مقال اليوم

انتفاضة الجبل في بُعديها الداخليّ والخارجيّ

«انتفاضة الجبل» تستعيد حرية التعبير

سمير العطية ( الشروق). 

إلغاء دعم السلع الأساسية، خاصة الوقود والخبز، كان ولا يزال، مطلبا رئيسيا لصندوق النقد الدولى فى جميع البلدان النامية عندما تتعثّر فى ميزانياتها العامة. وبالوقت نفسه تتمسك حكومات كثيرة بهذا الدعم لتفادى رفع الأجور والانزلاق نحو دوّامة تضخمية. هذا مع العلم أن كلفة هذا الدعم كبيرة على الدولة وأن الأثرياء يستفيدون منه أكثر من الطبقات الفقيرة، فما بالنا عندما تكون الحدود مفتوحة للتهريب إلى الدول المجاورة؟!. ومن البديهى أن تنطلق الاحتجاجات الاجتماعية حالما تقرر دولة ما إلغاء الدعم دون زيادة مناسبة فى الأجور.

هذه المعضلة تعيشها اليوم مناطق سيطرة الحكومة فى سوريا، أكثر من الدول المجاورة، وأكثر من المناطق الخارجة عن السيطرة. والأنكى أن هذا يحدث فى ظل موجة تضخم أسعار متسارعة منذ فترة يتبعها انهيار فى أسعار صرف العملة الوطنية. موجة تضرب أيضا الشمالين الشرقى والغربى من البلاد. السلطات السورية مسئولة بالطبع عن هذا الوضع عبر سياسات الضغط «الضريبى» التى قامت بها مؤخرا تجاه الفعاليات الإنتاجية فى ظل ركود اقتصادى. ولكنها ليست وحدها المسئولة، بل أيضا العقوبات الغربية، التى بات كثر حتى فى الولايات المتحدة يشهدون بأنها أضرت بعامة الشعب السورى أكثر من القائمين على السلطة، ومسئولة أيضا الأزمة اللبنانية الحادة، التى ذهبت بأموال المودعين السوريين كما اللبنانيين، وكذلك مسئول الزلزال الأخير، الذى يؤكد البنك الدولى فى تقريره الأحدث عن سوريا بأن وقعه على الاقتصاد السورى، وخاصة الزراعى، أكبر بكثير من الخسارات فى العمران.

بالتوازى وفى ظل عيش 90% من الشعب السورى فى آلة الفقر المدقع حسب الأمم المتحدة، قررت الحكومة رفع الدعم لعجزها عن الاستمرار به. وبالتالى انطلقت احتجاجات اجتماعية فى محافظة السويداء خصوصا ضد هذا القرار، تحت شعار «بدنا نعيش» و«لم أنجب ابنى كى يسافر». احتجاجات سرعان ما تحولت أيضا إلى احتجاجات سياسية تطالب بـ«إسقاط النظام» و«تطبيق القرار 2254» لمجلس الأمن و«نريد سوريا البلد… لا سوريا الأسد» وأن النفط السورى لجميع الشعب السورى.

• • •

إن لـ«جبل الريّان»، وهو اسم تاريخى لـ«جبل حوران»، ولأهله رمزية خاصة فى سوريا. إذ لطالما كان ملجأ لمن ثار على الظلم. وكان قد لجأ إليه الموحدون الدروز «اليمنيّون» بعد مجزرة عين دارة فى جبل لبنان فى القرن الثامن عشر. ولجأ إليه أدهم خنجر، الشيعى، بعد قيادة ثورة جبل عامل على الجيش الفرنسى ومحاولة اغتيال الجنرال غورو. وكان اعتقال الفرنسيين له من بيت سلطان باشا الأطرش أحد أسباب «الثورة السورية الكبرى»، التى عقبتها تسميته بعد ذلك بـ«جبل العرب»… بدل «جبل الدروز».

نسيج «الجبل» الاجتماعى المتنوع وتاريخه عزز تمسكه بالوطن الواحد ونأى به عن الصراع المسلح فى سوريا، رغم محاولات متعددة لذلك. هكذا يشكل التنوع الكبير للشعارات التى تُرفع فى انتفاضة «الجبل» والإصرار على سلميتها بحد ذاتهما ظاهرة لها دلالات كبرى، عبر الدلالة على حجم الإدراك العام فى الجبل كما فى أغلب أنحاء سوريا عما يعيشه الشعب السورى وسوريا اليوم. تنوّع يختلف عن الشعارات أو رسائل الدعم التى تم رفعها فى بعض المناطق الأخرى فى البلاد، شمالا، غربا أم شرقا. اختلاف تبعا لتنوّع الظروف وتعقيداتها عما كانت عليه عام 2011.

بالطبع، يتوجه الاحتجاج نحو رأس السلطة، باعتباره المسئول الأوّل والأخير عن الأوضاع اليوم. ولكنه يتوجه أيضا إلى «الإدارة الذاتية» التى استأثرت مع القوات الأمريكية بالنفط السورى وحرمت بقية الشعب السورى منه. كما يستهدف أيضا نحو الإخوان المسلمين و«ائتلاف قوى الثورة والمعارضة» و«نهجهم القذِر». ويترافق هذا مع المطالبة بالحرية باعتبارها «أكسير الحياة»، حريات عامة وحريات للمعتقلين. «الحرية تعنى وقف القتل والاقتتال»، «الحرية والكرامة توءمان»، «لا معارضة ولا موالاة، المصير واحد»، «لا كرامة لمواطن فى وطنٍ مباع»، «الطغاة والغزاة وجهان لعملة واحدة».

• • •

لكن وكما فى 2011، يحاول المتصارعون الخارجيون على سوريا التلاعب بهذه الانتفاضة الشعبية وبمسارها، ودفع تنوعها وتناقضاتها الطبيعية إلى وجهة يرغبونها. هذا يدفع للمطالبة باستقلال «المنطقة» عن المصير السور» عبر فتح معابر لها وحدها مع الأردن، بدل فتح المعابر التى تفصل المناطق السورية لوقف تقسيم البلد وانهياره حسب مشيئة من يعملون عليهما بشكل حثيث. والحجة أن الانتفاضة ترفع راية «درزية» تعبر عن خصوصية، لا عن حرج فى رفع علم سوريا «الموالاة» أو «المعارضة». وآخر يدفع لوصل «الجبل» بـ«التنف» لإقامة «منطقة عازلة» بين سوريا والعراق. هذا فى وقتٍ يتم فيه تفجير سهل الفرات كى يبقى هشا، ويبقى العراق هشا، قابلا للشرذمة والهيمنة إلى ما شاء الله.

لكننا لم نعُد فى 2011. و«بنو معروف» فى الجبل ووادى التيم يعون جيدا أن تغيير السلطة أو حتى نهجها، ووقف الفساد والاستبداد، يحدث بالتحديد فى دمشق وليس فى أى مكان آخر، ولا حتى فى اللاذقية. ويعى بقية الشعب السورى أن خصوصية الجبل تجعل منه بوتقة للدفاع عن كرامة الشعب السورى كله، أساسا تجاه الخارج الذى يعبث بهم وأيضا تجاه السلطة القائمة التى تتجنب الصدام مع الجبل وستذهب ــ بالتأكيد ــ فى وقت ما للتفاوض.

وكما فى «الثورة السورية الكبرى»، يكمن عنصر النجاح فى توحيد الكلمة بين الجبل وسهله ــ أى حوران ــ ودمشق، ومنهما إلى باقى سوريا. ويكمن فى الإجابة حول كيف يُمكِن سوريّا التفاوض على مرحلة «انتقال سياسى» (وهو مضمون القرار 2254)؟ وكيف يُمكن ترسيخ دولة المواطنة المتساوية، مع احترام الخصوصيات المحلية بعيدا عن أية طائفية؟ وكيف يُمكِن وقف مسلسل العقوبات الغربية الذى لا نهاية لها سوى الجوع؟ وكيف يُمكِن عقلنة توزيع (ما بقى من) الموارد بما فيها المساعدات الخارجية لفائدة جميع السوريين والسوريات؟ وكيف يُمكِن إعادة تشغيل الاقتصاد السورى، ووقف الفساد، لا البحث عن «استثمارات» خارجية لا تهدف سوى لأرباحها الخاصة؟ وكيف يُمكِن وقف مسلسل شرذمة البلاد؟ وكيف يُمكِن وقف العبث الإسرائيلى فى سوريا، عبر القصف الدورى للمطارات المدنية السورية؟ وكيف يُمكِن وقف الصراع الروسى ــ الأمريكى ــ التركى ــ الإيرانى بالوكالة على البلاد؟ وكيف يُمكِن للـ«عرب» أن «يفزعوا» حقّا مما يعنيه «جبل العرب» ورمزه لوحدة سوريا والشعب السورى عربا وكردا… وتراث سلطان باشا؟

• • •

إن أهمّ مكسب لانتفاضة الجبل هو استعادتها لحرية التعبير التى لا معنى لا للسياسة ولا للسياسات الاقتصادية ولا للمنعة الوطنية دونها. حرية تعبير لا تخضع لقوى «الأمر الواقع» فى كل مناطق الهيمنة وتُبرز فى الوقت نفسه تناقضات الوضع القائم. حرية تعبير يُمكِن أن تحمل فى ثناياها من يجهد لاستعادة دولة قادرة فى سوريا تعمل لصالح وكرامة جميع الشعب السورى.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

هذه المقالة نُقلت عن موقع صحيفة ” الشروق” المصريّة.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button