فرنسا: زعيمة في لُبنان وعقيمة في افريقيا
فرنسا: زعيمة في لُبنان وعقيمة في افريقيا
سامي كليب
ليسَ انجازًا أن تُصبحَ دولةٌ أجنبيّة زعيمةً في لُبنان. فهذا باتَ من الموروث اللُبنانيّ حيث تَنافَس ساسةُ بلاد الأرز منذ الاستقلال حتّى اليوم، على استجلاب كلَّ من هبَّ ودبَّ، ليُصبحَ، مكانَهم، سيّدَ القرارات المصيريّة في المناصب، والدساتير، والأعراف، والحروب. لكن ما يُثيرُه انقلابُ النيجر هذه الأيام من أسئلةٍ حول انكفاءِ وهشاشة الدور الفرنسيّ في افريقيا مقابلَ أدوارٍ دوليّةٍ أخرى، يؤكّد أن جُزءًا من مصالح فرنسا العُليا باتَ مُرتبطًا بلُبنان، وبالصفقات مع دولِ الخليج، ورُبما لاحقًا بسورية.
حين جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لُبنان، مُغدِقًا الوعود على الناس بالتغيير، وموبّخًا معظم الجماعة السياسية الاَّ ما ندر، ثم جاء بعدَه مبعوثوه، يكرّرون الوعود والتوبيخ (دون نتيجة طبعًا حتّى الساعة)، كان في الوقت عينِه، يمدح قادةَ الخليج من الامارات التي نجح في العام 2021 ببيعها 80 طائرة رافال و12 مروحيّة بنحو 18 مليار دولار، إلى السعوديّة حيث تم توقيع صفقة ،أيضًا في العام نفسه، لبيع 26 مروحيّة لشركة سعوديّة، وعقود تجاريّة أخرى بينها ما يتعلق بمياه الشرب في الرياض، واعِدًا نواب فرنسا بأن هذه الأسلحة والمعدّات لن تُستخدم في حرب اليمن.
الأمر الفرنسي الوحيد الذي تحقّق حتّى اليوم في لُبنان، هو مباشرة شركة ” توتال إنيرجي” الفرنسيّة بالتنقيب في البلوك 9 للغاز، واستمرار مبعوثي فرنسا بالتنقيب السياسيّ مع حزب الله أولاً لدعم المُرشّح سليمان فرنجيّة، والآن للبحث عن مخارج، وذلك بعدما تبيّن أنَّ الرياض وبعض الدول الأخرى أصعب وأصلب مما توقّع الرئيس الفرنسي الذي كتبَ في حينه تغريدة مُنعشة وواعدة تقول: “قطعنا مع المملكة العربية السعودية، التزامات تجاه لبنان: العمل معاً، ودعم الإصلاحات، وتمكين البلد من الخروج من الأزمة والحفاظ على سيادته”. لم نرّ شيئًا حتّى الآن غير استمرار الوعود.
هذا التمدّد الفرنسي في الشرق الأوسط والخليج، صار ضرورة قصوى لفرنسا ودورها ومصالحها ومصانعها وشركاتها، فقد تراجع نصيبُ فرنسا من التجارة مع أفريقيا من 10% إلى 5% في العقدين الأخيرين، بينما نجد مثلاً أن نسبة الصين مع القارة السمراء ارتفعت إلى 11% بنحو 282 مليار دولار في العام الماضي، وليس مفاجئًا أن نرى أيضًا التمدّد الاماراتيّ الكبير في افريقيا، فلا يتردّد الباحث الفرنسي واستاذ العلوم السياسيّة سيباستيان بوسوا في القول:” إنّ افريقيا ستصبح خزّان الثروات الاستراتيجيّة للمشاريع العالميّة الضخمة للإمارات” بعدما تضاعف التبادل التجاريّ والاستثمارات عشرات المرّات.
لم تعد افريقيا الحديقة الخلفيّة لفرنسا، ولا عادت باريس شرطة افريقيا، وذلك لأسباب عديدة، يختصرُها خبير الجيوبوليتك الفرنسي الشهير باسكال بونيفاس بالتالي: ” أولاً تعاظم دور القارة على المستوى الدولي وجذب دول منافسة عديدة لفرنسا، مثل الصين، واليابان، والولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، وتركيّا، والامارات العربيّة المتحدة، وثانيًّا فَقْدُ فرنسا لدورها الطليعيّ داخلَ أوروبا، وثالثًا القيود على التأشيرات والهجرة والمقرونة بخطاباتٍ سياسيّة داخليّة فرنسيّة مناهضة للإسلام والهجرة، ورابعًا أنّ فرنسا التي تُعطي دروسَ الديمقراطية في دولٍ، لا تفعل ذلك في دولٍ أخرى، فهي مثلاً تقبل سُلطةً عسكريّة في تشاد، وتدينها في مالي”. قد نُضيف إلى ذلك أنّ ثمّة أدوارًا في الخفاء تقتصّ من فرنسا في افريقيا، وبينها مثلا النشاط الدبلوماسيّ الجزائريّ الذي كان له دورٌ كبير في مالي، وعلى الأرجح في غيرها، وجاء بعد أن حرمت الجزائر أيضًا باريس من عقودٍ كبيرة كانت تتمتّع بها تاريخيًّا في الجزائر، ومنحتها لدولٍ منافسة.
ما يقوله بونيفاس عن تناقض دروس الديمقراطيّة التي تُعطيها فرنسا اليوم، ينطبق تمامًا على لُبنان، فحين جاء ايمانويل ماكرون ومبعوثوه، يُربِّتون على اكتاف المنتفضين اللُبنانيّين في خريف العام 2019 ، أعطوا أملاً وهميًّا للناس بأن الربيع سيحلّ مكان الخريف، لكن اليوم، نجد أن الدبلوماسيّة الفرنسيّة تجهد للتنسيق مع الجماعة السياسيّة نفسها، بعدما اكتشفت أنّ أي مبادرةٍ لها ستسقط لو عارضت هذه الجماعة. فلتبقَ الديمقراطيّة إذًا شعارًا رنّانًا وإناءً فارغًا، ليس بسبب تقصير فرنسا فحسب، وإنّما لأنَّ معظم الشعب اللُبناني لم يتحرّك حتّى وهو يُقتل ويجوّع مرّاتٍ عديدة.
كذلك الأمر بالنسبة لإيران، فحين زارت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة والدبلوماسيّة العريقة كاترين كولونا السعودية في شباط/ فبراير الماضي، هدّدت في حديثها لصحيفة ” الشرق الأوسط” ب:” أنّنا عازمون على التصدّي لإيران، ذلك أنّ قلقَنا حيالَها لا ينحصر في الموضوع النوويّ، بل أيضًا بتهديدها محيطها الإقليمي وزعزعة استقراره”. لا شكّ في أنّ كولونا تضربُ كفًّا بكف حاليًّا وهي ترى وزير الخارجيّة الإيراني بضيافةِ وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان، الذي يواصل اجتياز كلّ الخطوط الحمر من طهران حتّى بكين خدمةً لمصالح دولته وشعبه. ولعلّها فعلت الأمر نفسَه حين سمعت قبل أيام بصفقة تبادل الأسرى بين أميركا وإيران.
مع الإحراج الفرنسيّ الكبير حاليًّا في النيجر، يُطرح في الأوساط الفرنسيّة والغربيّة والافريقيّة عددٌ من الأسئلة المُقلقة فعلاً بشأن العجز الفرنسي عن لعبِ أدوارٍ كبيرة في افريقيا كما كان الشأنُ في عهد الرئيس شارل دوغول أو حتّى الرئيس جاك شيراك، ورُبما صار الشباب الإفريقي، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أكثرَ وعيًا وعلمًا بالفساد الذي رافق الدبلوماسية الفرنسية في القارة السمراء، بحيث غضّت باريس تاريخيًّا الطَرْف عن قادةٍ بقوا في السُلطة 40 عامًا وتعاملت معهم برفق رغم روائح الفساد والقتل. اليوم يقول ماكرون ان فرنسا طرفًا مُحايدًا ومحاوِرًا محايدًا ويتّهم روسيا بمحاولة زعزعة استقرار افريقيا. لكن الواقع يقول إنّ فرنسا في وضع لا تُحسد عليه هناك مهما برّرت الأسباب. وعليها احداث تغيير جذريّ في سياستها الافريقيّة.
لا شيءَ سيُعوَض الانكفاءَ الفرنسيَّ الاضطراريَّ في افريقيا، والمقرون بارتفاع مستوى الاستياء الداخليّ بسب الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة، الاّ المزيد من الحضور في الخليج والشرق الأوسط، ولا شكَّ في أنّ لُبنان يُشكّل بهذا المعنى مُفتاحًا مُهمًّا للدور والاقتصاد الفرنسيّين، ليس على أرضه فقط وإنّما كبوابة للمحيط. فهل هذا أحد أسباب اللطف الفرنسي مع حزب الله؟ ليس الجواب مُهمًّا، بل الأهم هو ان يعرف اللبنانيون أنّ ثمة مصالح مُشتركة حاليًّا بين لُبنان وفرنسا يُمكن الافادة منها بدلاً من بكّائية ” الأم الحنون” والقبول بالتوبيخ والبهدلات.
لنتخيّل ولو للحظة، أن يقول ماكرون في السعوديّة أو الإمارات أو الجزائر ما قاله في لُبنان؟ هل كان سيبقى لحظة واحدةً. الأكيد لا، لكن في لُبنان موروث الذلّ عند معظم ساسة هذا البلد يقبل بكل شيء مقابل الحفاظ على المصالح والمواقع.