها أن توقف آلة الحرب والدمار خلال أشهر، ربما علينا الانتظار لسنوات!
 غنائم الحرب 
على نحو مختلف، تعهّد بوتين أيضًا في كلمته بتطوير موانىء البحر الأسود وبحر آزوف وتوسيع علاقات بلاده الخارجية، كما تعهّد ببناء ممرات استراتيجية ولوجستية استراتيجية جديدة… هل يعني ذلك “طريق حرير” روسي منافس لنظيره الصيني؟ هل الوقت مناسب لطرح مواضيع وإطلاق مشاريع مماثلة؟
في الواقع، حديث بوتين عن بحر آزوف بوصفه عاد ليكون بحرًا داخليًا روسيًا، وكذلك الممر البحري من روسيا القارية إلى شبه جزيرة القرم، إنما يندرج، بالدرجة الأولى، ضمن سعي القيصر الروسي لتقديم نوع من الإنجازات أو الغنائم في خطابه. ذلك أنه منذ أن أحكمت روسيا السيطرة على بعض المناطق في جنوب شرق أوكرانيا بات هناك ممرًا بريًا يربط شبه جزيرة القرم بباقي أنحاء روسيا، بحيث لم يعد بمقدور كييف نشر أي صواريخ على مقربة من القرم. ما ينطوي على إبراز الغنائم المكتسبة من حربه أمام الناخبين، خصوصًا أن هناك انتخابات رئاسية في العام المقبل الذي يعتبر عامًا، في بالغ الأهمية، من وجهة نظر السياسة الداخلية الروسية. 
أما في ما يتعلق بتنويع الشراكات والطرق التجارية، فجاءت روسيا لتؤكد على لسان بوتين أن لديها شركاء من خارج الكتلة الغربية المناوئة لها، فضلاً عن أن عدد الدول التي لم تنضم إلى العقوبات ضد روسيا تمثل الأغلبية المطلقة والساحقة من دول العالم وسكان المعمورة.
 سور الصين وما خلفه.. 
بالنظر إلى ردود الفعل العالمية على خطاب بوتين، أبدى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” قلقه المتزايد من احتمال تقديم بكين دعمًا عسكريًا لموسكو، علمًا أن وزير الخارجية الصيني وانغ يي قال، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، إن بلاده تعتزم تقديم خطة لوقف الحرب، فعلى أي جهة تقف بكين حقيقةً؟ 
أين أضحى سيناريو التحالف الصيني-الروسي، خصوصًا بعد الإتهامات الأخيرة بتزويد الصين بوتين بقطع غيار وأسلحة وذخيرة تدعم حربه في أوكرانيا؟ وكيف ستتعامل واشنطن إزاء كل ذلك؟
مما لا شك فيه، أنه بالرغم من كل الودّ الذي يسود العلاقات الروسية-الصينية، وما يترتب عليها من تبادل المصالح، وفي ظل ما تشهده هذه المرحلة من أزمات عدة، بدءًا بحرب أوكرانيا، مرورًا إلى أزمة تايوان، وصولاً إلى الاستفزازات المتبادلة بين الصين وأميركا، كان من المفترض، وفق المنطق السياسي، أنه إذا ما كان هناك من “ربيع” للعلاقات الروسية-الصينية فهذه المرحلة تكون مواتية تمامًا. 
 الاقتصاد السياسي أولاً 
 يبدو أن الصين تتريّث إلى حدّ كبير، وتنطلق القناعة الأميركية أن الحلف المنشود من قبل الكرملين وليس بالمستوى ذاته من قبل بكين لن يكتمل. ذلك أن أي تزويد بعتاد عسكري صيني لروسيا يعني مزيدًا من تأزيم العلاقات الصينية-الأميركية، فبالإضافة إلى سياسة بايدن بشأن احتواء الصين كأهمية استراتيجية لفريقه وحكومته، سيتم فرض مبدأ العقوبات التي تخيف الصين، لأنها ستربك اقتصادها وتقطع الجسور التي مدتها بكين، عبر أعوام، إلى الأسواق الخارجية وتطيح جميع الاستثمارات التي دخلتها بكين. إذ لدى الصين صناديق سيادية واستثمارية، فضلاً عن قروض بتريليونات الدولارات إلى الخزينة الأميركية. 
وعليه يمكن الجزم بأن لغة الاقتصاد السياسي في العلاقات الصينية-الروسية والعلاقات الصينية-الأميركية تفرض نفسها على التحالف الاستراتيجي بين بكين وموسكو. وبالتالي يستوجب على الروس والأوروبيين بأن لا يبالغوا بهذا التقارب بين بكين والكرملين. 
 لغة الليبرالية المعيارية  
بالعودة إلى خطاب بايدن يبدو أن مضمونه لم يحمل أي جديد، ولم يؤسس لأي مقاربة جديدة بشأن مآلات الصراع في أوكرانيا، لكنه قال بأن بلاده ستدافع عن الديمقراطية التي أضحت، بعد الغزو الروسي، أقوى بكثير من ذي قبل، فيما أصبحت النظم السلطوية أضعف. في إشارة من بايدن إلى أن غزو بوتين لأوكرانيا زاد الغرب قوة على حساب نظامه وشركائه الذين باتوا أضعف من ذي قبل. 
في منطق التحليل النقدي للخطاب، لم يقدّم خطاب بايدن، على غرار خطاب بوتين، خطة تنطوي على ما هو جديد لتتجاوز خطة بوتين ولإضافتها على أرض المعركة، عسكريًا واقتصاديًا، ما يبرز فقط التبارز الاستراتيجي. 
لذلك يعاني الخطاب الأميركي من احتباس استراتيجي أيضًا، وعندما لا يجد ما يأتيه من أدبيات ومفاهيم الواقعية السياسية يلجأ إلى اللغة الليبرالية والمعيارية في حديثه عن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان. 
وهذه الخطب متوارثة، وتمثل القاموس نفسه الذي ساد طيلة فترة الحرب الباردة، والذي استعان به الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في العراق وأفغانستان، وسبق أن استخدمها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في العراق، وكذلك استُخدِمت من قبل الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون في فيتنام على اختلاف الحالات والظروف طبعًا. 
في المحصلة، يعاني الخطاب الأميركي من افتقاده إلى مسائل وقضايا معاصرة تتناسب مع موقفه إزاء القضية الأوكرانية التي تتطلب استشراف ملامح مرحلة أخرى، خصوصًا إذا ما ارتفع منسوب العناد لدى بوتين، فهذا التراشق من بعيد لن يؤتيَ أُكُلُه، في ظل تشبث كلا الرجلين، بوتين وبايدن، بخطاب التصعيد والمفاخرة، والذي حتمًا لن يزيد في مجدهما الاستراتيجي.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button