سامي كليب
كلاهُما قدّم حياتَه على طريق القُدس، وكلاهُما ناصر الشعب الذي يُباد حتى الرمق الأخير، وكلاهُما تحدّى إبادةَ إسرائيل وغطرسة داعميها في لحظة موت الضمير العالمي، وكلاهُما آمن بما يفعل من منطلق دينيّ تقدّم على السياسي، واعتقدا بأن هذا الزمن سيشهدُ نهايةَ إسرائيل. لكن القائدين الفلسطيني واللُبناني اللذين تآخيا بالدمِ والقضيّة، كانا ضحيّة المصالح والاستراتيجيات الاقليميّة والعالمية، ولم يُحسِنا قراءةَ الصورة كاملةً قبل أن يُصبحا صورةً راسخة في قلوب محبّيهما، وسببًا في التدمير الكبير وفق خصومِهما وأعدائهما وبعض الأمة التي انتميا إليها.
لقائي مع نصرالله
حين أجريتُ لقاءَ الساعات الثلاث قبل سنوات قليلة مع أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، سألتُه بعد اللقاء :” علامَ تستند يا سيّد حسن، في وعدِك الناسَ بالدخول إلى الجليل، والوصول إلى حيفا وما بعد حيفا”، ابتسم، ومرّر يدَه على لحيتِه البيضاء، وقال بهدوء ويقينٍ واضحَين:” نعتمد أولاً على إيمانِنا بأن الله ناصرُنا، ثم على التدريب والتقنيات والأسلحة، وعلى قدرتنا على معرفة ما يدور عند العدو، فسابِقًا كان العربُ عُميانًا تكنولوجيًّا واستخباريًّا، ما سمح للكيان بأن يعرفَ عنهم كلَّ شيء، وهم لا يعرفون شيئًا، نحن صرنا قادرين على معرفة متى تتحرّك دبابةٌ وإلى أين ستذهب، وكيف يُفكّر العدو، وماذا يُريد”.
سألتُه:” وهل هذا يكفي يا سيّد”؟
فأجاب:” هناك أيضًا المسألة الإيمانيّة، فنحن نؤمن كمسلمين، تمامًا كما يؤمن اليهود والمسحيون، بأنّ هذا الزمن هو تاريخ نهاية إسرائيل، وإن شاءالله سيكون الأمر على أيادي المقاومين”
قلت: وهل هذا الزمن هو زمنُنا الحالي، أم زمن أحفادنا.
سوّى السيّد نصرالله عمامَتَه السوداء، ردَّها قليلاً إلى الخف، فظهرت أكثر خصلةُ شعره على جبينه، وقال:” إن شاء الله على أيامِنا”، وابتسم.
لم يكن هذا غريبًا على الرجل، ذلك أن عارفيه عن قُرب يُدركون أنّه كان قريبًا من الفكر الصوفي ومؤمنًا بالغيبيّات والقدر إلى أبعد الحدود، ألم يقل يومًا إن إسرائيل لن تقتله وإنه سيعيش طويلاً؟
بدا لي السيد حسن في ذاك اللقاء، ودودًا وحازمًا، عميق الإيمان بما يقول، يكاد يوحي بالخجل حين يتحدّث عمّا يخصّه، وباعتزاز كبير في ما يتعلّق برجال الحزب وقدراتِه.
بعد اندلاع مفاجأة طوفان الأقصى التي شغلت العالم، واحتلّت كل الفضائيات، سعيتُ جاهدًا لمعرفة الأسباب الحقيقيّة لهذا الهجوم العسكريّ على غلاف غزّة، وكيف نجحت حماس وبعض الفصائل والناس في اقتحام منطقةٍ شديدة الحراسة والمراقبة، وكيف تم قتل كثيرين وأسر قسم كبير من الجيش المُرابض هُناك.
اعتقدت كالكثيرين غيري، أن مثلّ هذا العمل الضخم، لا يُمكن أن يتمّ بلا تنسيقٍ دقيق مع أمين عام حزب الله ومن خلاله مع إيران. لكني بعد أيامٍ قليلة وفي خلال مأتم ابن الحاج محمّد رعد رئيسِ كتلةِ الوفاء للمقاومة، فهمتُ من بعض مسؤولي الحزب، أنّهم ما كانوا على عِلم بما حصل، حتّى لو أنَّ فكرةَ مهاجمةِ الغلاف كانت واردة، وأنّهم فوجئوا كما بقية العالم. لا بل حين جاءهم مسؤولٌ من حماس يطلب فتحَ الجبهة، كان جوابُ الحزب، إن الأمرَ بحاجةٍ لدراسةٍ ووقتٍ لتحضير الجبهة وحمايةِ السكّان خصوصًا في القرى الأماميّة المُحاذية لفلسطين.
هل غيّر الحزب مصير غزّة؟
مع ذلك، فتح الحزبُ جبهةَ إسناد، وشاغل جيشَ الاحتلال، وهجّر سكان مستعمرات الشمال، وأجبر بعض الألوية الإسرائيلية على الانتقال إلى الشمال وتخفيف العبء عن غزّة. لكنّ كلّ التضحيات التي قدّمها من رجاله وخيرة شبابه، لم تغيّر الاستراتيجيا الإسرائيلية الكُبرى بتدمير غزّة وتهجير أهلها وتقطيع أوصالها، فأثار الأمر أسئلة كثيرة، حتّى داخل بيئة الحزب، عن الجدوى الحقيقية لهذه المُساندة، فيما بعضُ العرب يتمنّى أن تقضي إسرائيل على حماس والحزب معًا.
سيبقى هذا النقاش مفتوحًا لزمنٍ طويل، وقد لا يُحسم. لكن الأكيد أن فتح جبهة الاسناد، سمح لجيش الاحتلال، بقتل أمين عام الحزب، ومجموعة من قادة فرقة الرضوان، وتفجير أجهزة البيجر، واستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قادةٍ عسكريّين وأمنيين من مراتب عُليا، وتهجير نحو مليونٍ ونصف المليون من الجنوب والبقاع والضاحية التي تُدمّر يوميًّا كما قرى كاملة في الجنوب تحت شعار ” عقيدة الضاحية” الإسرائيلية التي توصي بالقضاء الكامل على كلّ مَن وما يقف في الطريق.
قدّم الحزبُ إذًا في عام كامل جوهرةَ تاجه. فنصرالله لم يكن قائدًا عاديًّا، وما خشيت إسرائيلُ رجُلاً كما كانت تخشاه، وتُصدّق كلّ ما يتوعّد به. وهو رفع الحزب الى مرتبة عسكريّة وسياسيّة كُبرى بفضل قدراتِه وكاريزماتيتِه وإيمانه وامكانياته الخطابية، بغض النظر عن الانقسام اللُبناني والعربي الكبير حول شخصه ودوره وحزبه خصوصًا بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والانخراط في الحرب السوريّة وموقفه من انتفاضة الناس في لُبنان في العام 2019.
هل أخطأ السنوار ونصرالله بقراءة المتغيّرات؟
السؤال المفصليّ اليوم، بعد أن نجحت إسرائيل في توجيه ضرباتٍ قاصمة لقيادتي حماس وحزب الله دون أن تشلّ القدرات القتالية والصاروخيّة عند الحزب ودون أن توقف بعدُ جيوبَ المقاومة في غزّة، هل قرأ نصرالله والسنوار السياسةَ الدوليّة والاسرائيليّة جيّدًا، أم أنَّ السنوار غامر، ونصرالله التحق قسرًّا بالمغامرة دون حسابِ النتائج؟
السؤال يُطرح في غزّة أولاً لانّه بعد الطوفان تبيّن أن لا استراتيجيات ولا استعدادات لحماية الناس. وهذا ما يقود إلى خلاصةٍ مفادُها، أن لا إسرائيل التي رُبما كانت تنتظر الطوفان توقّعت حجمَه، ولا حماس ظنّت أنها ستنجح بهذا الاختراق الكبير، ولعلّ السنوار كان مؤمنًا ومقتنعًا بأن مجرّدَ أسرِ قسمٍ من الضباط والجنود، ستُسارع إسرائيل لمفاوضته وإطلاق سراح رفاقه الأسرى الذين أمضى معَ قسمٍ منهم أكثرَ من ربعِ قرن من حياته في معتقلات عدّوه.
صحيح أنَّ الطوفان أعادَ طرح القضية الفلسطينية عالميًّا بعد أن كادت تُقتل، لكن ماذا عن المُستقبل، هل سيُساهم الطوفان في صحوة ضميرٍ عالمية، ويُساهم في إقامة دولةٍ فلسطينيّة، أم أنّه ساهم في قضم جزء إضافيّ من غزة وفلسطين؟ لننتظر ونرَ، حتّى ولو أنَّ السبب الأسس في كل ما جرى هو الاحتلال وويلاتُه منذ خمسة وسبعين عامًا.
أما السيد نصرالله، فثمة احتمالان لا ثالث لهما بشأن الخطأ الاستراتيجي الذي أدى الى استشهادِه. فإما أنّه كان مؤمنًا فعلاً في ما يقول عن ضعف إسرائيل وعدم قدرة جيشِها على شن حربٍ أخرى على لُبنان بعد عام من قتال هذا الجيش في غزّة ومؤمنًا بالقدرات العالية لحزبه، ولم يحسِب أن كلّ دول الأطلسي بكلّ قدراتها العسكرية وخزائنِها الماليّة وتقنياتِها التكنولوجية والتجسّسية، ستأتي لنجدة إسرائيل، أو أنّه كان مُستندًا الى وعودٍ إيرانية بأنّ التفاوضَ مع واشنطن قطع مرحلة متقدّمة، وأن إدارة بايدن المُحتاجة لدورٍ إيرانيّ، ستلجِم نتنياهو عن المضي في مغامرته.
هذا الاحتمال الثاني، يستند في الواقع إلى كل خطابات نصرالله التي سبقت الهجمات الإسرائيلية الكُبرى، فهو لطالما أكد أنّ إسرائيل لن تجرؤَ على فتح جبهة لُبنان، وراح يدعو أهلَ الضاحية للعودة إلى منازلِهم، وراح جمهور الحزب يُهاجم على وسائل التواصل الاجتماعي كلّ من كان يقول إن الحرب قادمة ( وأنا منهم)، ويعتبر أن السيد يعرف أكثر ممّا يعرفُه أي شخصٍ آخر.
أين إيران؟
وأما السؤال المفصلي الكبير، فهو حول إيران، فالدولة التي ساندت المحور بالسلاح والمال والموقف، بدت منذ بداية الطوفان متأرجحة، بل قُل متردّدة، بين وعود بالانتقام وتوسيع الحرب، وبين سعي تفاوضي وكلامٍ دبلوماسي، جعل حتى بيئة الحزب تشعُر بأن طهران لن تُقدِم على شيء مُباشر الاّ إذا تعرّضت مباشرة للهجوم.
كان لافتًا أن خطابات نصرالله حيال أميركا وبعض الدول العربية، كانت مرارًا أعلى بكثير من الخطاب الإيراني، حتّى بعد ان عقدت طهران والرياض اتفاقَهما التاريخي في الصين.
إن سؤال إيران والاستراتيجيات الكُبرى، قاد البعضَ الى القول بأن قتلَ نصرالله والسنوار يُشبه استشهادَ المُجاهد الفلسطيني الكبير عبد القادر الحُسيني الذي قدّم حياته في معركة القسطل وهو يُناشد جيش الإنقاذ والاشقاء بنجدة القُدس.. ويُشبه كذلك استشهاد قائد الحركة الوطنية اللُبنانية كمال جنبلاط الذي اعتقد أن العالمَ سيهبُ لنجدة لُبنان، ولم يُدرك حجم الخطة الجهنميّة التي كان يقودها هنري كيسنجر بين مصر أنور السادات وسورية حافظ الأسد في سياسة الخطوة خطوة التي كان من أهدافِها منعُ لُبنان من الانتقال الى الحضن السوفياتي، ووضعُ حدٍ لانتشار اليسار اللُبناني، والقضاء على منظمة التحرير، وتمهيد الطريق لعمليات سلام تُكمل كامب دافيد.
نصح الأسد جنبلاط آنذاك بوقف الحرب، لانّ استمرارَها سيرمي اليمن المسيحي في أحضان إسرائيل، فتصلّب القائد اللُبناني بموقفه، مُحذّرًا الأسد من دعم من كان يصفهم ب” الانعزاليّين”. فكان الصدام والاغتيال. آنذاك كانت الاستراتيجيات الكُبرى في المنطقة، أعمق من مباديء جنبلاط، وأشد خطورة على أحلام الحركة الوطنية وبرنامجها المرحليّ. استطاع الأسد المزاوجة بين الحليف السوفياتي والتفاوض مع الأميركي وقطف ثمار ذلك على حساب لبنان الذي اُخضع أميركيًّا وعربيًّا له.
لا شك في أن نصرالله كان يُدرك أنّ أميركا تقود مشروعًا كبيرا ليس لمساندة إسرائيل فحسب، بل لتغيير وجه المنطقة، وأدرك أنّ الاتفاقات الابراهيمية لن تترك مجالاً واسعا للمناورة ، وأراد مواجهة ذلك كي لا تصل الحرب الى لُبنان وإيران بعد غزّة وكي لا تمر الاتفاقات الابراهيمية على حساب استراتيجيته ومصالح حزبه ومصالح إيران، لكن هذا كان يفترض موقفًا دوليًّا حازما ومساندا عسكريًّا وسياسيًّا من روسيا والصين وإيران لمواجهة الأطلسي.. وهذا لم يحصُل لأسباب عديدة… وهذا ما أكد مرّة جديدة أن مصالحَ الدول لا تأبه بالمباديء ولا بقهر الشعوب.
إن شعار وحدة الساحات كشف حدودَ المساندة الإيرانية، وجعل قادة المحور مكشوفين، وسمح لإسرائيل بالزهو بقدراتها التكنولوجية والاستخبارية، وأظهر تفوق المحور الأطلسي الداعم لإسرائيل، لكنه أثبت بالمقابل، أنّ إجرام الإسرائيلي لا حدود له، وأنّ قناعات أبناء الأرض بمقاومة المُحتل لا حدود لها…..
وهذا ما يفترض طرحَ السؤال الأخير، هل ثمة جدوى من استمرار الحرب بعد، وهل يُمكن تغييرَ المعادلات في الحرب البريّة في الجنوب، أم من الأفضل القبول بوقف إطلاق النار والتفاوض شرط توسيع دائرة المشرفين على التفاوض لتشمل دولاً عربية وإيران وتركيا وروسيا والصين إلى جانب الأطلسي بعد انقشاع ضباب الانتخابات الأميركية.
جنوبُ لُبنان، مستقبل نتنياهو
لا شكّ في أنّ معركة البر في جنوب لُبنان، ستُحدد، هل يخرج نتنياهو مُعلنا النصر فوق الدمار والدماء والدموع والإبادة، أم يُضطر للقبول هو الآخر بالتفاوض ، فالحور المواجه لإسرائيل بحاجة لتحقيق إنجازٍ عسكريّ كبير يوازي ما تعرّض له ولذلك سيسعى المحور للقضاء على نتنياهو شخصيًّا أو أحد كبار رموز حكومته ، ونتنياهو الذي استعاد شعبية جيدة، قد يجد الفُرصة مؤاتية لاكمال الطريق صوب إيران، ما لم تتوقف مغامرته في الجنوب… لننتظر ونر