سامي كليب:
بقميص قطني أزرق وأبيض وبنطلون جينز وابتسامة مرحّبة، استقبلني رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في غرفة أنيقة من منزله تعلو حيطانها لوحات جميلة الألوان، ويفترشُ أرضَها، الرُخامُ الأبيض وتعكس بأناقتها وترتيب أثاثها الرمادي والأبيض راحة نفسية للزائر وذوقا رفيعا من سيدة المنزل . هو منزله في المنطقة الخضراء يسكنه منذ زمن وليس بعد أن صار رئيسا للحكومة. لعلّه أراد في ملبوسه هذا التفلّت من رسميات كثيرة أثقلت كاهله في خلال تنظيم وعقد مؤتمر بغداد للشراكة والحوار.
نجاح المؤتمر يُعتبر أهم إنجازات الكاظمي في السياسة الخارجية بعد نجاحه في جمع السعودية وإيران مرتين قبل القمة ومرة في خلالها وربما ينجح قريبا بتنظيم لقاء رفيع بين سورية وتركيا.
لم يكن أحد يعتقد أو يأمل قبل سنوات قليلة لا بل قبل سنتين فقط أن بغداد التي تمزّق جسدها الحاضن عشرات الحضارات البشرية بالقذائف والهجمات الانتحارية ، ستنجح في الانتقال من مسرح لصراع وتذابح المحاور ولفتكِ الإرهاب إلى ساحة للقاء والحوار بين دول منقسمة على بعضها ومتوزّعة على المحاور
حين قلت له إن هذا النجاح يكفيك حتى لو لم تنجز غيره قبل انتهاء ولايتك، أخبرني عن مجموعة أخرى من المشاريع والخطط الداخلية الاقتصادية التي وفّرت على الدولة مليارات الدولارات. لم أشا في الواقع التوقف كثيرا عن ذلك، فقد كنت راغبا باستغلال اللقاء للحديث عن المحاور التي تؤثر على العراق ولبنان وسوريا ، ووددت معرفة ماذا يعيق الحل في لبنان ولماذا لم يصل الغاز العراقي حتى الساعة.
أشعرني السيد الكاظمي منذ اللحظات الأولى أني امام صديق أعرفه منذ سنوات، لا تكلّف ولا رسميات، فذهب الحوار معه في اتجاهات عديدة وامتد على اكثر من ساعتين، وقيل فيه بعض المعلومات والاسرار القيّمة لكن أمانةَ المجالس تقتضي بالحفاظ عليها، وشعرت أيضا أنه يتمتع بذكاء لافت وحيوية ظاهرة وسعة إطلاع سياسي وأمني تمتد جذورها إلى عمله السابق في الإعلام والاستخبارات والى شبكة علاقاته الواسعة شرقا وغربا.
قلت لمضيفي المستمع الجيد بقدر ما هو متحدث صريح: الآن وقد نجحتَ في جمع إيران و السعودية على أرض العراق ونجحتَ في عقد قمة الاضداد، واقنعتهم بالتحاور والشراكة، لماذا لا تكمل جهودك صوب لبنان وسوريا؟ لماذا لا تكون بغداد ثالث محطات الانقاذ اللبنانية بعد اتفاقي الطائف والدوحة، فللعراق مودة وقبول عند كل اللبنانيين ولكم في العراق اهتمام ومحبة لبلادنا.
قال : ” والله يا اخي سامي إني حاملٌ في قلبي هموم لبنان وشجونه كما احمل هم وطني وقد كنّا في العراق من اوائل المبادرين إلى إرسال المساعدات الطبية والغذائية والنفطية قبل انفجار المرفأ، ثم سهّلت إلى أقصى درجة قبل فترة إرسال نفط عراقي لتلبية حاجات الناس، ولو رأيتم في لبنان أني أستطيع القيام بأي أمر آخر لتخفيف الأزمة فستجدون عندنا جميعا وعند كل عراقي استعدادا للوقوف إلى جانبكم، فلبنان في قلوبنا جميعا ”
وأضاف :” بالفعل نحن نفكر بالمساهمة في تسهيل الحل السياسي وإنقاذ لبنان، وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جالسا هنا على هذه الكنَبة مكانك قبل أيام وبحثنا أفكارا كثيرة لكن ثمة عقبات لا بد من حلها”
لم يشأ الرئيس الكاظمي الإفصاح عن هذه العقبات، لكن دبلوماسيا عربيا في بغداد واسع العلاقات والاطلاع قال لي إن السعودية غير متحمسة لعقد مؤتمر حاليا بشأن لبنان، وادركتُ في خلال زيارتي الى بغداد أن النفط العراقي كان سيتدفق أكثر الى لبنان لولا الأخطاء الكثيرة التي حصلت من الجانب اللبناني، والمماطلة وسوء الإدارة، وعلى الأرجح السمسرات. فمصرُ كانت قادرة على إيصال النفط العراقي بعد تكريره بتكاليف أقل، لكن بيروت شاءت خيارا آخر، لا يمكن فهمه وتفسيره الاّ بمصالح خاصة، وليس بمصلحة الوطن.
أما بشأن سوريا، فقد سألت السيد الكاظمي عن حقيقة ما يقال عن قرب عقد لقاء تركي سوري على أراضي العراق وعن تغييرات إيجابية في موقفي الرياض وباريس حيال سوريا فلم ينفِ ذلك لكنه آثر عدم إعطاء أي تفاصيل وقال :” ما هو البديل عن الرئيس بشار الأسد اليوم، ؟ تنظيمات إرهابية؟ أعتقد أن الجميع صار امام أمر واقع وبدأ التعامل مع هذا الأمر “
كان رئيس الوزراء العراقي يستفيض في شرح الأبعاد الاستراتيجية لواقع العالم العربي اليوم وضرورة النهضة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية وأهمية التعاون بين دول المنطقة بدلا من الحروب غير ذات الجدوى، وذلك حين قدّم لنا النادل في بيته أكوابا زجاجية من العصير طويلة ورفيعة تشبه أقداح الشامبانيا في الغرب، وإلى جانبها قطعا صغيرة من الحلوى الغربية الأنيقة.
لعل أناقة المكان والضيافة دفعاني لسؤاله عن ميوله السياسية الحقيقة وارتباطاته الغربية حيث يتهمه البعض بأنه قريب من الأميركيين وأنه لولا الدعم الاستخباري الاميركي لما وصل إلى هذا المنصب، يضحك الكاظمي، ويسوّي ياقة قميصه المهفهف، ويقول :” ليقولوا يا اخي سامي ما يريدون قوله، لكني اعتقلت سابقا هنا من قبل الاميركيين( أثناء اعتقال الجلبي) وانا كنت وما زلت مؤمنا بعدالة القضية الفلسطينية وبسيادة العراق” وقد أخبرني قصصاً حصلت معه، تمنيّت لو يكتبها يوما، لأنها لو نُشرت سوف تفاجئ كثيرين.
من غير المعروف بعد اذا ما كانت القوى السياسية ستعيد الاتفاق على اسم الكاظمي بعد الانتخابات، فالشكوك كثيرة حول هذا الأمر، والرجل له خصوم كثيرون ولعله ساهم في تقليم أظافر كثيرين، وهو يرفع شعار الحياد والابتعاد عن المحاور، لكن عارفيه يقولون إن علاقاته جيدة مع جميع المحاور والاّ لما نجح في عقد القمة وإجلاس الإيراني قرب السعودي والاماراتي والكويتي والفرنسي والقطري وغيرهم.
سألته بعد حديثنا الطويل والعميق والشيّق، ماذا سيفعل إن لم يعد رئيسا للحكومة، فسارع إلى القول:” مركز دراسات”. يبدو أن مهنته الأولى في الاعلام ما زالت تستهويه، أو لعله لكثرة ما رأى من ويلات السياسة سيذهب الى الجهة الأخرى. لكن الأمل لم ينقطع تماما باحتمال عودته، فتقاطع علاقاته ونجاحه في جمع الاضداد على أرض العراق، ساهما في بناء جسور مهمة يحتاجها العراق اليوم، وربما تحتاجها قوى سياسية في الداخل.
للرجل نجاحات وإخفاقات، وله صداقات وخصومات كما كل رئيس حكومة في العالم، لكن الأكيد أن كل الإقليم سيحفظ له أنه نجح في جمع كل الاضداد الاقليميين وجعل مع رئيس الجمهورية المثقف والهادئ برهم صالح ورفاقهما في السلطة الحالية، بغدادَ محطة لقاء وحوار وشراكة بدلا من ساحة الحروب والإرهاب والتفجيرات والدماء والدموع. علّه يستطيع أن يفعل شيئا إضافيا للبنان وسورية قبل أن يغادر الحكومة الحالية.