آخر خبرافتتاحية

  اللواء خالد نزار..بين المجازر والمقابلة.

                      اللواء خالد نزار…والمجازر فالمقابلة.

 سامي كليب:

اتصل بي اليوم صديقٌ من الجزائر قائلا:” أودّ أن أعزّيك بوفاة صديقك اللواء خالد نزار”. وحين كنتُ في الجزائر قبل أسابيع قليلة، سألتُ عنه لزيارتِه، لكني عرفتُ أنَّ وزير الدفاع السابق الذي كان يومًا ما، مالئَ البلاد وشاغِلاً ناسَها، لم يعد قادِرًا على استقبال الزوّار أو الكلام، لأنَّ أحوالَه الصحيّة تدهورت وبات في العناية الفائقة.  

لا أدري إذا كانت صفةُ الصداقة تنطبق على علاقِتنا المتقطّعة، لكني حتمًا أدين للرجل بأنّه خصَّني بأول مقابلةٍ طويلةٍ معه، بعد ما عُرف بالعشرية السوداء، أي سنوات الحرب العشر، التي ناءت تحتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وغرقت في حمامات دمٍ وأحقاد، اختلط فيها الداخل بالخارج، في بلدٍ ما يزال أعداؤه السابقون يتربّصون به عند كلّ مُفترق رغم الابتسامات التي تُخفي خلفها أنيابُ الذئاب.

قصّة تلك المقابلة جديرةُ بالرواية، أولاً لظروفها ومضمونها، وثانيًّا لصُدفتِها الاستثنائية. فقد كنتُ آنذاك في واحدة من زياراتي الكثيرة إلى البلد الذي أحببتُه منذ صباي، ورافقتُه في عزّه وكبواته، وفي نهضته، وحربه، ورأيت فيه شهامة شعب لا تمسّها إغراءات الدُنيا، وصلابة موقف لا تغيّره ضغوط الكون. كنتُ  آنذاك مُراسلاً حربيًّا لإذاعة فرنسا الدوليّة وصحيفة السفير اللُبنانيّة وبعض وسائل الإعلام الأخرى، أغطي انتخابات الجزائر وأحداثَها وحربَها وصولاً إلى تغطية مرحلة اغتيال الرئيس ” الطيّب” محمد بوضياف.

اتصلت آنذاك بزميلٍ وصديق عزيز هو ماجد نعمه الذي كان يُعتبر الأعمق بيننا في معرفة الجزائر. وسألته إن كان يستطيع أن يؤمن لي لقاء مع اللواء خالد نزار لإقناعه بحوار مطوّل لبرنامجي في قناة ” الجزيرة” “ زيارة خاصّة” والذي استضفت فيه مئات الشخصيات السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة والنضاليّة وغيرها. كعادته لم يتأخر ماجد في الوساطة، لكنَّ الجنرال كان متحفّظًا وغيرَ راغبٍ بالمقابلات. فكّرتُ بأن ليس لي وسيلة إذًا سوى إثارة كرامته، فقلتُ له عبر الهاتف :”يا سيادة اللواء، كلُّ الناس في الخارج يقولون إنَّ الجيش يرتكب المجازر وإنّه هو الذي نفَّذ مجزرة “طلحة” الدمويّة حيث أُبيد قسمٌ من أهلها”، فانتفض اللواء، كما توقّعت، وقال بالعربيّة والفرنسيّة ما معناه :” هل أنت يا أخي سامي تقول هذا الكلام وانت تعرف الجزائر جيدًا؟”، قلت، بعد أن أيقنت أن الأمر قد يسير كما اشتهي :” يا سيادة اللواء، كلُّ الناس يتحدّثون ضدّ الجيش ولا نسمعكم تقولون شيئًا، فهذا طبيعي، واليوم معظم المعارك هي معارك إعلام”.

انصتَ اللواء نزار إلى ما أقوله ثم دعاني لشرب القهوة في بيته. سرى ودٌ سريعٌ بيننا، ولعلّه أدرك بذكائه الحاد، أنّي أحب فعلاً بلادَه، وأنّي من جيلٍ حمل الثورة الجزائريّة في قلبه، وأنّ هدفي من اللقاء هو توضيح الصورة، خصوصًا أنّي قابلتُ أيضًا الشيخ عبّاسي مدني وغيره في الخارج.

هُنا طرأت مشكلةٌ أخرى، فالرجل الذي قرّر الحديث للمرّة الأولى وكَشْفَ الاسرار، كاد يعتذر عن لغته العربيّة الفُصحى، وقال إنَّ اللهجة ستُضعف الحوار،وأنّه قد يُضطر لاستخدام بعض الكلمات الأجنبيّة، فقلت له ضاحِكا:” يا أخي، حتّى لو تحدثتَ بالسنسكريتيّة سافهم عليك، ولا تقلق فأنا أرتّب لاحقا المضمون”.

وهذا ما حصل فعلاً، وكان لقاءً صريحًا وعميقًا وجريئًا من حلقتين، لاقتا صدى كبيرًا في الجزائر والخارج، وبقينا على تواصل، بحيث أسال عنه من وقت إلى آخر، وهو يطمئن عليّ خصوصًا حين يزور فرنسا.

وُلد اللواء نزار  في قرية سيريانا في باتنا ببلاد الأوراس التي اقتبست اسمها عن أسودها،  ترعرع في عائلة من أربعة عشر فردًا ،كان والدُه في صفوف الجيش الفرنسي في خلال الحرب العالمية،  فشاء القدر وفقرُ حال العائلة وإغراءاتُ المستعمر الفرنسي نفسه، أن يُرسل الوالدُ ابنَه خالد نزار إلى المدارس العسكرية الفرنسية، تعلّم هناك فنون الحرب على يد المستعمرين فيما الاستعمار يضرب بلادَه بالحديد والنار، فكان طبيعياً إذًا أن يفرَّ الضابط الصغير من صفوف الجيش المستعمِر ويصوب بندقيته ضد معلميه ويعود إلى أبناء جلدته، اتَّصل بالثوار الجزائريين في ألمانيا ثم في فرنسا واستقرَّ به الحال أولاً في تونس حيث بدأ بتدريب الثوار، لكن تفانيَه في التدريب لم يستطع أن يُلغِ الحذرَ منه بين رفاقه الثوّار خشية أن يكون مدسوسًا من قِبل الفرنسييّن.

  كان الضابط خالد نزار في الحادية والعشرين من العمر حين بدأ يدرب الثوار الجزائريين في تونس، وكانت دماءُ الثوار النقيّة في بلاده تقول للمستعمر إنَّ نهايتَه باتت قريبة، طلب الانتقال إلى أرض المعركة في جبال الجزائر الضاجّة آنذاك بالثورة والبطولات، فالتحق بها في أواخر العام وتحديدًا في الناحية الأولى التي كان على رأسها الشاذلي بن جديد والذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية.   

شارك في معارك جبل البلوط وبورجيلات وغيرهما، وفيما كان المجاهدون يُسطّرون الملاحم ضدّ المُحتل، كان ثمةَ صراعٌ قد بدأ يظهر إلى العلن بين قيادات الخارج، وبين الخارج والداخل.

حدّثني خالد نزار عن تلك الذكريات بكثير من الفخر والانفة والشجن والحنين، وكان يُطلعُني في خلال الحوار على الوثائق الكثيرة والبطاقات العسكرية التي تؤكد انضمَامه إلى صفوف الثورة الجزائرية قبل خمسة أعوام على الأقل من استقلال الجزائر، تمامًا كما أنَّ الأوسمة الكثيرة النائمة في خزائنه كانت، في أثناء حوارنا، تستيقظ   على وقع الذكريات المجيدة للثورة الاستثنائية. وكأنّه بذلك أراد أن يمحو ولمرّة أخيرة التُهمة التي ألصقت ببعض الضباط القدامى في الجيش الفرنسيّ بأنّهم ” حزبُ فرنسا”.

    الرجل الذي كان يقال إنّه الحاكم الفعلي للجزائر، والذي تولّى وزارة الدفاع بيدٍ من حديد، كان شُجاعًا وصلبًا إلى أقص حد، لم يتوان في لحظات مفصليّة في رفع مستوى الاتهامات ضد بعض القادة السياسيّين في الدولة وبينهم رئيس الجمهوريّة في أثناء العشريّة السوداء، بالتواطؤ مع الحركة الإسلاميّة. كان لسانُه كحدّ السيف حين يُريد أن ينتقد أحدًا، ولم يتخلَ عن هذه الصفة حتى حين لم تعد له صفةٌ رسميّة، فما لم يقله في تصريحاته، قاله لاحقًا في كُتُبه التي أثارت ضجّة كبيرة.     

 كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بقيادة الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج قد فازت بالدورة الأولى للانتخابات التشريعية، فكان لابد من منعها من الوصول إلى سدة الحكم، وسرت اتهاماتٌ كثيرة حول تزوير الانتخابات، بينما قادتُها كانوا يقولون إنّهم يتعرّضون لمؤامرة التصفية لأنَّهم فازوا بالصناديق وعلى نحو ديمقراطيّ.

 تناقضت المصالح، ارتفعت حرارة المواجهة السياسية، فوقع الصدام، كان لخالد نزار الدور الأبرز من على رأس المؤسسة العسكرية في وأد الجبهة في مهدها، وحين سألتُه عن سر إنزال الجيش إلى الشوارع وضرب الجبهة الإسلامية، راح يقرأ لي بيانات صادرة عن قادة الجبهة تدعو إلى التمرد على الدولة، وإلى ضرب المؤسسات، وتطبيق الشريعة الإسلامية، واعتبار الدولة عدوا، وأسمَعَني بعض الاتصالات السريّة المُلتقطة، لكنّه لم يشأ أن نعرضَها على الشاشة.  

وحين سألته عن الحكمة من منع أناسٍ انتخبهم الشعب، من الوصول إلى الحُكم، ابتسم ابتسامتَه الداهية تلك وقال: ألم يصل هتلر إلى السُلطة عبر صناديق الاقتراع؟ وهل هؤلاء كانوا فعلاً يريدون الديمقراطية لو حكموا؟ وهل يريدون فعلاً الإسلام المُعتدل في المُجتمع، فنحن كُنا نسمع منهم كلَّ يوم شعارات تقول :” بالصندوق أو البندوق” ( أي بالانتخابات أو البندقيّة)، وكانوا يقولون إنّهم يريدون استخدام الديمقراطية مرّة واحدة. فهل نتركهم يرمون البلاد في أتون الحروب والتخلّف؟  

آنذاك ذهب خالد نزار أيضًا الى السعوديّة، واستقبله الملك فهد بن عبد العزيز الذي كان قد استقبل قبله الشيخين مدني وبلحاج. سألته عمّا قال له الملك، فأجاب:” قال لي إنّ لا علاقة للمملكة بإسلاميي الجزائر وإنَّ بعض السعوديّين إذا كانوا يساعدونها فهذا يتمّ على نحو خاص ولا علاقة للدولة به ، وأنا طبعًا قلتُ للملك إنَّ هؤلاء يستخدمون الإسلام للوصول إلى السُلطة وإنّ خطرهم لاحقًا سيمتد إلى دول عربيّة عديدة وبينها السعُودية نفسها والخليج”.

 حدّثني اللواء خالد نزار بكثير من الحنين والعزّة أيضًا، عن مشاركته مع عددٍ كبير من ضبّاط وجنود الجيش الجزائري، إلى جانب الجيش المصري في الحرب ضد إسرائيل حيث ساهمت قواتُه الجزائريّة بإسقاط ثلاث طائرات، وهو ككلّ جزائريّ لا يتردّد في القول :” والله لو كنّا على حدود إسرائيل لكنّا انتهينا منها منذ زمنٍ طويل”.

كثيرون كانوا يرون في اللواء الراحل خالد نزار، أحد القابضين على مفاتيح السُلطة، والرافضين لأيّ صوتٍ مُعارض، ويحمّلونه مسؤولية كُبرى في اسقاط نتائج الانتخابات مطلع التسعينيات وما تلاها من حربٍ، وبأنه افاد من مناصبه، لكن كثيرين أيضًا يرون أنّه واحد من ضُبّاط المؤسسة العسكريّة العريقة التي بفضلها بقيت الجزائر عصيّة على الانهيار والتفتت والتقسيم، أو الركوع خلافًا لما حصل في دول عربيّة عديدة.

وحده الله لديه سرُ الرجل، وهو الكفيل برحمته ووضعه في المكان الذي يستحق. لكن الأكيد أن خالد نزار كان من العلامات الفارقة في تاريخ الجزائر الحديث، ولن يمرّ أي مؤرخ مرور الكرام على تاريخ هذا القائد العسكريّ الذي بقي حتّى وافته المنيّة غير قابلٍ للكسر.   

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button