
في حضرة طفلٍ تحت ركام سوريا
سامي كليب:
بماذا يُفكّر طفلٌ وهو عالقٌ تحت ركامِ بيتِ أهله؟ هل يعرفُ حقًّا أنَّ زلزالاً أو هزّة أرضيّة هُما من سجنَه بجراحه وخوفِه تحت الردم؟ لعلّه في سوريا اعتاد على القصفِ والحرب، أو لعلّه رأى على شاشاتِ بلادِه سابقًا صورَ أبنيةٍ شاهقة أو بيوتٍ فقيرة تتحوّل الى مدافنَ جماعيّة بفعل الاقتتال. هو حتمًا اعتقدَ أن المسلسل الحربيَّ مستمرٌ، لأنّه لم يرَ غيرَه مذُ فتح عينيه على الحياة.
كيفَ شعرَ الطفلُ تحتَ الرُكام، حين نادى مذعورًا أهلَه، فاختنقَ صدى الصوتِ تحت الركام؟ هل يحتمل عقلُه الغضُّ الطريُّ معنى موتِ الأهلِ أو فكرةَ تخليّهم عنه؟ ماذا لو كان الطفلُ نفسُه قد فقد سابقًا أحدَ إخوته أو أهله في ويلاتِ الحرب؟ لعلّ أمَّه آنذاك سارعت بالرغم من جرحِ قلبِها النازف، إلى احتضانه لتخفّف عنه رُعبَ الفاجعة. لا، لا بُدّ أنّه يتخيّل أمرًا أكثر فظاعةً وقسوةً حتّى من الموت، فيصرُخ رُعبًا حين يهبطُ الليلُ على تلك الكوّة المفتوحةِ بين الردم والردم، بينَ سقفِ المنزل وأرضِه.
عيناهُ الشاخصتان صوب العتمةِ تختزلان أسئلةَ الكون وقلقَه. يدُه الراجفةُ خوفًا وجوعًا وبردًا تبحثُ عن يدهِ الأخرى العالقةِ تحتَ الإسمنت. يصرخُ القلبُ وجعًا ورُعبًا. يختنق الصوتُ بالحديد والاسمنت.
في بلادِنا غالبًا ما يولدُ الطفلُ في الحرب أو الأزمات، وغالبًا ما يسمعُ لامُباليًا، شجارَ أهله بسبب ضيقِ الحال وتعبِ الحصولِ على لقمةِ العيش المغمّسة بعرقِ الجبين ودمِ القلب، لكنه يجدُ دائمًا طريقَه للهروب من الواقع، يُلاحقُ كُرةً مستديرةً في خرابِ الدارِ، يخالُ نفسَه “ميسَي” أو ” رونالدو”، يتبادلُ القهقهات والشقاوةَ مع أشقائِه وأبناءِ أعمامِه والجيران، يُدركُ في قلبِه الصغير أنّ والديه حاضران في أي مكانٍ وزمان لحمايته لو ألمَّ به مكروه أو أصابَه ألمٌ أو مرض.
لكنّ الطفلَ عينَه لم يَعتَد على كلّ هذا الاسمنت فوقه دُفعةً واحدةً. لم يعتد على هذا النوع من الوحدة. هذا النمط من الكوارث غريبٌ عليه، هو الوحيد الذي لم يألفْه بعد. فيصرُخُ من صميم القلب وعميق الخوف وخلايا العروق. ينادي:” أمّي”، فيختنقُ الصوت تحتَ الركام. تنهمرُ دموعُه على خدّيه الطريّين، فترسِمُ الدموع خطّين متوازيّين ومتعرّجين بين الغبار المتراكم فوق وجهِه الناعم، يختلطُ الدمعُ ببقايا الدمِ المتخثّر عند فُتحتي الانف. يشعرُ بطعمِ الملحِ على شفتيه. يتذكّر الجوع، لكن الخوفَ أقوى.
لا بُد أنّه كابوس، يصرُخ عاليًا مرّاتٍ دون جواب، ثم ينام، فهو يُدركُ أنّه كلّما نام، تأتي أمُّه لتضعَ غطاءً عليه، وتقبّل وجنتيه وجبينَه، وأنّها في الصباح، ستُعدّ له فطورًا، وتوقظه بقبلاتٍ تختزن كلّ حنان الأم ورقّةِ قلبِها.
يصلُ إليه المسعفون بعد مرورِ يومين، يبدو وجهُه مٌبتسِمًا، لكنّ للابتسامة في عيون طفلٍ خائف معنىً آخر لا يعرفُه الكبار. الأطفال غالبًا ما يبتسمون حين يصلُ الرعبُ إلى اقصاه، هم يخافون من الخوف، فيبتسمون له، علّه يرحل. يرفع عنه المُسعفون بعضَ الاسمنت، يسحبون جسدَه الصغيرَ من تحت الرُكام، يتطايرُ غبارُ الكارثةِ من على الجسد، تظهرُ بعضُ بُقعِ الدم الجامد. المسعفون غُرباء، ينتابُه خوفٌ آخر من الغريب، لكن لا بأس، فهم في ذهنه الطريّ أفضلُ من العتمةِ والصمتِ والصدى ورائحةِ الاسمنت…
يُريدُ أمّه، لا يقولون له شيئًا… قلبُه الجريح، ما عاد قادرًا على الاحتمال، فهو وُلدَ في الحربِ الشعواء، وها هو يخرج من شيءٍ أبشع من الحرب وأشدّ قسوة….
كيف سيكبُر ويعيش كإنسانٍ طبيعيّ؟ أيّ صورٍ سيحفظُها؟ كيف ينسى من تسبّب بكلّ هذا القهر في الداخل والخارج؟ ومن يستطيع اقناعَه حين يكبُر بأن قوانين الحصار الجائر ما قتلت يومًا الاّ الفقراء والأبرياء والأطفال. قد يُسامح لكنّه حتمًا لن ينسى.