شهادات الذُبابِ العُلوكِ في حسن السلوك

سامي كليب
تخطّى عددُ مُستخدمي الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في العالم الحالي 5،5 مليار نسمة، وثمّة دولٌ عربيّة وصلت إلى أعلى قائمة دول العالم في استخدام هذه الوسائل، ففي تقريرِ حالة الانترنت عالميًّا للعام الماضي 2023، أعدَّته ونشرته شركتا “ميلتواتر” للدراسات الإعلامية و “وي آر سوشال” للتصميم والتسويق، حصلت السُعودية على المرتبة الأولى عربياً والثالثة عالمياً في مؤشر الوصول إلى الإنترنت، تبعتها الإمارات العربيّة المتّحدة ومصر. وكان لافتًا أنّ المصريّين يتصدّرون دول العالم في الساعات التي يمضونها أمام وسائل التواصل الاجتماعي.
إيجابيات هذه الوسائل كثيرة، ولا داعي لذكرها جميعًا، ولعلّ أبرزها، سرعة الحصول على المعلومات ووفرتها وتنوّعها ومجّانيتها، بما فيها الكتب والصحف والمجلّات. لكنّ السؤال المفصلي: هل أنَّ العربَ يستخدمون هذه الوسائل لرفع مستوى معارفهم، أم لتعميق الشروخ بين المحاور، بحيث يكثُر الذُباب ويتضاءل عدد الباحثين عن الثقافة والمثقّفين.
تتناقض الأرقام حول النشر عند العرب، فقد ذكرت لجنة شؤون النشر التابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر في العام 2015 أنَّ العالم العربي يقف في ذيل قائمة الأمم القارئة، وأنَّ متوسط معدَّل القراءة فيه لا يتعدى ربع صفحة للفرد سنويَّا وأنَّ العالم العربي ينشر ألفا و650 كتابا سنويا بينما تنشر أميركا وحدها 85 ألف كتاب سنويا. وهو ما ذكرته أيضًا منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، اليونيسكو، حين كشفت أنَّ نصيب كلّ مليون عربي لا يتجاوز ثلاثين كتابا، مقابل 854 كتابا لكل مليون أوروبي.
بالمقابل فإن الدكتور خالد عزب نشر دراسةً لصالح اتحاد الناشرين العرب، للفترة ما بين عامي 2015 و2019، بما في ذلك معارض الكتاب، أظهرت أنَّ الدول العربية نشرت 70630 كتابا جديدًا في عام 2019 وحده.
بغض النظر عن تناقض هذه الأرقام، يكفي أن يُلقي المرء نظرةً سريعة على وسائل التواصل الحديثة وعلى ما بقي من وسائل إعلام قديمة ( خصوصًا تلفزات وإذاعات) ليجد أنَّ نسبة ” التباغض الاجتماعي” المرتبطة بالمحاور المتصارعة، تتفوّق على كل ما عداها من أمورٍ أخرى، ولو أحصينا مثلاً عدد البرامج التي تتحدث عن مؤلفاتٍ جديدة، وعلومٍ حديث ومراجعات لمؤلفاتٍ قيمة، نكاد لا نجد الاّ ما ندر، لاعتقاد أصحاب هذه الوسائل بأنّ هكذا منتوجات فكريّة وثقافيّة ومعرفيّة لا تجذب المشاهدين ولا تحصل على “لايكات”( علامات الإعجاب)، ولا تحصد مالاً.
وقد برز منذ فترة نمطٌ جديد مِمّن اصطُلحَ على تسميتِهم ب ” الذُباب الإلكتروني”، ونسبتُهم ليست قليلة أبدًا، بحيث يُركّزون جُلّ اهتمامهم على شتم الآخر، أو توزيع شهادات حسن سلوك لهذا وذاك، وهم لا يوفّرون من شتمهم حتّى المعلومة المُجرّدة التي قد يُقدّمها إعلاميٌّ من هُنا أو كاتبٌ من هناك.
أمام هذه الظاهرة المقيتة، والتي يُشارك فيها، يا للأسف، إعلاميون وكتّابٌ وبعضُ مُدّعي الثقافة، تلجأ الدول العربيّة، إمّا لمنع هذه الوسائل، أو لاستخدامِها في الترويج لخياراتِها السياسيّة والاجتماعية، فيتحوّل الكثير من هذا الذُباب لأبواقٍ ناعقة، ويكثرُ التطبيل والتزمير والقدح والمدح على مذبح الحقيقة.
وفي هذه الحال يجدُ الإعلامي أو المثقّف أو المُفكّر الحريص على نشر المعلومة الصحيحة، أو الفكّرة المفيدة، والمدافع بعلمٍ ومعرفة وأرقام عن أمّته وقضايا مجتمعاته العربيّة، في وضع حرج، فهو لو كتب دون انحياز، يوصف بالرمادي، ولو انحاز، أصبح طرفًا في هذا المحور أو ذاك، فكثر معه وضدّه الذُباب وغابت المعرفة.
وهنا بالضبط ضاعت البوصلة، فقد وجد بعضُ جهابذة الإعلاميّين، أن الطريقة الأسلم والأسرع للشُهرة، هي المشاركة في جوقة الذُباب هذه، فصاروا مدّاحين أو قادحين، وفق قناعاتٍ حقيقيّة، أو مصالح ماديّة وإغراءات، ولم يتردّد بعضُهم في توزيع شهادات حسن سلوك على زملائهم، مقدّمين أنفسهم أبطالَ تحرير أو سيادة أو مقاومة أو تطّبيع، يحتكرون وحدهم الحقيقة، ومخاتيرَ على وسائل التواصل يوزّعون الشهادات بحسن السلوك وغيره. وهؤلاء يسيئون إلى قضاياهم أكثر مما يخدمونها، ولو راجعت تاريخهم وتاريخ من ينتقدونهم لصحّ فيهم قول الشاعر:
لا خيرَ في ودِّ امرئٍ مُتلَّونٍ إذا الريحُ مالَت، مالَ حيثُ تميلُ
رُبّما نحتاجُ وأكثر من أي وقتٍ مضى، إلى ثورة حقيقية في الجسم الإعلامي، ومن خلال النقابات الصحفية، تضع منظومتين: واحدة أخلاقية تُعيد التذكير بأصول وشرعة وأخلاق الإعلام، والثانية قانونية، تُدافع عن الإعلاميين المُحترمين وتضع شاتميهم ومُهدّديهم أمام محاسبة قانونيّة حقيقيّة، تكون درسًا لمن يتطاول على أهل المهنة وما بقي فيها من احترام وشرف. ولو كان هدفُ مُدّعي الإعلام الحصول على اللايكات، فالأجدى بهم أن يمارسوا هواية الرقص عبر منصّة” تيك-توك” أو غيرها فيحصدون ملايين المشاهدات وأموالاً طائلة.