ثقافة ومنوعاتآخر خبر

رواية كُتبت قبل 73 عاما، تُشبه واقعنا العربي

الساعة الخامسة والعشرون، إبداعٌ في تشريح الظُلم

هي رواية كُتبت في العام 1939 وما زالت صالحة حتى اليوم، ويُمكن اسقاطُها بسهولة على وطننا العربي. عنها تكتب اليوم الزميلة ديانا غرز الدين. 

ديانا غرز الدين

تخيّل عزيزي القارئ، أن تجد رواية كُتبت قبل 73 عاما، وطواها النسيان، لكنك إذا قرأتها اليوم تجد أنها تنطبق تماما على واقِعنا. فهل كان الكاتب عبقرياً في استشرافه المُستقبل؟ أم أنه أدرك حتمية التطور الطبيعي لبني البشر الذين يدمّرون كل ما يعترض طريقهم مرة بحقد وأخرى بغباء وثالثة بجشع. لم يتغيّر شيء منذ 100 عام وأكثر، ما زال قهرُ البشر للبشر هو نفسه، حيث تُصبحُ حياة انسانٍ ضعيف مُجرّد ورقة في مهب الريح. 

كُتبت الرواية في فترة الحرب العالمية، لكننا لو قارنا وقائعها بحالِنا العربي، لاعتقدنا أنها كُتبت لهذا الوطن العربي المُدمّر لأسباب داخلية وخارجية، فما عاشه الأديب في حينه من موت ودماء ومعتقلات وقلق وانعدام رؤيا المُستقبل يبدوا انعكاسا لما عاشته المجتمعات العربية وتعيشه منذ عقود.

يقول المؤلف قسطنطين جورجيو المولود في مولدافيا إنكل صفحة من كتابي كتبت بالدم، دمي، دم أصدقائي، دم أولئك الذين عانوا والذين ما زالوا يعانون في المعتقلات، أجل كل ما كتبه تريان عن المجتمع التقني في الرواية حول تحويل الإنسان إلى آلة هو ما أفكر فيه فعلا ” .

اليكم بعض الأمثلة الأخرى من الرواية الحاملة عنوان ” الساعة الخامسة والعشرون” :

  • ” ان الوقت الذي تحرّم فيه القوانين على بني الانسان، العيش كما تحلو لهم الحياة ، قد حان..”
  • ” سنتخلى يوما عن صفاتنا الانسانية و قوانيننا الخاصة تدريجيا. اي سنتخلى عن انسانيتنا…. و ستكون دلالة هذا التخلي عن الانسانية، احتقار الكائن البشري ..
  • “ان المخلوقات البشرية مرغمة على الحياة و التصرف ، وفق قوانين و تقنية غريبة عن القوانين الانسانية …. و هذا التحول البطيء ، سيقلب الكائن الحي ، و يجعله متخليا عن احاسيسه و علاقاته الاجتماعية و يجعلها محصورة في حدود ضيقة ، واضحة ، آلية تماما ..”
  • “ان الجو الذي يعيش فيه المجتمع الحاضر، لن يستطيع الكائن البشري احتماله لانه جو مسموم .”

شرح جورجيو في روايته هذه  تصوره و رؤيته لمستقبل الانسانية و المجتمع الغربي في ظل الثورة التقنية و الصناعية  التي اندلعت في اوروبا مطلع القرن ال ١٩.

 ففي رأيه ان ” الإنسان قد اجتاز خلال حقبات التاريخ مراحل اشد ظلمة و حلكة من التي نجتازها اليوم، كان الإنسان يحرق في الساحات العامة و يحرق على المذابح و يسحق على دواليب التعذيب . و كان يباع و يعامل كالمتاع.. “

و لكن ما نحن قادمون عليه لا يقل هولا عما مضى ، فالثورة التقنية حولت المجتمع الى مجتمع تقني آلي يتسم بالضراوة و القسوة ، حيث لم يعد للانسان قيمة لان مجتمع الحضارة التقنية يناقض بقوانينه معنى الحياة و يفقدها قيمتها و عمقها التي تستمدها من فرادة الانسان و شخصانيته . فتنقلب الحياة الى جماعية و آلية  تخنق الفرد ، تحطم  الخيال و الطموح و تطفيء شعلة الحياة في الارواح و النفوس.

الاقانيم الثلاث للحضارة و التي هي الجزء الاثمن منها هي :  الانسان و الجمال و الحق . اي حب و احترام الجمال . حب و احترام الحق . و حب و احترام الانسان. وحدهم الذين يحافظون على انسانيتهم هم الناجون.

 يولد الانسان حرا ، و حقه في حياة كريمة ليس امتيازا يعطى له من احد ، لا من حكومة و لا من افراد .فمن حقه العيش الكريم في وطنه ضمن شروط توفر له احتياجاته الاساسية على الاقل . و من حقه العيش بأمان دون ان يتعرض للانتهاك او القتل او التعذيب او الاعتقال التعسفي و الحبس . و من حقه محاكمة عادلة ، و من حقه ايضا التملك و حرية التصرف في ممتلكاتهِ .

هذا الكتاب لا يناقش حقوق الفرد في حياته الخاصة ، بل يناقش آثار انتهاك حقوقه الشخصية على صحته العقلية و النفسية و الاجتماعية. هو ليس رواية للتسلية بل يجعلك تتساءل عن  مصير الانسانية و الانسان في عالم كثر الظلم و الطغيان به .  

ايوهان موريتز الفلاح الروماني المسيحي البسيط  الذي اتهم ظلما و جورا انه يهودي و سيق  الى معسكر لليهود في رومانيا ابان الحرب العالميه الثانيه ليعمل في حفر القنوات و في الاشغال الشاقة سنوات . هرب الى هنغاريا حيث اعتقل ثانية بتهمة انه روماني مسيحي و ارسل الى معسكر  للرومانيين في هنغاريا حيث عمل مع رفاقه السجناء في اقامة التحصينات العسكرية و تعرض لتعذيب و سوء معاملة لا يوصف  . بعد سنوات ارسل الى معسكر للهنغاريين في  ألمانيا  للعمل القسري في مصانعها حيث استمرت رحلة المهانة و البؤس ثلاثة عشر عاما  تحول خلالها الى انسان آلي منقطع عن التفكير و عن الاحلام .

 هكذا بكل بساطة صودرت حياة كاملة لانسان انتزع من بيته و من احضان أسرته بكل آماله و احلامه و طموحاته و رغبته بالعيش الكريم لا لسبب على الاطلاق . أحتمل اوزار الحرب الدائرة على الارض الأوروبية و دفع ثمنها هو و ملايين من الأبرياء غيره .  أصبحوا في صميم آلة  جبارة صماء تعمل بكمال يعجز عنه الانسان . و تطحن كل ما هو إنساني و متميز و متفرد و تحوله الى مخلوق مجرد من كل صفاته الشخصية التي تميزه  ليتحول الى كائن جماعي يعمل حسب قوانين الالة و المجتمع الالي الذي لا يعترف بكيانه الفردي .

 في نظر الكاتب ان مصالح المجتمع الغربي لا تتفق مع مصالح الانسان، فالانسان في نظر الحضارة الغربية يمثل فئته الاجتماعيه او السياسية التي ينتمي اليها و على هذا الاساس تتم معاملته ولا ينظر اليه كفرد. في نظره ان “البشر قد أصبحوا اقلية موثوقة الايادي مغلولة الاعناق ، و اصبح الانسان عاجزا عن مد يد العون الى اترابه لانه مربوط الى سلاسل آلية هي سلاسل البيروقراطية و هي كل ما تستطيع الحضارة الغربية تقديمه الى الانسان : الاصفاد . “

هاجم الكاتب الحضارة الغربية و المجتمع الآلي بشدة.  و قد احدث كتابه  ضجة في أوروبا  قلما أحدثها كتاب آخر ، مُنع من النشر و تُرجم الى أكثر من ٤٠ لغة و حول الى عمل سينمائي.  و كان سبب شهرة الكاتب و الروائي و الدبلوماسي الروماني قسطنطين جورجيو  الذي  ولد عام ١٩١٦في مولدافيا و توفي عام ١٩٩٢ في فرنسا التي استقر فيها بعد الحرب العالميه الثانيه

تضمن الكتاب ابيات للشاعر ت س اليوت يقول فيها :

” كل رعب يمكن ان يُعرّف . و كل حزن يبلغ نهاية ما : ليس في الحياة وقت نكرسه للاحزان الطويلة.

لكن هذا ، خارج نطاق الحياة ، خارج نطاق الزمن. خلود مستمر للشر و الطغيان . لقد تدنسنا بادران لا نعرف كيف نغسلها ، …  العالم بأسره تدنس.”  

هي رواية تصلح لكل زمان ومكان، ذلك ان الظُلم البشري مستمرٌ ويتفاقم كلّما اعتقدنا ان الانسان يتقدّم. 

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back to top button