تظاهرات المغرب تُفاجيء بالشعارات والصوَر…لماذا؟

أيمن مرابط – الرباط
لم تكن ذكرى السابع من أكتوبر أو عملية “طوفان الأقصى” كما أسمتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في غزة قبل سنة من اليوم، لتمر بهدوء في الشارع المغربي الذي لم يتوانى طيلة اثنا عشر شهرا عن التظاهر ورفع صوت التضامن الشعبي مع غزة وفلسطين واليوم مع لبنان واليمن وسوريا وضد “إسرائيل” في همجيتها القاتلة والمدمرة بالشرق الأوسط.
يوم الأحد، هو يوم عطلة رسمية في المملكة المغربية، عادة ما تخرج العائلات للتنزه في الفضاءات الخضراء أو يجلس الأصدقاء في مقاهي المدينة صباحا ويتبادلون، أو تختار فئات أخرى الجلوس في البيت وتأخذ قسطا من الراحة بعد أسبوع من العمل الشاق، لا يخرج روتين هذا اليوم في العاصمة عن هذا النطاق المعتاد.
لكن يوم الأحد الماضي، خرج عن المألوف بعض الشيء، حيث كانت الرباط على موعد مع مسيرة مليونية حاشدة، دعت إليها هيئات ومنظمات حقوقية وحزبية ونقابية مغربية على رأسها المرصد المغربي لمناهضة التطبيع ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، وحركة التوحيد والإصلاح التابعة لحزب العدالة والتنمية وجماعة العدل الإحسان وغيرها من الهيئات، قُوبلت بتلبية شعبية واسعة النطاق.
على مسار امتد لحوالي الكيلومتر مشيا بالأقدام، انطلاقا من ساحة باب الأحد وسط العاصمة مرورا بشارع الحسن الثاني، ووصولا إلى قلب شارع محمد الخامس حيث مقر البرلمان المغربي وهو الشارع الرئيسي للوقفات الاحتجاجية والمسيرات، انطلقت حشود المتظاهرين التي هبّت من مختلف مناطق ومدن المملكة للتعبير عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية والمندد بجرائم “إسرائيل” المستمرة بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، مع مطالبات بإغلاق الدولة لمكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط الذي أُعيد فتحه قبل أربع سنوات.
صور قادة حزب الله تُعيد ذكريات 2006 وما قبل 2011
أعلام فلسطين ولبنان واليمن وسوريا وحتى أعلام حركات المقاومة، ولافتات كبرى مكتوبة عليها شعارات من قبيل “من غزة إلى بيروت…المقاومة لا تموت”، “أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة…أوقفوا مسلسل التطبيع مع الكيان”، وصور لافتة لقادة المقاومة في فلسطين ولبنان الذين قضوا نحبهم جراء الاغتيال الإسرائيلي لهم قبل أيام وأسابيع، على رأسهم القيادي إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله والقيادي صالح العاروري والقائد في حزب الله فؤاد شكر، كلها نماذج بصرية تصدرت المشهد الاحتجاجي، وأعطت زخما تضامنيا واسع النطاق والتوجهات، وشكلّت عنصر مفاجأة لعدد من الحاضرين والمتابعين لمسار المسيرات الحاشدة في المغرب عامة.
قبل سنوات من حرب طوفان الأقصى، أو بشكل أدق خلال سنوات العشرية السوداء العربية، كان من غير الممكن أن تُرفع شعارات ولافتات أو صور لقادة حزب الله في المسيرات والوقفات التضامنية مع القضية، ذلك أن مُعظم المنظمين لها ينتمون للتيارات الإسلامية الحركية وبعض اليسار في المغرب، وكانوا على موقف عدائي “ثابت” نوعا ما مع حزب الله، لاعتبارات سياسية وأيديولوجية وحتى دينية ومذهبية، حين كان وطيس المعارك والدمار في سوريا حاميا، وانحرفت بوصلة البنادق والمواقف عن اتجاهها الأصلي في المنطقة العربية بأكملها، وصار التخوين تارة والتكفير تارة أخرى، عنوان مرحلة سوداء في تاريخ العرب كان المستفيد الأول والأخير منها هي دولة “إسرائيل”.
اليوم، ومع احتدام المعارك في جنوب لبنان بين حزب الله و”إسرائيل”، واشتداد القصف الإسرائيلي على العاصمة بيروت والمدن والقرى اللبنانية، أسقط المُحتجون المغاربة كل الخلافات السابقة مع حزب الله أو أي تنظيم يُقاتل ضد “إسرائيل”، وأكدوا أن مُنطلقات التضامن والتعاطف مع الشعب الفلسطيني واللبناني والمقاومة هي إنسانية محضة بالدرجة الأولى وفوق كل الاعتبارات والحسابات الضيقة، ومثلما كانت المواقف المُساندة والداعمة للبنان وفلسطين في سنوات الألفين و2006 وكل المحطات والحروب، فإنها لم تتغير في هذه الحرب الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط.
الاحتجاجات.. وسؤال التبعية المشرقية
بالمقابل، ترى أطياف سياسية وثقافية وجمعوية واسعة بالمغرب، أن المسيرات والمظاهرات المتواصلة على مدار سنة ضد “إسرائيل” وحربها على غزة، تعني شيئا واحدا، هو التبعية العمياء للمنظمين والمحتجين لقضايا الشرق الأوسط فقط، خاصة وأن الأسماء والوجوه التي تُمثل هذا الخط الاحتجاجي والسياسي أيضا، لم تتغير منذ عقود خلت، ويُعاتب عليها بشدة غيابها عند وقوع أحداث كبرى تخص القضايا المغربية المحلية والدولية، بينما يُسمع صدى صوتها فقط في القضية الفلسطينية البعيدة جغرافيا.
في نفس السياق، وبعد توقيع المغرب لاتفاقية إعادة فتح مكتب الاتصال مع إسرائيل وتوقيع عدد من الاتفاقيات المشتركة في مجالات عسكرية ومدنية معها، تجد نفس الأطياف أن الاحتجاج المستمر ضد “إسرائيل”، يشكل إحراجا للمغرب مع شركائه الدوليين ولا يتماشى مع التوجهات الخارجية الكبرى، بل ومن يعتبره وقوفا في المكان الخطأ ومع الأطراف الخطأ، خاصة إيران وحزب الله المُتهمان بشكل رسمي بتقديم الدعم لحركة البوليساريو الانفصالية في الصحراء، الأمر الذي يفرض واقعا جديدا داخل المغرب في التعاطي مع القضية الفلسطينية وكل قضايا الشرق الأوسط.
تعمد الدولة المغربية بأجهزتها الرسمية في هذا الشأن الخلافي بين التيارات السياسية المغربية أن تكون كلمتها هي الفيصل والأعلى، خاصة المؤسسة الملكية التي تُعد أعلى سلطة في البلاد، فهي تُصرّح بشكل مستمر وواضح عن عدم التنازل عن دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني وفق ما يُمليه الإجماع العربي والدولي، وعن رفضها للممارسات العدوانية الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية، ولا تعتبرُ أن سياق إعادتها للعلاقات مع “إسرائيل” هو سياق تنازلي أو توقيع شيك على بياض لها لتُدمّر وتفتك بالبشر والشجر والحجر، لكنّها في نفس الوقت ترسم أفق علاقات مع إسرائيل وفق نسق براغماتي تفرضه التحديات الأمنية في منطقة شمال وغرب إفريقيا، ونسق إنساني أيضا حيث جاليات يهودية مغربية بمئات الآلاف تعيش في إسرائيل ولها عائلات وأملاك خاصة بها في المغرب.
من هذه النقطة، يستمد منظمي الاحتجاجات ضد إسرائيل في المغرب، مشروعية احتجاجاتهم ومسيراتهم التضامنية مع فلسطين والمقاومة، كونها لا تخرج عن الإطار العام الذي وضعته الدولة وتُعلن عنه، ولا تتناقض مطالبها مع الطرح الرسمي وهو إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وبما أنه لا يوجد موقف رسمي ضد حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة فإن دعمها لا يُشكل حرجا أو خطأ سياسي لا يُغتفر، ناهيك عن أنه على مدار سنة كاملة، لم يُسمع عن قمع أو منع أي شكل احتجاجي تضامني في مدن المغرب إلّا فيما ندر، ويُشيرون أن دوافع احتجاجهم هي في الأساس تنبع من الرفض الرسمي للجرائم الإسرائيلية في غزة وفلسطين، وهي ترجمة للتوجه الرسمي وليس العكس.
قلق إسرائيلي واستفزازات متتالية
لا شك أن النفس الاحتجاجي ضد “إسرائيل” المُتصاعد في المغرب على امتداد عام كامل، يُشكل مصدر قلق وانزعاج لدى الإدارة الإسرائيلية، خاصة وأنها راهنت على أن عودتها للمغرب من باب إعادة فتح مكتب الاتصال وملفات الذاكرة اليهودية في المغرب واليهود المغاربة وقضايا أخرى واستغلالها لمشاريعها التغييرية للمنطقة العربية بأكملها، ستُمكّنها من بناء واقع مغربي متصالح معها رسميا وشعبيا بشكل تام، بيد أن الطرح الإجرامي الذي يقوده اليوم بنيامين نتنياهو وحكومته في قطاع غزة ينسف كل جهود “إسرائيل” السابقة للتأقلم السريع والسلس سواء في المشرق أو في المغرب.
هذا القلق والتوتر لا يكلفان بنيامين نتنياهو أي عناء ليُعبّر عنه بوضوح في كل مناسبة، فبمجرد أن يضع خلف صورته خريطة المغرب مبتورة من الصحراء، يفهم المغاربة أن الرجل الأول في “إسرائيل” يُعبر عن عدم رضاه مما يحدث في المغرب، سواء رسميا في مواقف سياسية أو شعبيا في المسيرات المتتالية والأشكال الاحتجاجية ضد دولته التي لم تهدأ منذ سنة، وعلى الرغم من إعلانه في وقت سابق وتوقيعه مرسوم حكومي يُقر بالاعتراف بمغربية الصحراء، فإنه يرى أنها ورقة مهمة يستطيع أن يضغط بها على المملكة ويستفز بها المغاربة، كُلّما جرت الرياح الدبلوماسية والسياسية في المغرب، بما لم تشته سفنه الغارقة جراء الطوفان في المشرق.
لا تغيب الخلفيات التاريخية والدينية للعلاقة بين المغاربة وفلسطين عن ذهن الدولة المغربية والشعب المغربي، كما أن الذاكرة الحيّة في المدن الفلسطينية التي يُحاول بعض المتطرفين في إسرائيل محوها، تُشكل نقطة انطلاق لكل مسار احتجاجي شعبي مُناهض لإسرائيل، كما أن الدولة تبذل جهودا حثيثة للمحافظة عليها، من خلال وكالة بيت مال القدس التابعة للجنة القدس التي يرأسها العاهل المغربي محمد السادس، ويُمكن من خلال تلك الجهود طرح بدائل فورية واقعية تُمهّد الأرضية المشتركة لصنع عملية سلام جادة وعادلة، وتُساعد في إنهاء صراع قرن من الزمن أتى بالدمّار على الأخضر واليابس في المنطقة، وتنتقل بالمنطقة من منطق تدبير الأزمات والحروب إلى منطق التفكير في الحلول النهائية والعادلة والضامنة للحقوق الفلسطينية المسلوبة.