لبنان: غضبٌ بلا نتائج

سامي كليب
تشلُّ الإضرابات اليوم كل لبنان، وتنتشر الحواجز الشعبية وتُقطع الطرقات بالدواليب المحروقة. واذا كان الاتحاد العمالي العام وعدد من النقابات هم الذين دعوا الى الإضراب العام، فإن اللافت أن الطرفين المتصارعين على تشكيل الحكومة حاليا أي تيار المستقبل والتيار الوطني الحر أيدا الدعوة والنزول الى الشارع، كما أيدته قوى حزبية أخرى مشاركة في السلطة، وكذلك المصارف المتهمة بنهب المال العام ، فضاع المُستهدف من الإضراب وسط انقسام لبناني حاد. وصار الذين يُفترض أن يكون الاضرابُ ضدهم مشاركين فيه.
في هذا الاضراب كما في الاحتجاجات السابقة، تفتقر حركة الشارع الى مشروع سياسي اقتصادي مطلبي واضح، مما يقسم اللبنانيين بين مؤيد لقطع الطرقات ومستاء منها ومناهض لها لانها تمنع الفقراء من التنقل بينما لا تتأثر الجماعة السياسية الحامية منازلها بكثير من العناصر الأمنية المُسلّحة. هذه الجماعة التي تتقاسم ثروة البلد وأمعنت وتُمعنُ فيه فسادا وخرابا قد تشعُر بقلق ضئيل جدا من هذه التحركات اذا ما بقيت بحدودها الدُنيا، ذلك ان الاحزاب الكُبرى ذات الشعبيات الأهم في لبنان ( وهي شعبيات مختلفة الولاء بين القناعة والمصلحة) ما تزال قادرة على لجم أي حركة احتجاج حقيقة تهدد مصالح ومستقبل القابضين على رقبتي الوطن والشعب.
يستغرب المرء كيف أن شعبا فيه نسبة عالية من المتعلمين، تعرّض لأسوأ أنواع الظُلم تحت دكتاتوريات مقنّعة بمساحيق ديمقراطية هشة، يقبل جزءٌ كبير منه بالاستمرار في الولاءات الزعماتية والقبلية والمذهبية رغم أن هذا الشعب حُرم من كل شيء تقريب، فغابت الكهراء والماء من بيوته، وطُمر بالنفايات ونُهبت أمواله في المصارف، وفَقَدت ليرتُه 90 بالمئة من قيمتها ونزل أكثر من نصفه الى ما دون عتبة الفقر ،وما عاد يجد في الصيدليات مجرد دواء لوجع الرأس بسهولة، ناهيك عن انعدام الغطاء الصحي والتقاعد للكثير منه .
واذا كان القطاع العام هو الذي أعلن الاضراب، ودعوته طبعا جاءت متأخرة عامين، فإن أسئلة كثيرة تُطرح أولا حول ولاء الاتحاد نفسه، وكذلك حول موظفي القطاع العام المدعووين الى الاضراب، ذلك أن معظم هؤلاء تابعون لأحزاب ومذاهب وقيادات سياسية ودينية وزعامات تقليدية أكل الدهر عليها وشرب.
الواضح أمام العُقم السياسي للجماعة التي تتوارث حكم لبنان والمُشكَّلة مما يُشبه مافيا سياسية-مالية، والواضح أيضا من الضبابية الدولية والاقليمية حول مستقبل لبنان المهجور لمصيره ، أن الأمور مستمرة على تدهورها الا في حال اقتنع القسم الأكبر من هذا الشعب بأن ينتفض لكرامته ولقمة عيشه، وان يقفز فوق الولاءات الضيقة ويفكر بدعم مشروع للوطن، وهكذا انتفاضة تحتاج الى وقوف الجيش الى جانبها خصوصا ان هذه المؤسسة العسكرية المحبوبة جماهيريا والتي تتعرض هي أيضا لاختراقات الولاءات، صارت تقارب الفقر وتعيش شظف العيش نفسه الذي يعاني منه معظم الناس.
لو حصلت هكذا حركة كُبرى في الشارع مبنية على مشروع سياسي اقتصادي واضح، فلا شك أنها ستفرض نفسها على الجميع وتُنتج قيادات ذات وزن وشعبية، تفرض على الجماعة السياسية انتاج مشروع انتخابي بعيد عن المحاصصة والمحسوبيات وتقاسم الجبنة، فيبدأ التأسيس لوطن يكون الشعب فيه قادرا على انتخاب من يريد ومن يضمن مصالحه ومصالح الوطن بغض النظر عن مذهبه وطائفته.
لن يقتنع الغالم الغربي والشرقي بضرورة دعم هذا الشعب لتغيير الواقع المؤلم، الا اذا فرض الشعب نفسه على الأرض بمشروع نهضوي تنموي واضح يحمي الداخل والحدود ، والا اذا بقي الجيش الى جانبه بعد ان فقد معظم الناس ضمنيا الثقة بمعظم الجماعة السياسية إن لم يكن كلها.
لا شك ان كل اضراب محمود، بما فيه ذاك الذي دعا اليه الاتحاد العمالي العام ،للتعبير عن الغضب، فمن يتظاهر ويغضب ويصرخ الالم هو فقير تُهان كرامته كل يوم، وليس عميل سفارات، لكن كل هذا سيبقى ذراً للرماد في العيون ما لم يقتنع معظم الشعب بأنه أكثر شعوب الأرض تعرضا للظلم تحت وهم الديمقراطية، بحيث تنطبق عليه المقولة :” قُل ما تشاء، وسنفعل ما نُريد” . فغدا ينتهي الاضراب، وتعود الجماعة السياسية الى حِيَلِها، ويستمر تقهقر الليرة والاقتصاد أمام الدولار. ما عاد الاسبيرين يصلح لمعالجة السرطان.
إعلاميون لا أبواق